رياضة

بوفون.. يخلع قفازه ويغادر الملعب.. “چيچي” أنت الظل الباقي (1-2)

جذب مركز حارس المرمى بما له من خصوصية – الكثيرين لسبر أغواره، وفهم طبيعة من يختارونه مركزا للعب، رغم عدم تفضيله من قِيل الأكثرية.. بدا الأمر محيرا للبعض، لماذا يُفضّل لاعب مركزا كهذا، مركز يجعله تحت ضغط عصبي طوال وقت اللعب.. حتى حين تهدأ الحرب في ساحة عملياته.. يبقى أسيرا لمخاوفه.. إذ تسقطه لحظة توهج أحدهم، صريع الندم والألم.

يقول إدواردو غاليانو  في كتابه “كرة القدم بين الظل والشمس” عن حارس المرمى: “…إنه وحيد. محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد. ينتظر وحيدا إعدامه رميا بالرصاص بين العوارض الثلاث. كان في السابق يرتدي الأسود، مثل الحكم. أما الآن، فلم يعد الحكم يتنكر بزي الغراب، وصار حارس المرمى يسلو وحدته بتخيلات ملونة”.

في كرة القدم تستطيع الجماهير أن تنسى أخطاء اللاعبين.. لكن أخطاء الحراس لا تغتفر.. حراس رائعون كثر، أنهت مسيرتهم أخطاء ساذجة، ربما لم تكن مسئوليتهم عنها كاملة.. لكن الجماهير أصدرت عليهم حكمها النهائي.

بالنسبة لجان لويجي بوفون “چيچي” الذي أعلن اعتزاله منذ أيام بعد مسيرة كروية امتدت لنحو من ثمانية وعشرين عاما- والذي اغترف من رحيق الكرة ومرها الكثير.. سيكون من الأفضل أن نضع المعاناة إلى جوار مشاهد التألق والمجد والتتويج.. فالألم والحزن وحتى الاكتئاب، عوامل مؤثرة فيما وصل إليه الحارس الإيطالي الذي يعتبره البعض أفضل الحراس عبر تاريخ كرة القدم.

“ليس المهم أن تحاصر خوفك فقط.. الأفضل أن تلغيه بالكلية كأن لم يكن” والخوف هنا هو الخوف من تكرار الخطأ الذي يسيطر على كثير من الحراس.. فقد أثبت علم النفس الرياضي، أن الخوف من تكرار الخطأ باعث على الوقوع فيه.. وربما كان من أهم أسباب تألق بوفون غير العادي.. أنه كان يدخل ملعب المباراة في كل مرة دون ذاكرة تقريبا.. “حتى تتحرر من مخاوفك.. استغرق تماما في اللحظة الراهنة”.

“كنت في الثانية عشرة عندما أدرت ظهري لك! نسيت الماضي، وحلمت بالمستقبل” هكذا خاطب حارسنا الفذ مرماه.. فلم يكن فعله هذا عن إعراض؛ بل بسالة على نحو ما، وليس النسيان للماضي إلا لإدراك الآن بكل تفاصيله.. كما أن الحلم بالآتي ليس إلا محفزا لليقظة التامة.

يتصور “چيچي” أن شيئا ما في هذا العمل يستلزم قدرا من الخيال، وقدرا آخر من التجريد.. وبعض القدرة على استدعاء الأمر كما لو كان في طور البداية.. في كثير من التصديات المذهلة ستجد بوفون وكأنما يصنع شيئا خارج المألوف، يمتلك فعله من الفرادة ما يمكن تفسيره بأنه وليد اللحظة دون أدنى خبرة سابقة.

“أتيت من عائلة رياضية مارست الرياضة بالأيدي فقط.. أمي رامية قرص، والدي ربّاع ورامي قرص أيضا، أختاي مارستا رياضة الكرة الطائرة على المستوى الدولي.. شقيق جدي حرس مرمى الميلان” لم يكن من الممكن أن يعطل “چيچي” يديه في الملعب على أي نحو كان.

في بارما كانت البداية، في سن الرابعة عشرة، وفي الفريق الأول بديلا وهو ما دون السادسة عشرة.. بعد عام وجد “چيچي” نفسه فجأة في مواجهة كتيبة الميلان الرهيبة بقيادة فابيو كابيلو.. بطل أوروبا وبطل الدوري الإيطالي لثلاثة مواسم متوالية.. في الهجوم باچيو وچورچ وايا الحائز على الكرة الذهبية، بالإضافة إلى باولو دي كانيو.

يصاب الحارس الأساسي لـ “الجيالوبلو” بوتشي، لتسنح الفرصة للفتى جان لويجي ليقول كلمته.. ثلاثة انفرادات يبطل مفعولها.. بالإضافة إلى التصدي لعدد من التسديدات القوية – وهبت بارما نقطة مستحقة، وكتبت شهادة ميلاد الحارس الأعظم.

لارتباط اسم بوفون باليوفي لفترة طويلة امتدت لنحو عقدين، يظن البعض أن أمجاده كانت مع البيانكونيري فقط، لكن تجربة المواسم الخمس في بارما لم تكن أقل ثراء.. ففي تلك الفترة كان الكالشيو أقوى دوريات العالم يعج بالمهاجمين الأفذاذ.. ولم يكن بارما من أقوى الفرق، لكن بوفون صنع الفارق؛ ليتوج “الجيالوبلو” معه بكأس إيطاليا1999، والسوبر الإيطالي والدوري الأوربي في نفس العام  بعد تألق “چيچي” في النهائي أمام مارسليا.. ولا ينسى مشجعو بارما لقاءات الفريق مع الإنتر في تلك الفترة، والذي كان يضم الظاهرة رونالدو الذي أقنعه بوفون عدة مرات، أن زيارة شباكه أمر بالغ الصعوبة.

لذلك كان الحارس الكبير آخر من فكّر في مغادرة الفريق، بعد حدوث الانهيار، وتوالي الضربات على رأس النادي.. فكان الانتقال إلى السيدة العجوز، هو الخيار الأمثل للشاب ابن الثالثة والعشرين الذي لم تدر رأسه ضخامة مبلغ العقد (50 مليون يورو) وكان أكبر مبلغ يدفعه نادٍ لضم حارس مرمى حتى ذلك الوقت- فلقد أدرك “چيچي” أن اللعب في صفوف البيانكونيري يختلف بالكلية عن اللعب لبارما.. فاليوفي ينافس على كل البطولات ولا ترضى جماهيره بمراكز الوصافة، وهذا ما يضع على عاتقه مسئولية كبيرة.. أعد بوفون نفسه جيدا ليكون أهلا لها.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock