رؤى

البكاء عند الجماعات الجهادية الحديثة (4)

عرض وترجمة: أحمد بركات
تتعدد المناسبات التي يبكي فيها الجهاديون1يقصد بـ “الجهادية” في هذه الدراسة “الإسلاموية السُنية العنيفة العابرة للحدود”. ورغم اعتراض بعض المسلمين على ربط الجهاد بالأنشطة العنيفة التي تقوم بها هذه الجماعات، إلا أن مصطلح “جهادي” يعد الآن مصطلحا راسخا في الدوائر الأكاديمية والإعلامية، بما في ذلك في العالم الإسلامي نفسه. ويرجع الفضل في شيوع هذا المصطلح إلى ملاءمته كاختصار لتعبيرات أكثر تعقيدا. كما يستخدم المتشددون هذه الصفة “جهادي” على نطاق واسع. وفي الاستخدام الأكاديمي، يمثل “جهادي” مجرد صفة ليس لها قيمة معيارية في الجدل الإسلامي حول طبيعة الجهاد.، والتي يمكن إجمالها في ست مناسبات رئيسة هي الاستماع إلى القرآن في الصلاة، وسماع الخطب والمواعظ أو إلقائها، وسماع الأناشيد التي تحث على الجهاد، وقبل المعارك وبعدها، والحديث عما يُسامه المسلمون على يد أعدائهم، وفقد رفاق الجهاد، إضافة إلى مناسبات أخرى أقل أهمية. وبرغم أن الإجابة على سؤال “لماذا يحاكي الجهاديون أعداءهم الصوفيين في هذه الممارسة على وجه التحديد؟” لا يقع داخل حدود هذا البحث، إلا أننا يمكننا تقديم بعض التفسيرات المبدئية لطرح أفكار للبحث الأكاديمي المستقبلي.

التفسيرات الوظيفية

أحد المقاربات لتفسير هذا اللغز هو أن ننظر إلى اعتناق البكاء على أنه شكل من أشكال التنازل العقدي، وهو ما يقودنا إلى فرضية مفادها أن البكاء يقدم نوعا من الفائدة التي تثمنها الحركة الجهادية. وفي ضوء ما كشفته العلوم الاجتماعية عن وظائف البكاء (خصصت هذه الدراسة فصلا كاملا عن سيكولوجيا وسوسيولوجيا البكاء)، يمكننا التفكير في ثلاث طرق على الأقل تستطيع من خلاها الجماعات المسلحة توظيف البكاء.

أحدى هذه الطرق هي أن البكاء يقدم تنفيسًا عاطفيًا يساعد الأفراد على التعامل مع الإجهاد النفسي الشديد الذي تفرضه حياة النضال السري المسلح. فأعضاء أغلب هذه الجماعات يرون أهوال الحروب رأي العين، ويتعرضون لخطر الموت أو الإصابة أو الأسر صباح مساء. ويخبرنا بحث آخر2Hegghammer, Jihadi Culture, 78 حول الثقافة الداخلية للجماعات الجهادية أن هذه الضغوط ترفع منحنى المشاعر إلى أقصى درجاته (وهو ما يجعل البكاء موجودا أيضا بدرجة تزيد أو تنقص في معظم التنظيمات العسكرية).

احتمال آخر يتمثل في إمكانية استفادة الجماعات الجهادية من التأثير التضامني للبكاء في تعزيز الروح المعنوية ودعم التماسك والتلاحم داخل الجماعة، حيث يُعتقد أن البكاء يقوي روح التضامن والانتماء ويعزز الثقة والتآزر، جزئيا لأنه ينطوي على إظهار شدة التأثر. ومن ثم فإن البكاء يؤسس لما يطلق عليه علماء الاجتماع “العلامة باهظة الثمن”. وكما رأينا فإن جزءا كبيرا من بكاء الجهاديين يمثل نشاطا اجتماعيا يُحدث تأثيرا ’معديا‘ في أغلب الأحيان.

