ما أكثر البطولات التي تجاهلها التاريخ الرسمي أو نسيها او اسقطها من متنه٫ لأن شخوصها لم يكونوا من أصحاب السلطة أو المناصب وإنما كانوا من عامة الناس.
وفي مقابل تجاهل التاريخ الرسمي لنضالات وبطولات البسطاء يبرز الفن٫ لا سيما الشعبي٫ كأداة ووسيلة لحفظ هذا التراث المنسي٫ حيث يحول هؤلاء الأبطال إلى أيقونات يتغنى بها الناس ويرددون سيرتهم.
ومن أبرز أبطال تاريخنا العربي الذين خلدهم الفن: محمد الدغباجي المناضل التونسي الذي ظل كابوساً يؤرق الاستعمار الفرنسي لبلاده لسنوات طوال.
لم يكن الاستعمار الفرنسي لأرض تونس قد آتم بعد عامه الخامس حين ولد محمد الدغباجي في ولاية قابس في رحاب قبيلة بني يزيد عام ١٨٨٥.
نشأ الدغباجي نشأة وطنية ربّت في داخله بغضاً شديداً للاستعمار وهو شعور يظل يستعر في داخله بالرغم من اضطراره، مثل كثير من بني وطنه وأهل المستعمرات الفرنسية بشكل عام، إلى الانضمام إلى سلك الجندية في الجيش الفرنسي.
قضى الدغباجي نحو ست سنوات في صفوف الجيش الفرنسي في الفترة ما بين عامي ١٩٠٧ و١٩١٣ وكان يتحين الفرصة ليكون رصاص سلاحه في صدور العدو المحتل بدلاً من أن يكون في خدمته.
وأتته تلك الفرصة مع اندلاع المقاومة الشعبية المسلحة في ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي للبلاد الذي بدأ في عام ١٩١١ خاصة وأن اخبار المجاهدين الليبيين كانت تصل بشكل متتال إلى مسامع إخوانهم من التونسيين عبر الحدود المشتركة.
وجد الدغباجي ضالته في القائد الليبي خليفة بن عسكر الذي كان قد بدأ النضال ضد قوات الاحتلال الايطالي في منطقة نالوت وانضوى تحت لوائه عدد كبير من المجاهدين الليبيين إضافة إلى عدد من التونسيين الذين تمكنوا من الفرار من الاحتلال التونسي لبلادهم وتمكنوا من عبور الحدود.
وضع الدغباجي خطة محكمة مع خمسة من رفاقه للفرار من المعسكر الفرنسي الذي كانوا متمركزين فيه في مدينة تطاوين التونسيه٫ وتمكنوا بالفعل من الفرار ووصلوا إلى إخوانهم في ليبيا وانضموا الى بن عسكر في نضاله.
وتحت قيادة خليفة بن عسكر تمكن المجاهدون من تحقيق أكثر من نصر على القوات الإيطالية وتحرير عدة مناطق من التراب الليبي٫ إلا أن بن عسكر وفي خطوة تعكس بعد نظر شديد لم يكتف بحربه مع الإيطاليين وهو يدرك مدى خطورة وجود مستعمر آخر على حدود بلاده وبالتالي فتح جبهة أخرى مع الفرنسيين في الجنوب التونسي عبر الحدود الليبية وتمكن من تحرير عدد من الليبيين الذين كانوا معتقلين في السجون الفرنسية ومن ضمنهم أفراد من عائلته.
وهنا واتت الدغباجي الفرصه التي حلم بها طويلاً ليرد الصاع صاعين لمستعمري بلاده من الفرنسيين واظهر ضراوه في القتال وشخصيه قياديه جعلته ذا حظوة عند بن عسكر.
كون الدغباجي مجموعة من المجاهدين شنت هجمات ضد الفرنسيين عبر الأراضي الليبية٫ وهي خطوة سيكررها ثوار الجزائر بعد أربعين عاماً حين استغلوا وجودهم على أراضي كل من تونس والمغرب لشن هجمات داخل الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي.
خاض الدغباجي معارك عدة ضد الفرنسيين من بينها معركة جبل بوهدمة عام ١٩١٩ ومعركة “خنقة عيشة” في نفس العام ثم معركة “الزلوزه” في مطلع عام ١٩٢٠.
هنا وفي مواجهة هذه المقاومة التي باتت تستنزف جنوده٫ لجأ المستعمر إلى أسلوب العقاب الجماعي٫ حيث بدأ التنكيل ببني يزيد الذين ينتمي إليهم الدغباجي ومارس الاعتقال التعسفي بحقهم.
وحين لم يُجْدِ ذلك الأسلوب حاول المستعمرون استدراج الدغباجي من خلال أحد عملائهم الذي أرسل اليه رساله يطالبه فيها بالعوده إلى دياره ويومنه فيها على حياته.
إلا أن الدغباجي رد رداً يعكس مدى إدراكه الفطري لوحدة المعركة التي تخوضها الأمة ككل ضد الاستعمار الأجنبي حيث قال “أنتم تطلبون منا الرجوع إلى ديارنا لكن ألسنا في ديارنا؟ إنه لم يطردنا منها أحد، فحركتنا تمتد من فاس إلى مصراته٫ وليس هناك أحد يستطيع إيقافنا”.
ولكن وكما أن نضال الأمة الواحد٫ فجوهر الاستعمار أيضاً واحد وما كان الاحتلال الإيطالي ليحتمل وجود مناضل تونسي مثل الدغباجي على أرض ليبيا يكيل منها الضربات للفرنسيين٫ خاصة بعد أن عقد الفرنسيون محاكمة صوريه للدغباجي عام ١٩٢١ وأصدروا حكماً سريعاً وغيابياً بإعدامه.
لم يفتّ الحكم في عضد الدغباجي ورفاقه ولا في نضالهم ولكن الإيطاليون اخذوا يضيّقون الخناق عليهم داخل ليبيا حتى تم اعتقاله وتسليمه إلى الفرنسيين.
وفي عام ١٩٢٤ تم اقتياد المناضل العتيد لتنفيذ حكم الإعدام بحقه على يد جنود فرنسيين والذي تعمد المستعمرون أن يكون تنفيذه أمام عشيرته إمعاناً في الإذلال.
ولكن الدغباجي فوّت على المستعمر هذه الفرصة حين واجه جلاديه بشجاعة وإقدام وصاح في وجوههم وهو مبتسم: “لا أخاف رصاص الأعداء، ولا أجزع من الموت في سبيل عزّة وطني”.
ثم صاح البطل “الله أكبر ولله الحمد”.. لينال الشهادة ويتحول إلى أسطورة في ذاكرة شعبه وأمته.
وصاغ الوجدان الشعبي التونسي أغنيه خلّدت ذكر الدغباجي وبطولاته يقول مطلعها:
“جو خمسة يقصوا في الجرة وملك الموت يراجي
ولحقوا مولى العركة المرة المشهور الدغباجي”
وظل الدغباجي جزءاً لا يتجزأ من التراث النضالي للشعب التونسي حتى نال حريته في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين.
وكما احتضنت ليبيا نضال الدغباجي٫ احتضنت كل من تونس والمغرب عقب استقلالهما مجاهدي ثورة الجزائر حتى نالت استقلالها عام ١٩٦٢ بعد ثماني سنوات من النضال الدامي٫ لتكون هذه الثوره تطبيقاً حياً لما ذكره الدغباجي عن وحدة النضال من فاس المغربية وحتى مصراته في ليبيا.