مساء الثلاثاء الثالث عشر من شهرنا أكتوبر 2020 وقفت الباحثة ريهام عبده إبراهيم في قلب جامعة القاهرة العريقة أمام لجنة تضم أسماءً من الوزن الثقيل..
الأستاذة الدكتورة عواطف عبد الرحمن والأستاذ الدكتور شريف اللبان، مشرفان، والأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل ممتحن من الخارج والأستاذة الدكتورة نجوى كامل ممتحنة من الداخل، وذلك لمناقشة رسالة ماجستير قدمتها ريهام تحت عنوان (دور الصحافة الساخرة في الحركة الوطنية المصرية 1878 – 1910 / دراسة تطبيقية على صحف يعقوب صنوع).
رسالة ريهام كانت ضخمة، بلغ عدد صفاحتها 780 صفحة، وقد منحتها اللجنة درجة الماجستير بتقدير ممتاز.
بعد شيوع خبر الرسالة بساعات أصبحت ريهام ورسالتها موضوع اهتمام الصحافة الثقافية التي بدأت في مطاردة ريهام؛ لمعرفة خبايا الرسالة العلمية التي كشفت عن وجه غامض لاسم شهير هو اسم يعقوب صنوع.
ولأن ريهام باحثة جادة، وليست فتاة استعراضات، فقد نجت بنفسها وأغلقت هاتفها فعزّ عليّ وعلى غيري التواصل معها.
أسطورة لا تموت
ولد يعقوب صنوع في 15 أبريل من العام 1839، وحول مسقط رأسه هناك خلاف بين الذين ترجموا له، بعضهم يؤكد ميلاده في القاهرة وآخرون يؤكدون ميلاده في إيطاليا!
وتوفي بعد رحلة حياة مثيرة في فرنسا في 4 مارس من العام 1912
وبين ميلاده ورحيله ملأ الدنيا وشغل الناس.
أحسن الكاتب الصحفي محمد سعد عبد الحفيظ صنعًا عندما نشر هنا في موقعنا هذا “أصوات” دراسة من أربعة أجزاء عن حياة يعقوب، عرض فيها لمختلف الآراء التي تناولت الرجل ، فهناك من الرواد الأوائل مَنْ يكاد ينفي الوجود التاريخي لصنوع ، ومن هؤلاء الرائد الأستاذ محمود تيمور الذي تناول نشأة المسرح العربي في مصر فكتب نصًا: “أتانا التمثيل من إيطاليا عن طريق سوريا، وأول من جاءنا به قوم من فضلاء السوريين أمثال سليم النقاش وأديب إسحاق والقباني، وفدوا إلى مصر مقر العلوم والآداب الشرقية لينشروا فيها بذور ذلك الفن الجديد، وأنشأوا بأيديهم فن التمثيل في مصر بعد أن كنا لا نعلم من أمره شيئاً يذكر”
لم يشر تيمور لصنوع بكلمة واحدة!
ثم هناك أساتذة قطعوا بأن صنوع كان صحفيًا ثائرًا!
وبين الرأيين هناك أقوال كثيرة لا يجمعها جامع.
وهكذا يبدو أن يعقوب مصر على ألا يموت فهو يشغل الناس رغم مرور أكثر من مئة سنة على رحيله ودفنه في فرنسا.
فما الجديد الذي ستقدمه ريهام؟
ثم كيف يمكن التواصل معها وهي التي قد أغلقت هاتفها؟
كنت أعرف أن الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل هو داعم ريهام العلمي فقد أمدها بوثائق عن حياة صنوع لم يسبق لغيره أن أطلع عليها.
بمساعدة مشكورة من الشاعر والكاتب الصحفي الأستاذ يسري حسان، تواصلت مع الدكتور سيد.
قال لي الدكتور سيد: لقد كتبت عن يعقوب صنوع حتى مللت الأمر، ولكن في قلبي كنت أتمنى ظهور باحث أو باحثة يكمل الطريق ويكشف بأدلة علمية عن خفايا هذا الرجل.
سألته: وهل بقيت خفايا بعد كل الذي كتبته؟
رد: نعم، ظروفي لم تمكني من الاطلاع على ثلاثة مصادر في غاية الأهمية للذي يريد التأكد العلمي من شخصية يعقوب صنوع.
المصدر الأول: هو كل أعداد جريدة الجوائب المصرية، الموجود هو بعض أعداد منها، وأهمية هذه الجريدة أنها عاصرت شهرة صنوع وقد تكون قد كتبت عنه شيئًا يكشف سرًا أو يوضح طبيعة الشخصية.
المصدر الثاني: هو كتابات كل الرحالة الأجانب الذين تركوا مذكرات عن رحلتهم لمصر فقد يكون أحدهم قد تناول صنوع.
المصدر الثالث: هو كل أعداد كل الجرائد الأجنبية التي كانت تصدر في مصر.
بغير هذه المصادر يكون البحث العلمي ناقصًا.
يكمل الدكتور سيد فيقول: كم كنت سعيدًا بجدية ريهام التي تناولت وثائقي وأقوالي عن أوهام ريادة يعقوب صنوع للمسرح العربي في مصر وراحت تدققها وتمحصها في رحلة تواصلت لثمان سنوات، حتى وصلت إلى حقائق موثقة حصدت بها شهادة الماجستير بتقدير ممتاز.