أحد عناصر داعش يبكي بعد القبض عليه

أما الاحتمال الثالث فهو أن البكاء يمثل شكلا من أشكال إظهار الفضيلة التي تساعد على توصيل الالتزام بالقضية سواء داخل الجماعة أو للجماهير خارجها. وكما أشرنا سلفا، فإن البكاء يرتبط بالصدق والإخلاص لأنه يصعب تصنعه نسبيا (وإن كان ليس مستحيلا). وبالنظر إلى العلاقة بين البكاء والخوف من الله في الدين الإسلامي، فإن البكاء التعبدي غالبا ما يتم تفسيره كعلامة على الإيمان الحقيقي والالتزام الصادق. وقد أشارت دراستان – على الأقل – عن الدعوة الإسلامية إلى أن الدعاة البكائين يتمتعون بالقدرة على التأثير ويتحلون بالمصداقية لدى جماهيرهم3Jones, ‘“He Cried and Made Others Cry”’; Sunier and Şahin, ‘The weeping sermon’. وبالنظر إلى طبيعتها السرية، فإن الجمتعات الجهادية قد تحتاج تحديدا إلى ضمان التزام أعضائها بدرجة كبيرة (خشية اجتذاب الانتهازيين والمتسللين)، وقد يقدم البكاء معلومات مفيدة في هذا الصدد. كما يُفترض أن الجماعات الجهادية لديها أيضا الحافز لتبدو صادقة في معتقداتها أمام المسلمين ’الخارجيين‘ من أجل استجلاب دعمهم. وربما يكون هذا هو السبب وراء اهتمام الجهاديين بإظهار البكاء الذي يحدث داخل صفوفهم. وعلى أية حال، فإن جميع هذه الفرضيات الوظيفية هي – في نهاية المطاف – ظنية وبسيطة إلى درجة تجعلها لا تفي بتقديم تفسير كامل لثقافة البكاء الجهادي.

تقليد أعمق؟

مقاربة أخرى لحل اللغز تكمن في النظر إلى البكاء الجهادي ليس كقطيعة مع السلفية، وإنما كاستمرار لظاهرة أخرى كانت موجودة مسبقا، وهي العلاقة القديمة في الدين الإسلامي بين الزهد والجهاد العسكري.

في هذا السياق، لا يعتبر الجهاديون االمعاصرون روادا في البكاء في الخنادق. وتكشف النظرة المتفحصة على التاريخ الإسلامي عن نماذج كثيرة لمجاهدين فاضت عيونهم في أوقات الحروب. وأبرز مثال على ذلك هو خالد بن الوليد (المتوفي في عام 642) الذي بكى وهو على فراش الموت بعدما أدرك أنه لن يموت في أرض المعركة. وهناك أمثلة أقل شهرة عن العديد من الزهاد المقاتلين في العصر الإسلامي الوسيط الذين عُرفوا بكثرة بكائهم. ويبرز في هذا السياق عبد الله بن المبارك (المتوفي في عام 797) الذي كان أحد الزهاد المتطوعين للقتال ضد البيزنطيين في شمال سوريا في بداية العصر العباسي، ومؤلف أول كتاب معروف عن الجهاد في الإسلام. وتصف العديد من المصادر ابن المبارك بأنه كان كثير البكاء. وقد ذكر أحد رفاقه في وقت لاحق:

كنا في هذا الوقت في نهاية رحلتنا على الطريق إلى سوريا نتناول عشاءنا في الليل في أحد المنازل. وعندما انطفأ السراج، خرج به أحد الأفراد ليضيئه. ومكث بالخارج لفترة من الزمن، ثم أعاده. فنظرت إلى وجه ابن المبارك وقد اخضلت لحيته من الدموع. فقلت في نفسي لهذا السبب يسبقنا الرجل؛ لقد كان يجلس في الظلام يتذكر يوم الحساب4Michael Bonner, ‘Some observations concerning the early development of jihad on the Arab-Byzantine frontier’, Studia Islamica, 75 (1992): 5–31, at 27.

https://www.youtube.com/watch?v=1BcyhBI2WGM

ومن أخبار ابن المبارك أيضا أنه في إحدى معاركه حدثته نفسه بمهاجمة كافر كان يتعبد إلى آلهته، برغم وعده له بإمهاله حتى ينتهي من طقوسه. وبينما كان على وشك الانقضاض على عدوه، سمع ابن المبارك صوتا يذكره بما قطعه على نفسه من عهد، فغط في بكاء شديد. وعندما سأله غريمه عن سبب بكائه، أجابه ابن المبارك “لقد تعرضت بسببك للتأنيب”، فتأثر الكافر واعتنق الإسلام5Harry S. Neale, Jihad in Premodern Sufi Writings (New York: Palgrave Macmillan, 2017), 139. وبالمثل، في كتابه عن الجهاد في الكتابات الصوفية ما قبل الحداثية، يذكر هاري نيل العديد من الأمثلة من الكتاب الفارسي Hazār ḥikāyat- i ṣūfiyān (ألف حكاية صوفية) عن مقاتلين صوفيين في العصر الوسيط ارتبط بكاؤهم بمعاركهم. ويستشهد نيل بأبي الحسن الطوسي الذي يصف لقاءه في طرطوس بأحد المريدين الذي كان عائدا لتوه من معركة قُتل فيها أربعة من أصحابه، وكان الرجل يبكي بحرقة “لأنه كان يتمنى أن ينال الشهادة أيضا في ذلك اليوم”6نفس المرجع، 104، 140 – 1. على الناجية الأخرى، عاد مقاتل آخر من المعركة منتصرا، بعد أن قتل الكثير من الكفار، وفاز بالكثير من الغنائم، لكنه كان يبكي لأنه “بقي أسيرا لأهوائه”، ومن ثم، فإن جهاده لم يكتمل لأنه لم يتغلب على نفسه الأدنى”7نفس المرجع، 106، 134.

