مختارات

مستقبل العرب محصور بين الاستقطاب والتهدئة «1 من 2»

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن صحيفة عمان

حسين عبد الغني

يدور الآن صراع شديد الضراوة في المنطقة العربية.. وعلى المنطقة العربية بين تصورين ومسارين بل وبين حقبتين إستراتيجيتين الأولى في الماضي وجزء من الحاضر والثانية في جزء من الحاضر وكل المستقبل العربي

هذا الصراع يجري من ناحية بين تصور ومسار وحقبة منقادة للخارج قامت على الاستقطاب الحاد وعلى تحويل الصراعات الثانوية إلى صراعات رئيسية والعكس صحيح

في هذه الحقبة أصبحت المباريات كلها قائمة على التخندق في معسكرات متواجهة وارتداء ثوب المباريات الصفرية وكانت المنطقة تخرج فيها من حرب لتدخل في أخرى

لكن المسار المذكور بدأ حاليا وبالتحديد في العامين الأخيرين يواجهه مسار عربي وإقليمي إيجابي عاقل ومبادئ يحاول الخروج من فلك الانقياد والتبعية التامة ويستفيد من هامش مناورة يتيحها تحول جار في النظام الدولي.. تحول سمح بأضعاف فولاذية القبضة الحديدية للقطب الواحد

هذا المسار الجديد يغلب عليه تصور يعمل العقل ويسعى لتخفيف التوترات ويفكك الاستقطاب وينهي القطيعة السياسية ويتحدث عن الحوار لا عن المواجهة وعن حل النزاعات سلميا والخروج من مستنقعها لا عن التورط في المزيد منها

علينا أن نتفق أولا أن حالة السيولة التي يمر بها العالم والنظام السياسي الدولي حاليا والتي تمر بها منطقتنا بالتبعية لن تستمر إلى الأبد.. فطبيعة الأمور تقول إن نظام العلاقات الدولية للقطب الأمريكي الواحد المهيمن منذ أكثر من ثلاثة عقود (بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق) المترنح من لكمات بزوغ الصين كقوة منافسة لن يستمر في الترنح على الحلبة إلي الأبد وسيسقط في النهاية بالنقاط لصالح نظام دولي ثنائي أو متعدد القطبية

وسينعكس هذا بالقطع على الشرق الأوسط أهم منطقة للتنافس بين القوى العظمى، وبالتالي فعندما نصل إلى هذه النقطة الحاسمة مع تبلور نظام عالمي جديد له قواعده وعلاقاته سيتضح في منطقة الشرق الأوسط بما لا يدع مجالا للشك من هم الفائزون الذين استطاعوا التعامل بمهارة وحذق مع مرحلة السيولة وتفاعلاتها ومن هم الخاسرون الذين أخفقوا في قراءتها أو لم يستطيعوا التجاسر على اقتناص هوامش الاستقلال التي أتاحتها لهم

في مرحلة نظام القطب الأمريكي المهيمن كان العالم العربي خصوصا والإسلامي عموما هو الضحية الأكبر لهذا النظام لا نتكلم فقط عن غزو العراق وتدمير ليبيا وسوريا وانفصال السودان إلى دولتين والحرب في اليمن وسقوط ملايين القتلى والمصابين ولا عن عشرات الملايين من اللاجئين العرب في أصقاع العالم ولكن عن تحولات جذرية في النظام الشرق الأوسطي تراجع فيه وزن وقيمة العرب كجماعة سياسية إلى ذيل قوى الإقليم، لدرجة أن مقولة أن العرب خرجوا من التاريخ أو كادوا.. وأنهم أصبحوا «الرجل المريض» للمنطقة باتت تتردد وكأنها حقيقة راسخة

إنهاء مفهوم العالم العربي

تدحرج العرب إلى هذا القاع الاستراتيجي بداية مع الداهية الاستراتيجي هنري كيسنجر عندما اشترط قبل كل شيء على المصريين لقبول التوسط بينهم وبين الإسرائيليين بعد حرب أكتوبر ٧٣ أن لا يتكلموا باسم العرب أو الأراضي العربية المحتلة وإنما يتكلمون عن مصر فقط والأراضي المصرية المحتلة «شبه جزيرة سيناء»

منذ نجاح الخطة كما تبدو في توقيع مصر الأحادي على اتفاقية فض الاشتباك الثاني وتبعته باتفاقية كامب ديفيد. لم يضبط العرب مرة أخرى وهم موحدون: انقسموا أولا إلى ما عرف وقتها بجبهة الصمود والتصدي في مواجهة مصر.. التي تحولت لأسماء أخرى مع حرب تموز اللبنانية ٢٠٠٦ ألا وهو معسكر الممانعة في مواجهة معسكر الموالاة وتغيرت بعد ما عرف بالربيع العربي إلي معسكر التغيير والديمقراطية في مواجهة معسكر الاستقرار والأمر الواقع

إهدار حقائق الجغرافيا لصالح التصور الإسرائيلي عن المنطقة

بقدرة قادر لم يعد الصراع الرئيسي هو الصراع بين إسرائيل والعرب ولم تعد القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية بل أصبح الإيرانيون هم العدو!!

