في فيلمه الأخير “Tenet” يبدو السيد “نولان” مدفوعا لإحداث حالة جدل واسع حول العمل، ربما كان الهدف منها إعادة الحيوية للصناعة التي تضررت كثيرا جراء الإغلاق بسبب وباء “كورونا” وهو ما دفع “هوليود” إلى توفير ميزانية ضخمة جدا للفيلم الذي ليس من المتوقع- في ظل الظروف الحالية- أن يحقق عائدات كبيرة.
“كريستوفر نولان” المخرج الأشهر والأكثر تحقيقا للأرباح والذي صنع جمهورا خاصا به على مدى العقدين الماضيين مازال مفتونا بلعبة الزمن، وهو يحاول عبر “Tenet” إدخالنا المتاهة من جديد مع كثير من التعمية والتشويش والإرهاق الذهني، وكثير من مشاهد الحركة والأكشن ومطاردات السيارات التي يحفل بها أي فيلم متوسط القيمة ذي إنفاق قليل.. لكننا لا يمكن أن نسيء الظن بالمخرج العبقري؛ لأننا ندرك جيدا أن “نولان” ليس سطحيا إلى هذه الدرجة.. إنه يقصد تماما كل ما جاء في فيلمه من أمور تبدو غريبة إلى حد ما، بطل بلا اسم وبلا تاريخ، موسيقى تعلو أحيانا لتطغى على الحوار، ثيمات قديمة ومستهلكة جدا كأن يكون الشرير الذي يدبر لدمار العالم “روسيًا” على وجه التحديد، حوار يبتر في كل مرة بدواعي تعذر الفهم عندما يكون الشعور هو الوسيلة الوحيدة للتفاعل، وليس نهاية بغلق المجال بالكلية أمام التعاطف مع أيٍ من أبطال العمل.. لنجد أنفسنا بصدد حالة جليدية تجاه العمل برمته.. حالة لا تدفع للتفكر بقدر ما تقف على حدود الارتياب.
كثيرون ممن تناولوا الفيلم بالنقد لم يتوقفوا عند الاسم “Tenet” لا ندري لماذا؟ ربما كان الاسم مفتاحا مهما لفهم ما يريد “نولان” إيصاله من رسائل.. العقيدة هنا لا تعني سوى التصديق بإمكانية الحدوث، التصديق بأن الزمن صار في حالة سيولة وأن الماضي لم ينته بالكلية، كما أن المستقبل المنتظر واقع بالفعل ولا سبيل للتحرر من قيوده، وهو ما عبرت عنه “لورا” بعبارات موجزة عندما التقت بطل العمل “لا تحاول فهم ذلك اشعر به” هكذا قالت “لورا” وهي في الحقيقة مقولة صادمة تحمل من الإحالة والتغييب الكثير.. لكنها تضيف “القدر موجود ونحن خاضعون له” في إشارة واضحة إلى العقيدة المؤسسة لكل محاولات الهيمنة والبطش التي تمارس باسم الرب، وتبرر كل فظائعها بالقدر الغالب.. ولا تتركنا السيدة “لورا” في تيه عبارتها السابقة حتى تعاجلنا بالحكمة النهائية التي يجب أن نتوقف عندها كثيرا “العقيدة هي درع للماضي، وسلاح ضد المستقبل” وهي عبارة واسعة الدلالة تشير إلى أن المستقبل إذا صار هو العدو فلابد من مجابهته بالعقيدة التي نحمي بها ماضينا من البدد، وكأن “نولان” يدعونا دعوة غامضة إلى التمترس خلف الموروث في مواجهة التكنولوجيا التي تسير في اتجاه واحد سيكون فيه هلاك البشرية لا شك في ذلك.
“فِي ذلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ.” (مت 11: 25) يؤكد “نولان” من خلال أحداث الفيلم على هذا المعنى الذي ربما كان أحد أهم إلهاماته عند كتابة القصة.. إن أبطال العمل يتواصون طوال الوقت بالكف عن محاولات الفهم؛ لأن الفهم عصي ولا ضرورة له، يكفي القبول الذي يدفع إلى المخاطرة بروح استشهادية من أجل إنقاذ العالم.. من المضحك حقا أن نرى “هوليود” ما زالت مصرَّة على الترويج لهذه الأفكار البالية حتى في عهد “ترامب” الذي أسقط القناع عن السياسات الأمريكية ليمارس دون خجل كل أعمال البلطجة على نطاق واسع.
لكن بطل العمل لا يكف عن طرح الأحجيات والألغاز التي لا تتلقى ردا منطقيا ولو لمرة واحدة حتى يصل إلى الأحجية الرئيسة في العمل، وهي لماذا يحاول “المستقبليون” تدميرنا؟ ألسنا أسلافهم؟ ماذا يحدث إذا عدت بالزمن إلى الخلف وقمت بقتل جدك؟ كيف يمكن أن تكون ولدت لتقوم بهذا الفعل؟ لتأتي الإجابة التي لابد أن المشاهد قد اعتاد أمثالها طوال زمن المشاهدة على لسان زميل البطل في إنقاذ العالم “نيل” العارف بالكثير من بواطن الأمور ” لا يوجد جواب. إنها مفارقة”.
