تقول القاعدة أن ما يحول بينك وبين “التحكم” بأيّ شيء هو مقدار ما تعرفه من معلومات عنه، فما لا تعرف عنه شيء لا تستطيع التحكم به، الآن، وبعد الوصول ل”رقاقة الدماغ” أو شريحة نيورالينك Neuralink، تستطيع الحكومات والشركات الكبرى مراقبة الأفراد عن بُعد والحصول على كل المعلومات والبيانات الخاصة بهم، ابتسم عزيزي القاريء ..انتهت حلول مخبر الشرطة ذو البالطو الطويل والجريدة “المثقوبة”، الأمر الآن متروك لل”نيورالينك”!، مش هاتصدق نفسك عزيزي المواطن أنه عصر”الرقاقة الإليكترونية للرقابة الحكومية على المواطنين”.
في البداية دعني أستعرض معك سريعًا ما هي الشريحة الإليكترونية أو رقاقة الدماغ نيورالينك، في الثامن والعشرون من أغسطس 2020 عرض إيلون ماسك Elon Musk الرئيس التنفيذي لشركة Tesla، رقاقة إليكترونية يتم زرعها في الدماغ يمكنها التحكم ومراقبة أكثر من 1000 خلية عصبية، وفقًا لماسك ستسمح الشريحة الإليكترونية للناس بالتحكم في جهاز الكمبيوتر الخاص بهم والأجهزة المنزلية الأخرى بسهولة، فلا مزيد من “Alexa اضبط المنبه على ميعاد محاضرة الباطنة …” ، أو “Hey Google أخبرني بطريقة التوقف عن التفكير في الإكس.
حقيقةً منذ عام 2012 تمكّن العلماء من ابتكار رقاقات وأجهزة قادرة على تفسير نشاط الدماغ وتحفيز الخلايا العصبية عبر رقاقات تزرع خلف الأذن، وعلاج الحالات العصبية مثل مرض باركنسون (الشلل الرعاش) وتحريك الأطراف الصناعية وغيره، ما عليك عزيزي القاريء سوى التفكير في الأمر وسيحدث، فهو عصر “إنترنت الأشياء” حيث تكون واحدًا مع الأشياء من حولك، وعلى الرغم من أن هذه الابتكارات رائدة ومثيرة ولها إمكانيات علاجية واضحة كعلاج الإدمان والاكتئاب والتحكم فيما نفكر أو نشعر به، نحن قادمون على عالم جديد فنبوءة فيلم “الليمبي 8 جيجا” تتحقق، فكرة الفيلم القائمة على استبدال ـأماكن تخزين المعلومات في المخ بشريحة إليكترونية، يتم اختراعها من قِبل عالم مهووس، يتحول معها بطل الفيلم المحامي البسيط لإنسان خارق، وبفضل الشريحة الإليكترونية يتم تحميل كل الملفات والبيانات والمعلومات ليصبح المخ أشبه بالكمبيوتر، بل و”يهنّج” ويتعطل عمل الشريحة ليفشل المحامي ويقرر الاعتماد على نفسه بدون شريحة للنجاح مرة أخرى، إلاّ أن إيلون ماسك يطمح في الدمج الهجين المستقبلي بين الذكاء الإصطناعي ودماغ الإنسان، وتسهيل التعايش بين البشر والتكنولوجيا كما أعلن عن ذلك.
وعلى الرغم من ترقب البعض في المجتمع العلمي لوعود الشركة وتطلعات ماسك بحذر، خوفًا من أنها قد تدفع الأشخاص المصابين للتعلق بأمل زائف في مجتمع المرض خاصة مع عدم وجود جداول زمنية محددة، حيث يمكن أن يكون خلق الأمل أمرًا سلبيًا مع الوعود الكبيرة لمصابي الشلل أو إعادة البصر للمكفوفين وغيره، إلاّ أن ما يعنيني هنا هو التخوف من أن نصبح “مبرمجين كليًا”، فبالنظر إلى تسارع التطور بين انترنت الأشياء والذكاء الإصطناعي يصبح طموح ماسك المفرط في ربطنا بالتكنولوجيا أمرًا مخيفًا، إننا بالفعل “مبرمجين جزئيًا” مع اعتمادنا الشامل على هواتفنا وحواسيبنا الشخصية، الاختلاف الوحيد بين طموح ماسك والحالة الحالية لدمج الذكاء الإصطناعي هو أن “معدل سرعة البيانات” بيننا وبين الأجهزة الإليكترونية في الوقت الحالي بطيء للغاية، السؤال الآن هل تمثل شريحة الدماغ منعطفًا هامًا في تاريخ المراقبة الحكومية ومراقبة الشركات للمواطنين؟، هل ستؤدي الرقاقة إلى تطبيع نشر أدوات المراقبة الجماعية بين المواطنين؟ هل يمثل طموح ماسك اختراق بيولوجي لجسم الإنسان وتحول المراقبة من مرحلة “المراقبة فوق الجلد” إلى “المراقبة من تحت الجلد”؟.
مخاوف رقابة الأخ الأكبر
عند البحث عن نتائج المراقبة الحكومية باستخدام الذكاء الإصطناعي على الانترنت، فليس من المستغرب أن تظهر الصين في مقدمة النتائج، فالصين تتعامل مع الذكاء الإصطناعي في الرقابة الحكومية بطريقة استباقية عن باقي الدول، تتجاوز في ذلك الدول الغربية، وهي تجني فوائد ذلك اقتصاديًا وسياسيًا، فالفجوة بينها وبين الدول الغربية في مجال الرقابة الحكومية الذكية استطاعت أن تحقق بها السيطرة الشاملة على الانترنت في البلاد، مراقبة الفيديو هي الاستخدام الأكثر شيوعًا والأكثر شهرة للمراقبة الحكومية القائمة على الذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك من خلال الدوائر التلفزيونية المغلقة، أو الطائرات بدون طيار، حيث يعتقد الكثير من المواطنين أن شخصًا ما يشاهده في جميع الأوقات، خاصة في الأماكن العامة والمناطق الحيوية مثل المطارات، على سبيل المثال، في الفترة التي سبقت أولمبياد 2008 أعلنت حكومة (شي) أنها تمتلك بيانات شخصية حساسة يمكن أن تستخدم في أي ترتيبات طارئة أو ضد أي أعمال تخربية يقوم بها الأفراد، فضلاً عن الملايين من كاميرات المراقبة في الأماكن العامة وتغطية كاملة للفيديو لجميع المناطق[1]، وكأن رواية جورج أورويل (1984) تبثّ مباشرة من الصين، وسواء كان هذا صحيحًا أم لا، يبدو أن الصين تتعامل مع التأثير “التخريبي” أو الجانب المظلم لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
في سبتمر 2018 قدمت مجلة أتلانتك The Atlantic مقالاً يصف سبب حصولك على رقاقة مغروسة في جسدك، شرح المقال كيفية تحول هوس التكنولوجيا إلى أسباب منطقية للحصول على الرقاقة الخاصة بك، منها تتبع الإشارات الحيوية الحيًة لمرتديها، حيث سيتم تشغيلها بواسطة درجة حرارة الجسم وتخزين بيانات الأفراد، بالإضافة إلى ربطها بأنظمة التشغيل الآلي للمنزل وتشغيل السيارات عن بعد، والحصول على مسحات ضوئية داخل المطارات والهيئات الحكومية دون الحاجة لاستخراج جواز سفر أو رخصة قيادة، وهي استخدامات تطرح فوائد واضحة ومخاوف مشروعة، وفي مقال آخر في صحيفة الجارديان البريطانية بعنوان “زرع شرائح ميكروبية لموظفي المملكة المتحدة للرقابة على المحادثات”، تناول القلق الذي تشعر به النقابات العمالية من الإفراط في استخدام التكنولوجيا للسيطرة على الناس[2]، وهو ما يوضح أن موضوع الخصوصية سيظل أكثر الموضوعات إثارةً للجدل بالنسبة للرقاقات المزروعة، المخاوف المشروعة هنا لا تتعلق فقط بالخصوصية بقدر ما تتعلق بالسيطرة والتحكم، وبناء نظام رقمي للرقابة الاجتماعية، وتهديدات الأمن السيبراني ومخاوف أخرى قد تفتح تلك الرقاقات الباب أمامها لطريق طويل من اختراق الحياة الشخصية واستغلال البيانات لصالح الأنظمة والشركات الكبرى.
السعي لرقابة حكومية طوعيّة
لا يعني ما سبق أن الرقابة الحكومية الذكية دائمًا أمر سيئ، لكن كما هو الحال مع معظم التقنيات، فإن للذكاء الاصطناعي إيجابياته وسلبياته، ومع التطبيق الصحيح، يمكن القول بأن الفوائد عديدة كمنع الجريمة، ومواجهة الأوبئة، على سبيل المثال لأول مرة في تاريخ البشرية تتيح تكنولوجيا الذكاء الإصطناعي مراقبة الجميع طوال الوقت عبر رقاقات تحت الجلد والاستفادة من تطبيقات الهواتف الذكية للأشخاص وملايين كاميرات المراقبة للتعرف على الوجوه وإلزام الناس بفحص درجة حرارة أجسادهم ومتابعة حالتهم الطبية والإبلاغ عن حالات الحمى وتحديد حاملي فيروس كورونا بل وتحديد آخر المخالطين له وتتبعهم، وهو ما يمكّن الحكومات من السيطرة على انتشار المرض خلال أيام، يبدو الأمر رائعًا أليس كذلك؟!، لكن هل فكرت عزيزي القاريء في الجانب المظلم من تلك التكنولوجيا؟ هل تعطي تلك الرقاقة الشرعية لنظام رقابي جديد والأهم من ذلك هل ستبقى طوعيّة؟!.
إساءة الاستخدام مصدر قلق حقيقي فالتخوف الأكبر إذا انفرط الأمر، بمعنى تستطيع الحكومات والشركات أن تعرف بالضبط ما ينقر عليه إصبعك، درجة حرارة جسمك، ضغط الدم الخاص بك، مستوى السكر في دمك، فعلى سبيل المثال تخيّل معي أن تطلب حكومة افتراضية من مواطنيها وضع الشريحة البيولوجية داخلهم، لمراقبة سرعة نبضات القلب ودرجة حرارة الجسم على مدى 24 ساعة في اليوم وتخزين البيانات الناتجة وتحليلها ستعرف الحكومة وقتها أنك مريض حتى قبل أن تدرك أنت ذلك، وستعرف من أين أتت العدوى، وستعرف كذلك اتجاهاتك وآرائك السياسية وربما حتى شخصيتك؛ فإذا كان بالإمكان مراقبة الإشارات الحيوية داخل جسدك أثناء مشاهدة مقطع فيديو ستتمكن الحكومة من معرفة ما الذي يضحكك أو يبكيك، ما الذي يبهجك أويحزنك، وبالتالي التعرف على المواطنين بصورة أفضل والتنبوء بمشاعرهم وأى أفكار تدور داخل تفكيرهم، ستجعلهم المراقبة الحكومية تحت الميكروسكوب بالمعنى الحرفي، أستطيع تخيل مواطن عام 2030 يستمع إلى خطاب القائد الأعظم لكوريا الشمالية وألتقطت عليه علامات الغضب أو السخرية سيكون هذا المواطن في عداد الأموات خلال دقائق.
أخيرًا، إن عصر المعلومات قد عرّض الخصوصية والأمن للخطر على نطاق واسع، فعلى الرغم من أن الرقابة الحكومية تجعل موضوع اختراق الخصوصية يلوح في الأفق، إلا أنها قد لا تكون المشكلة الأسوأ، فعندما يفاضل الناس بين قضية الصحة أو الخصوصية، فإنهم غالبًا سيختارون الصحة، في الواقع وضع المواطنين بين اختيار الصحة والخصوصية أو الأمن والخصوصية هو في حد ذاته المشكلة، ستظل الأسئلة مطروحة حول ما إذا كانت هذه الفوائد الكبيرة للرقاقة المزروعة تستحق تنحية الخصوصية والأمان والمخاطر الأخرى، أتوقع بأن تصبح هذه الأسئلة المتعلقة بزرع الرقائق بأشكالها المختلفة من أهم اهتمامات التكنولوجيا والخصوصية والأمان في عشرينيات القرن الحالي، وستصبح موضوعًا مثيرًا للجدل في العقود القليلة القادمة، نظرًا لأن وجهات النظر حول هذا الموضوع لا تتخطى الفجوة النموذجية المعتادة بين اليسار واليمين، فإن قرارك الشخصي بشأن تلقي غرس رقاقة قد يكون له علاقة أكبر بثقتك في طبيبك أو صاحب العمل أو حكومتك أو شركة التكنولوجيا التي تقدم الإجابات، أو حتى معتقداتك الدينية، أو الانتماء الحزبي السياسي.
هناك سبب وجيه للقلق من أن أباطرة التكنولوجيا الحاليين الذين يقودون الطريق سيصبحون المتحكمين الأساسين في العالم، فمع الخطوات الهائلة في النقل المستدام التي حققتها شركة (Tesla)، والتقدم المستمر لـشركة (SpaceX) في رحلتها الطموحة لاستعمار المريخ، بل إذا كان البشر سيذهبون إلى أبعد من ذلك، قد يجعل هذا من إيلون ماسك مالك الشركتين بطموحه التكنولوجي أحد المتحكمين في العالم، هناك قلق كبير بالفعل من أن “الأتمتة” السريعة في الترابط بين البشر نتيجة ربط تطبيقات الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي قد يغير البشرية وهو أمر هائل ومن المحتمل أن يكون ضارًا بالصحة النفسية للبشر، ففي نهاية المطاف لابد من اتباع النهج الأكثر حذرًا تجاه الذكاء الاصطناعي، هناك العديد من الأشياء التى يمكن لتكنولوجيا الذكاء الإصطناعي بها تحسين حياة الإنسان، دون الاضطرار إلى أن تتولى السيطرة على أمورنا شيئًا فشيئًا، ناهيك عن أن وقف انتشار الأوبئة أو مواجهة الإرهاب ليس فقط مسؤلية الأنظمة والحكومات، المراقبة المركزية والعقوبات القاسية ليست هي الطريق لجعل الناس يمتثلون للإرشادات والقوانين الحكومية أو الطبية، ولتحقيق هذا المستوى من الامتثال الطوعي يحتاج الناس إلى الثقة في العلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام والنخب، وإخبار الناس بالحقائق العلمية وزيادة مستوى الثقة الحكومية هو ما يمكّن المواطنين من الإلتزام بفعل الشيء الصحيح دون (رقابة الأخ الأكبر)، فبدلاً من بناء نظام مراقبة بيولوجي لم يفت الأوان بعد لإعادة بناء ثقة الناس في العلوم والأنظمة الحكومية والطبية وتحميل الحكومة مسؤليتها عن قراراتها مع الاستفادة من التكنولوجيا الجديدة من أجل اتخاذ قرارات شخصية أكثر استنارة وبعيدًا عن المراقبة من تحت الجلد.
[1] https://harvardmagazine.com/2017/01/the-watchers
[2] https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2020/09/china-ai-surveillan