الجرح والتعديل
من العلوم التي تمتاز بها أمتنا علم الجرح والتعديل، وهو علم قائم على فحص أحوال الرواة، بدون مجاملة أو تعسف، وبدون ذلك الفحص لا تقبل رواية من راوٍ.
مشكلتنا نحن مع يعقوب صنوع قامت بسبب غياب هذا العلم العظيم عن كتاباتنا، فمعظم ما قيل عن يعقوب مصدره هو يعقوب نفسه، ومن الطبيعي أنه لن يروي عن ذاته إلا كل فخر وشرف، وما رواه عرف طريقه إلى كتابات الباحثين فأصبح حقيقة أو كالحقيقة، فجاء الدكتور سيد علي إسماعيل بأدلة جديدة نسفت أسطورة ريادة للمسرح، ثم قامت ريهام بتوثيقها معتمدة على علم الجرح والتعديل، فلم تقبل أي رواية إلا بعد النظر المدقق في حال راويها.
سافرت ريهام إلى فرنسا وبريطانيا لتبحث عن ” جيمس سنوا” وهو المعروف عندنا باسم يعقوب صنوع!
كيف أصبح يعقوب صنوع جيمس سنوا؟
هذه أول ضربة معول في جدار هذه الشخصية التي يلفها الغموض.
ومن الوثائق التي وقعت تحت يدها خرجت الباحثة الاستاذة ريهام إبراهيم عبده بجملة من النتائج المبهرة، التي سأضعها في أرقام تحت عين القارئ الكريم، لكيلا تتوه في زحام السرد.
1ـ جيمس سنوا، المعروف لدينا باسم يعقوب صنوع، إيطالي الجنسية، يهودي الديانة.
2ـ كل ما قيل عن ارتباطه بالماسونية، هو كلام دون الحقيقة بمراحل، فالرجل لم يكن ماسونيًا كغيره، لقد كان من القيادات الكبرى في تلك الحركة وثيقة الصلة بالصهيونية العالمية.
وعلى ذكر الماسونية أقول: قرأت في مذكرات مصطفى باشا النحاس عن زيارة رئيس المحفل الماسوني لدولة الباشا، وكيف حاول إقناعه بالانضمام للمحفل، ثم تعقيب الباشا الذي مخلصه: شعرت بشيء مريب في كلام الرجل ولم تطب نفسي له فرفضت عرضه.
وكانت مصر من مراكز الماسونية حتى جاء عبد الناصر وأغلق تلك المحافل، والعجيب أن كثيرين يتجاهلون دور عبد الناصر في تقليص الماسونية في البلاد العربية!
وهذا معروف وفق قاعدة: زامر الحي لا يطرب!
3ـ دعا ـ مبكرًا جدًاـ إلى هجرة يهود أوروبا إلى الممالك العثمانية، وتلك الممالك لم تكن سوى فلسطين الشقيقة!
على ذلك فالرجل صهيوني من حيث العقيدة السياسية قبل ظهور دولة الكيان بعشرات الأعوام.
4 ـ خلافه مع الخديوي إسماعيل لم يكن خالصًا لوجه الحركة الوطنية المصرية، وأصل الخلاف هو: أن إسماعيل قد قام ـ بعد رشوة قدمها للخليفة العثماني ـ بتعديل قانون وراثة العرش، التي كانت تنص على أحقية الأكبر سنًا من ذكور ذرية محمد علي في تولي عرش مصر، وكان الأمير محمد عبد الحليم باشا ابن محمد علي هو الأكبر سنًا، فتلاعب إسماعيل بالقانون وجعله وراثة العرش بين أولاده هو فأصبح الخديوي توفيق هو ولي العهد وورث العرش بعد والده إسماعيل ولم يظفر الأمير محمد عبد الحليم بشيء!
هنا ألتقط الأمير محمد عبد الحليم جمس سنوا أو يعقوب صنوع وجعل منه آلته الإعلامية في دك حصون إسماعيل، لكي يصعد هو إلى عرش مصر.
5ـ ساند الثورة العرابية لغرض في نفسه، فقد كان يحلم بأن تزيح الثورة توفيقًا من على عرش البلاد فيتولاه ولي نعمته الأمير محمد عبد الحليم.
6ـ عرف أن الثورة العرابية ستنادي بإقامة الجمهورية وتبطل حكم آل محمد علي جميعًا، فتنكر للثورة لأنها لن تنصب الأمير محمد عبد الحليم!
7ـ الرجل كان من المرتزقة يؤجِّر قلمه لمن يدفع، كان يكتب لصالح الأمير محمد عبد الحليم مقابل ما يحصل عليه منه، ثم سبح في بحر عطايا الخليفة العثماني، وكان يحصل منه على راتب شهري، تدفق لسنوات!
8ـ لم تكن القضية الوطنية الأولى، أعني قضية تحرر مصر من بريطانيا هى شغله الشاغل، فهو كان يريد تحرر مصر من الاحتلال البريطاني لكي تقع تحت وطأة الاحتلال الفرنسي!
وبعدُ فهنيئًا للمكتبة العربية أن تضم هذه الرسالة التي عندما تطبع في كتاب ستكون مصدرًا ومرجعًا لا غِنَى عنه عند الحديث عن رجل له وجه واحد يعلوه ألف قناع.