يستثمر “نولان” حالة اللايقين التي تسيطر على العمل جيدا، حتى أن المشاهد يرتاب في حدوث بعض المشاهد، كما أن فكرة إرجاع الزمن لإعادة بناء الحدث لم تحمل للمشاهد إلا المزيد من التشكك دون إثارة أدنى قدر من التشويق.. فالأبطال يعودون للحياة مجددا بعد الإحراق والموت بطلقات الرصاص من المسافة صفر.. ما يذكرك بعودة القط إلى الحياة بعد إحراقه وإغراقه ودهسه مرارا في “”Tom and Gerry ما يُدخلنا في حالة من اللاجدوى من متابعة المشاهدة.
حتى نهاية العمل لا يتركنا “نولان” لنرتاح قليلا من هذا الصخب الذي تحدثه موسيقى “لودفيج جورانسون” التي تثبت حضورها الآسر في كثير من المشاهد دون حاجة حقيقية لذلك.. كما لن يكف بطل العمل عن طرح التساؤلات على زميله “نيل” الذي نستطيع أن نلقبه الآن بالعارف.. وها هما يختلفان حول كون الأمر انتهى أم أنه بدأ للتو.. ليحيلنا “نولان” من جديد إلى العبارة التي قيلت في مستهل الفيلم عندما أراد البطل إنقاذ الرجل الجالس في مقصورة خاصة في المسرح من الهجوم الإرهابي.. وهو شخصية وثيقة الصلة بالأحداث رغم اختفائه التام بعد هذا المشهد، وقد وردت على لسانه عبارة “نحن نعيش في الشفق” وعلينا أن نفهم من ذلك أن النهاية قد اقتربت إذ أن الشفق آخر وقت في النهار وأول دخول الليل، ثم عبارة “ليس لنا أصدقاء” وهي العبارة التي فسَّرها البطل بعد ذلك بقوله “إن الذين لا يعطوننا إلا أنصاف الحقائق لا يصلحوا كأصدقاء لأنهم ليسوا محل ثقة”.
الثقة يجب أن تكون في المال فقط كما تؤكد لنا “هوليود” دائما فلديها من الذهب ما تستطيع به أن تغطي أرض المطار في مشهد له دلالته، كما تستطيع أن تنقذ صناعة السينما التي تلقت أقوى الضربات بسبب جائحة “كورونا” ما جعل الكثيرين يذهبون إلى أن التأريخ للسينما سيرتبط بهذا الحدث لفترة طويلة.. ورغم ذلك لم يستطع “نولان” بميزانية مفتوحة أن ينقذ معجبيه من السقوط في دهشة لم يتمكنوا حيالها من تبرير العمل الذي أطلق عليه البعض خطيئة “نولان” وليس عقيدته.
لقد أصر “كريستوفر نولان” على مدى ساعتين ونصف على التأكيد على أن الحواس خادعة وعلى أن الفهم لا يصلح في كل الأحوال وعلى أن الاستسلام في أحيان كثيرة من الممكن أن يكون فعل مقاومة، وعلى أن الحقائق مراوغة ولا تعرف الاكتمال إلا فيما ندر.. وكان من المفترض أن يحمل إلينا مخرجنا الكبير شيئا من التبصر يكون بمثابة أمل للخروج من تلك الفجوة التي نحن عالقون بها –حسب تصوره- لكن شيئا من ذلك لم يحدث؛ لأنه ليس هناك مسئولية يمكن أن نضعها على عاتق الرجل، وهذا ببساطة شديدة لأنه رؤيته أقرب إلى التنصل منها إلى أي شيء آخر.
لم تكن حالة التبريد التامة التي اصطنعها المخرج وحرص عليها طوال وقت الفيلم وحاصر بها أبطاله حتى يستحيل التفاعل معهم عاطفيا- أمرا اعتباطيا بل كان مقصودا، وقد حافظ على درجة من الثبات طوال الأحداث.. وذلك لأن الهدف – في نظري- هو قتل الانحياز، والدفع بالشعور القوي بالحياد تجاه كل ما يحدث. ويبدو هذا كافيا جدا؛ لأننا كما تقدم في مرحلة الأفول ليس علينا إلا أن نقف صامتين إزاء ما يعتري العالم من متغيرات كبرى؛ ليس المطلوب منا أن نتفاعل معها بقدر ما هو مطلوب منا –نحن البشر- أن نصبح خارج المعادلة، فلسنا بالرقم الصعب الذي يؤبه له.
https://www.youtube.com/watch?v=xclUPPYiwMw
إن عقيدة “نولان” التي صار من حقنا الآن أن نفحصها على نحو دقيق لا تدعونا إلى الفعل بل إلى المراوحة وفق نظرية سيولة الزمن التي تُلغي الحدث وتعيد صياغته وفق المعرفة المسبقة.. وهي دعوة مبطنة للخروج من الماضي “التاريخ” والتجول بحرية في فضاء الزمن دون أدنى محاولة للإدراك أو الفهم.