وهكذا، فإن الارتباط بين البكاء والجهاد يضرب بجذور عميقة في التاريخ الإسلامي. وليس بعيدا عن السياق أن نقول إنكثيرا من القادة العسكريين المسلمين البارزين كانوا من البكائين. فقد استرسل صلاح الدين الأيوبي (المتوفي في عام 1193) في البكاء في مناسبات عدة، وبكى تيمور (المتوفي في عام 1405) خوفا من ألا تحوز غزواته رضا الله، وبكى الفاتح العثماني السلطان سليم الأول (المتوفي في عام 1520) عند دخوله دمشق ورؤيته قبر ابن عربي، وكان الحاكم المغولي أورنجزيب (المتوفي في عام 1707) يبكي عند سماع الشعر. وبكى أيضا القائد العسكري في غرب أفريقيا الحاج عمر طال (المتوفي في عام 1864) خوفا أيضا من ألا تحوز فتوحاته وغزواته رضا الله8Malcolm Cameron Lyons and D. E. P. Jackson, Saladin: The Politics of the Holy War (Cambridge: Cambridge University Press, 1984), 373; Ahmed Ibn Arabshah, Tamerlane or Timur the Great Amir (transl. J. H. Sanders; London: Luzac, 1936), 317; John W. Kiser, Commander of the Faithful: The Life and Times of Emir Abd el-Kader (1808–1883) (Rhinebeck, NY: Monkfish Book Publishing, 2008), 286; Annemarie Schimmel, Mystical Dimensions of Islam (Chapel Hill, NC: University of North Carolina Press, 1975), 327; John Ralph Willis, In the Path of Allah: The Passion of al-Hajj ʿUmar. An Essay into the Nature of Charisma in Islam (London: Frank Cass, 1989), 128. وعلاوة على ذلك، فإن الأطروحات الكلاسيكية عن الجهاد العسكري، مثل كتاب الجهاد لابن النحاس الدمياطي (المتوفي في عام 1411) تنظر إلى البكاء التعبدي في ارتباطه بالحرب باعتباره أمرا طبيعيا9 Ibn al-Naḥḥas, Mashāriʿ al-ashwāq ilā maṣāriʿal-ʿushshāq wa-muthīr al-gharām alā Dār al-Salām: fī faḍāʾil al-jihād (eds. Idrīs M. ʿAli and Muḥammad Khālid Istanbūlī; Beirut: Dār al-Bashāʾir al-Islāmiyya, 3rd edn., 2002. ويمكن أيضا أن نلاحظ أن الكتب الإسلامية الحديثة التي تتناول البكاء تروي أحاديث تضع البكاء إلى جانب الجهاد باعتبارهما أعمالا محمودة؛ من ذلك، على سبيل المثال، “لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع”، و”لا يجتمع غبار [الجهاد] في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا” (al-Awaayishah, Weeping from the Fear of Allaah, 3).

صلاح الدين الأيوبي
صلاح الدين الأيوبي

وتتوافر بعض الأدلة على أن الجهاديين المعاصرين ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم امتدادا للمقاتلين الزاهدين الأوائل. ففي الدعاية الخاصة بهم، يستدعي الجهاديون ابن المبارك كنموذج يجب أن يحتذى. على سبيل المثال، في أكتوبر 2009، نشرت “الحركة الإسلامية في أوزبكستان” مقطع فيديو بعنوان “فضل الجهاد” قدموا فيه أنفسهم كامتداد لابن المبارك10‘Jundullah – Fadl al-Jihad’, https://archive.org/details/Jundullah-FadlAlJihad, uploaded 12 June 2013 (last accessed 5 October 2019). وفي منتصف العقد الثاني من هذه الألفية، أدارت جبهة النصرة الموالية لتنظيم القاعدة في سوريا مدرسة دينية تحمل اسم “معهد الإمام عبد الله بن المبارك لدراسة علوم الشريعة”11Aaron Zelin, ‘New video message from Jabhat al-Nusra: ‘Report on the Imam Abdallah bin al-Mubarak Institute for the Study of Sharia Sciences’, Jihadology.net, 9 December 2015. (Last accessed 21 May 2019). ليس من الواضح إلى أي مدى استلهم الجهاديون المعاصرون نموذج ابن المبارك في البكاء على وجه التحديد، لكن المؤكد أنهم كانوا على علم به لأن الحركة الجهادية معنية بشكل عام بتاريخ صدر الإسلام.

(انتهى)

توماس هيجهامر – كبير باحثين في “مؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية” (FFI)، التابعة لجامعة أوسلو

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock