غيب الموت أول من امس واحدا من أهم من عملوا في مجال الصحافة الأجنبية بمصر خلال ما يزيد عن ستة عقود ونصف.. إنه السيد “فولكهارد فيندفور” الذي كان له الكثير من المواقف الداعمة والمؤيدة لمصر في أصعب الظروف ما عرضه لحملات انتقاد وتشويه كبيرة في الصحافة العربية.. ومع ذلك فلم يرهب الرجل يوما مثل هذه الحملات ولم يتراجع فقد كانت آراؤه تنطلق من معرفة معمقة بالشأن المصري، ودراسة وافية للحالة المصرية اشتملت العديد من الجوانب. حتى أنه صار خبيرا في تحليل الشخصية المصرية وما لا يمكنها قبوله.. لذلك تنبأ مبكرا بأن الشعب المصري سيلفظ حكم جماعة الإخوان التي وصفها بأنها جماعة لا تنتمي لا بالفكر ولا بالوجدان للجماعة الوطنية المصرية.
https://www.youtube.com/watch?v=U_nCyePvKqM
في مكتبه الكائن خلف مسجد مصطفى محمود بمنطقة المهندسين كان السيد “فولكهارد “فيند فور يستقبل ضيوفه بحفاوة مصرية خالصة.. فلا شك أن تلك العقود الطويلة التي قضاها في مصر قد تركت آثارها العميقة على شخصية الرجل وثقافته.. وهو ما يؤكده قائلا: لقد قررت في لحظة فاصلة في حياتي أن أكون جزءا من هذا الشعب العظيم.. كان ذلك في أواخر الستينات وكان “فولك” عائدا من أسوان بعد أن أجرى تحقيقيا صحافيا عن السد العالي.. وعلى طريق البحر الاحمر قاد “فيندفور” سيارته التي ستتعرض لحادث مروع بسبب تحطم الطريق بفعل الأمطار الغزيرة التي تسببت في انهيار التربة أسفله.. يضيف “فولك” كانت الإصابة شديدة في الرأس وكانت الدماء تغطي وجهي.. كنت فعلا بين الحياة والموت.. إلا أن العناية الإلهية أرسلت لي سائقا مصريا انتزعني من بين حطام السيارة؛ ليمضي بي بأقصى سرعة إلى أقرب مستشفى وكانت على بعد مسافة كبيرة.. عندما انتبهت كانت دمائي تغطي وجه الرجل وملابسه تماما.. قلت في نفسي.. هذا شعب يجدر بي أن أنتمي إليه.
مع بداية فترة حكم الرئيس عبد الناصر حضر “فولكهارد” إلى مصر بصحبة أمه وأخيه الأصغر.. كانت الأم تعمل بالمدرسة الالمانية الإنجيلية بالزمالك.. ورث عنها “فولك” حب تعلم ودراسة اللغات.. فبرغم أنه لم يكن قد تجاوز السابعة عشرة إلا أنه كان يجيد الإنجليزية والفرنسية إلى جانب لغته الأم.
كان والد “فولك يعمل بالتدريس أيضا لكنه استدعي للخدمة العسكرية وقتل في الجبهة قبيل انقضاء الحرب بشهر ونصف.. وكانت مدينة “هلدسهايم” مسقط رأس “فولكهارد” قد أصبحت أثرا بعد عين نتيجة القصف المتوالي عليها ما اضطر الأسرة إلى مغادرتها إلى إحدى القرى غرب ألمانيا لتعيش لفترة في ظروف بالغة الصعوبة قبل أن تحصل الأم على فرصة العمل خارج البلاد.. فتختار مصر التي كان يعرفها معظم الألمان جيدا بسبب تمثال رأس “نفرتيتي” البديع. وكتب الكاتب الألماني الشهير “كارل ماي” عن مصر والعالم العربي والإسلام.
بعد حصوله على الثانوية الألمانية يقرر الشاب الطموح التقدم لامتحان الشهادة التوجيهية المصرية “الثانوية العامة” وينجح الطالب الألماني ويحصل على نسبة نجاح تتجاوز 76% عام 1959، ليكون اسمه ضمن أوائل الجمهورية.. فلم تكن مصر بعد قد عرفت المجاميع الكبيرة التي نسمع بها هذه الأيام.
يلفت اسم “فولكهارد فيندفور” نظر وزير التعليم آنذاك “كمال الدين حسين” فيتعرف عليه بعد حفل التكريم فيعجب بذكائه ونشاطه وإجادته لثلاث لغات .. يلتحق “فولك” بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة بعد أن حصل على منحة دراسية من الحكومة المصرية نظرا لتفوقه.. لكنه ينتقل للدارسة بجامعة عين شمس في قسم اللغات الشرقية، لدراسة اللغة العبرية والفارسية والتركية إلى جانب دراسته الأصلية للغة العربية.
ونظرا لإتقانه لعدة لغات إلى جانب لغته الأم؛ عُين “فيندفور” في الإذاعة المصرية في القسم الاوروبي وهو لم يكمل عامه العشرين بعد.. كان يعمل لمدة تزيد عن الاثني عشرة ساعة يوميا كمذيع ومعد برامج ومحرر أخبار إلى جانب أعمال الترجمة.. ولا ينسى “فولك” أن زميله في العمل بالبرنامج الأوروبي كان “أحمد بن بيلا” الذي سيصبح بعد ذلك أول رئيس للجمهورية في الجزائر..
في هذه السن الصغيرة تعرف “فيندفور” إلى الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي أعجب به وقرر أن يقدمه للرئيس جمال عبد الناصر.. وعندما التقى “فولك” بالزعيم دار بينهما حديث ودي عن مدى حب “فيندفور” لمصر.. وهل من الممكن أن يحبها ذات يوم أكثر من وطنه؟ صارح الشاب “فولك الرئيس بأنه يحب مصر كثيرا ويدين لها بالفضل.. لكن حبه لألمانيا هو كحبه لأمه لا يتقدم عليه شيء.. فإذا بالرئيس عبد الناصر يجيبه.. لو أجبت بغير ما قلت لازدريتك لكني لم أكن لأشعرك بذلك بالطبع.. عمل “فولك” مترجما خاصا للرئيس عبد الناصر وكان هو المترجم الرسمي للرئاسة المصرية أثناء زيارة رئيس ألمانيا الشرقية “فالترأولبرخت ” لمصر بدعوة من الرئيس عبد الناصر” والتي أحدثت جدلا واسعا وكانت ردا على قيام “ألمانيا الاتحادية” بتقديم مساعدات للكيان الصهيوني. وهي الزيارة التي أعقبها اعتراف مصر، بألمانيا الشرقية وتبادل السفراء بين الدولتين.. ما تسبب في قطع العلاقات بين مصر وألمانيا الاتحادية.
لا يخفي “فيندفور” إعجابه الشديد بالرئيس عبد الناصر.. وهو لا يمانع إذا وصفه أحدهم بالألماني الناصري.. ويقول عنه: كان زعيما وطنيا بحق.. ساند حركات التحرر في العالم بكل قوة، لقد أحصيت آنذاك 48 منظمة تحرير تعمل ضد الاستعمار من القاهرة وتحصل على دعم ومساندة الدولة المصرية.. لقد عشت معه بقلبي أياما خالدة مثل يوم تأميم قناة السويس.. أيام العدوان الثلاثي.. أما عن مصر في عصره فقد كانت تتوهج بالثقافة في شتى مجالاتها على نحو غير مسبوق.
في العام 1974 يذهب “فيندفور” الى بيروت للعمل بالمعهد الألماني للدراسات الشرقية.. ولكن الحرب الأهلية تندلع، فيعود إلى عمله الصحفي كمراسل لتغطية الأحداث.. لكنه يتعرض للاختطاف على أيدي الميليشيا.. وبعد تحريره يقرر “فولك” العودة إلى ألمانيا للعمل بالقسم العربي في الإذاعة الألمانية.. قبل أن يقرر الانضمام لفريق العمل بمجلة “دير شبيغل” الألمانية التي كان أحد مؤسسي مكتبها ببيروت فور وصوله إليه.. ولكنه ما لبث أن اشتاق إلى القاهرة فيقرر العودة إليها ليؤسس مكتب “دير شبيجل” والذي سيكون مقر عمله إلى آخر عمره.
لقد نال “فولكهارد فيندفور” وسام الاستحقاق من الدولة المصرية لم قدمه من أعمال في عالم الصحافة الأجنبية في مصر تميزت بالنزاهة والحيدة والموضوعية في أصعب الظروف.. بالإضافة إلى ترجمته لأكثر من مئتي كتاب من العربية إلى الألمانية على رأسها مؤلفات الكاتب “محمود تيمور” رائد القصة القصيرة في مصر الذي لم يخف “فولك” أن ظل مفتونا بأعماله الادبية طوال الوقت.
من المواقف التي لا يمكن إغفالها للرجل ذلك البيان الذي أصدره في 2014، بوصفه عميد الصحافة الأجنبية في مصر مناشد فيه المراسلين الأجانب بعدم الانسياق خلف الدعاوى المضللة والشائعات التي تروج لها أبواق الجماعة عما يحدث في مصر.. حتى يصوروا للعالم أن الوضع في مصر كارثي.. متجاهلين خروج عشرات الملايين في شوارع مصر للتعبير عن رفضهم لحكم الجماعة.. وأضاف أن على المراسلين تحري الدقة فيما ينقلون من أخبار، خاصة وقد تبين له على وجه اليقين أن كثيرا من أعمال العنف هي من إعداد وتنفيذ جماعة الإخوان بهدف إثارة الرأي العام داخليا وخارجيا وإشاعة الشعور بعدم الأمان بين جموع المواطنين.
وعلى إثر هذا البيان تعرض “فولكهارد” لحملة شعواء في الصحف الغربية، وعلى رأسها الصحف الألمانية حتى أن “دير شبيجل” اشتركت في تلك الحملة التي استهدفت سمعة الرجل وتاريخه.. لكنه ظل ثابتا على موقفه برغم أن الدولة المصرية لم تسانده كما ينبغي آنذاك؛ فقد كانت الأحداث المتلاحقة تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام الدولة والمواطنين.
ثم كان الرحيل أول من أمس ليسدل الستار على حياة حافلة بالعطاء في ميدان الصحافة على أرض مصر التي اختار “فولكهارد” أن يكون ثراها مستقره الأخير.