شَغَافُ قلبِها يكاد يحترق وأنت بعيد، وسُويداؤه ستنزف إذا اقتربْت، فمالها ترجو لقاءك بالرغم من كل هذا البعد، وتخشى قُربك كلما دنوت؟! وما لها ما زالت تُحلِّق بعيدًا رغم حُرقة القلب راجية أي قرب حتى لو كان مصحوبًا بنزيف؟!
إنها قسوة الفراق التي تنجو منها قلوب العاشقين بالتعلق بأمل اللقاء مهما كان بعيدًا، وإنها مذلة العشق التي تدفع كل عاشق إلى عدم التخلي عن عشقه مهما طالت به الأيام وعزَّ اللقاء، وهي أيضًا شدة الغرام الذي يُغرِق كل عاشق في الهوى حتى النخاع فلا يكون له موت ولا تكون له حياة.
ولم يكن خطؤها أنها أحبته بل كان إثمه الوحيد أنه لابد وأن يكون محبوبًا، فكل جميل يجذب الأنظار وتهفو القلوب إلى التعلق به. وهو لم يكن جميل الطلعة وأنيق المظهر فحسب؛ بل كان جميل الخلق ورفيع القدر ونبيلًا مع كل الناس. فلماذا إذًا لا تحبه، وهو ذلك الرجل الذي لم تقابل مثله قط؟!
هي أيضًا لم يكن يُبهرها في الرجال جاههم أو ثرواتهم، فلم تكن تلتفت إلى سيارة فارهة يملكونها، أو منصب مرموق وصلوا إليه، أو درجة علمية يفتخرون بها؛ بل كانت تبحث عن رجل بحق يحمل كل معاني الرجولة الحقيقية التي أولها العقل المفكر الناضج، وثانيها الخلق النبيل القويم، وثالثها القلب الحنون السليم.
ولما انتابها اليأس من اجتماع كل تلك الصفات في رجل واحد، ظهر هو في حياتها كي يُطمئنها أنه ما زال يوجد بين الأحياء رجل بدرجة فارس الأحلام الذي ربما لا يجود به الزمان في أحسن الأحوال إلا مرة واحدة فقط في العُمر.
وبينما كان كل من يدَّعي الحب ممسكًا بشدة في السلسلة الحديدية التي يُقيد بها حركة محبوبه الذي يظن أنه مِلكًا له إلى الأبد، والذي يُفضل أن يستأثر بحبه وحده، لم يكن كل محبوب لمحب أناني إلا في حالة اختناق مثله مثل أيِّ كلبٍ مُدلَّل يجره صاحبه الذي يملكه بسلسلة حديدة تكاد تخنقه، ومع ذلك يدّعي مالكه حبه له وخوفه عليه. ولكنَّ الحقيقة هي أن ما يدفعه إلى أن يُحكِم قبضته على ذلك القيد ليس هو الخوف على حياة محبوبه، ولكنه الخوف من فقدان ذلك الرفيق المستكين الذي يعشق امتلاكه فحرمه أول ما حرمه من حريته كي يضمن دوام خضوعه واستكانته.
وكأن الوقوع في الحب هو خطأ المحبين الوحيد الذي يؤدي بهم إلى التخلي عن حريتهم إرضاءً لمن يحبونهم ممن لا يعرفون بكل أسفٍ معنًى آخر للحب غير معنى الامتلاك وأثَرته ومعنى الأسر وقسوته. وكأن على كل محب أن يفقه أولًا معنى الحرية قبل أن يبحث عن الحب، بل قبل أن يقع فيه ويُصيب قلبه سهمُه الغادر.
ويا ليتها وقعت في ذلك الأسر ولو ليوم واحدٍ فقط تذوق فيه القرب ممن تحب، ولكنها وجدت نفسها قد تحررت من كل أسر وانطلقت وراء محبوبها مُحلِّقة في الفضاء الفسيح بلا زاد ولا عتاد ولا حتى قدرة على الطيران، فلا هي لحقت به ولا هو مدَّ يده إليها لمساعدتها على التحليق بجانبه. فإذا بها تُحلق وحدها بعيدًا عنه وبعيدًا عن الأرض، فلا هي تقدر على العودة إلى الأرض مرة أخرى بكل ما فيها من سلاسل حديدية، ولا هي تقوى على مواصلة الطيران وحدها متحملة كل ما يتطلبه التحليق في السماء من حرية حقيقية.
وها هم كل من على الأرض يدعونها إلى الرجوع إليهم من جديد إشفاقًا عليها من وحدة المسير، بينما هي كلما حاولت أن تعود إليهم منعها حنينها إلى الصعود، وجذبها أملها في لقاء قريب بالمحبوب الذي تعلم أنه غادر ولن يعود.