وأصبح توصيف الصراع في الإقليم كالتالي «حلف إسرائيلي – عربي سني في مواجهة صفرية مع إيران الشيعية» وبات لزاما مع ذلك تفجير حروب بالوكالة من العراق إلى لبنان إلى سوريا وصولا إلى اليمن.. حروب دفعت ثمنها الدول العربية والاقتصادات العربية وغنمت مكاسبها إسرائيل والقوى الدولية التي تمكنت أخيرا من وضع القضية الفلسطينية في ثلاجة الموت. ووقعت بعدها اتفاقيات إبراهام للتطبيع التي تنظر واشنطن إلى توسيع نطاقها كحجر زاوية لاستراتيجيتها في الشرق الأوسط

مسار تفكيك الاستقطاب تعترضه قوى ومصالح هائلة

في السنتين الأخيرتين يمكن القول دون أدنى مبالغة أن كلا من الدول العربية والإقليمية التي كانت مشتبكة بقسوة في الاستقطاب الإقليمي السلبي غيرت توجهها إلى مسار إيجابي يفكك هذا الاستقطاب الذي خرج الجميع- ما عدا إسرائيل – خاسرا من نزاعاته

على مستوى العلاقات العربية العربية تم إنهاء الخلاف بين قطر وعدد من الدول الشقيقة كما تم تطبيع تدريجي للعلاقات مع سوريا توج بعودة دمشق لموقعها الطبيعي إلى جامعة الدول العربية

على المستوى العربي مع دول الجوار ولأسباب مختلفة وبدرجات متفاوتة بدأت عملية انفراج متبادلة من الطرفين العربي والإقليمي وبالتحديد مع تركيا وإيران- وهما بتعبير الاستراتيجي العربي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل الحائط الشمالي للأمن القومي العربي والعلاقات الطبيعية معهما تصب في صالح هذا الأمن

تراجع التوتر أولا في العلاقات مع أنقرة خاصة بينها وبين الإمارات والسعودية وأخيرا مع مصر

وتلاه التحسن التدريجي والبطيء والأهم الذي يوجه ضربة في الصميم إلى التصور الذي فرضته إسرائيل والإعلام الغربي في السنوات الأخيرة بأن إيران هي العدو للعالم العربي. أعيدت العلاقات بين طهران وأبوظبي ثم حدث التحول الإقليمي الجوهري باتفاق التطبيع السعودي/ الإيراني برعاية صينية وبعد وساطة عمانية نشطة

وهناك احتمالات جدية – وبدور عماني إيجابي- أيضًا لحلحلة العلاقات المصرية – الإيرانية المقطوعة منذ نحو ٤٥ عامًا كاملة

هذا التطور الذي تلعب فيه بكين دورا مهما وتدعمه موسكو تنافسان به هيمنة أمريكا المطلقة علي المنطقة منذ ١٩٧٥ والذي يوجه ضربة لنفوذ إسرائيل كقوة عظمى إقليمية تحت الإشراف الأمريكي كان طبيعيا أن تستنفر ضده وتتحد في مواجهته إسرائيل والقوى الكبرى وأطراف سياسية واجتماعية داخلية في الدول العربية ترتبط مصالحها ومكاسبها أو تصوراتها عن العالم بالبقاء في إطار التبعية وفي إطار تأجيج وشحذ الاستقطاب الإقليمي وتتحد في السعي لإجهاض الانفراج الإقليمي بسرعة قبل أن يكتمل وقبل أن ينجح في وقف الحروب الأهلية العربية /العربية وحروب الوكالة، وقبل أن يتم التوصل لحلول تفاوضية للتدخلات الإقليمية في الشؤون العربية

لكن السؤال هنا هل تستطيع الدول العربية عامة أن تحافظ على مسار الانفراج والحوار والمصالحة الرشيدة وتمنع عودة مسار التوتر والاستقطاب الذي كاد أن يهلك المنطقة كلها ويدمر ثرواتها؟

وماهي الدول العربية الثلاث التي تستطيع خاصة أن تساعد قوة الدفع الإيجابية الحالية وتتعامل بحزم مع محاولات إعادة المنطقة لمستنقع وبؤرة الصراعات. هذا ما يجيب عنه المقال القادم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock