رؤى

نعوش الشهداء.. وذعر الغزاة

مشهدان يبدوان متطابقان، كلاهما من جنازات شهداء فلسطين٬ الأول كان خلال جنازة الشهيدة الاعلامية شيرين أبو عاقلة، والثاني كان في جنازة الشهيد وليد الشريف، وكان مسرح المشهدين مدينة القدس، ولم يفصل بينهما سوى أيام معدودة.

في كلا المشهدين.. تنطلق الجنازة محاطة بالجماهير التي تحمل على الأكف والاعناق؛ جثمان الشهيد أو الشهيدة وتطوف بها شوارع المدينة المقدسة المحتلة، إلا أن قوات الاحتلال تُهرع لمهاجمة الجنازة ويستهدف جنودها النعش.

وعلى عكس المتوقع في موقف كهذا؛ فإن الأكف التي تحمل النعش، لا تفر لتنجو بذاتها؛ بل تتمسك به كمن يقبض على الجمر، وكأن الحفاظ على هذا النعش بات أهم من الحياة ذاتها.

في كلتا الحالتين.. يبدو وكأن هناك ما يثير ذعر المحتل، من مجرد نعش يحمل جثمانا قد فارق الحياة، ويُذَكّر هذا النهج في التعامل مع الجنازات، بنهج النظام العنصري السابق في جنوب إفريقيا الذي كان يهاجم جنازات من يقتلهم من الغالبية السوداء.

الأمر الذي يطرح سؤالا مفاده، ما الذي يخيف الجيش المصنف كرابع أقوى جيش على مستوى العالم، من جسدٍ مُسجّى داخل نعش؟ لماذا يهاجم جنده النعوش بهذه الضراوة، ويسعون لتفريق جنازات الشهداء؟

أغلب الظن أن ما يثير هذا الخوف لدى المحتل ليس النعش في حد ذاته، وإنما ما يمثله.. ما يرمز له.. ما يلتف حوله المشيعون.

قبل أن تنطلق جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وقبل أن يحمل نعشها إلى مدينتها التي طالما أحبتها.. مدينة القدس٬ بدا واضحا التفاف أبناء شعبها على اختلاف انتماءاتهم حولها كرمز وطني.

تجاوز المشيعون ما سعى البعض لتكريسه من اختلافات دينية ومذهبية، ولم يبد أنهم يبالون بانتماء الشهيدة الديني، حيث قرأ المشيعون من المسلمين الفاتحة على روح الشهيدة، ولم يجدوا حرجا في حضور قداس جنائزي على روحها.

كان لا بد لروح كهذه أن تقلق العدو الذي سعى لسنوات طوال لتفتيت الإجماع الوطني الذي مثلته تلك اللحظة الأيقونية؛ إلا أن سعيه فيما يبدو لم ينجح، فأهل القدس -مسلمين ومسيحيين- لازالوا متمسكين بعروبتها رغم كافة محاولات التهويد، وتغيير معالم المقدسات وطمس هويتها، ومقاومة الضفة التي عادت بعد غياب تبدو نسخة مصغرة من مقاومة غزة، وليست معزولة عنها.. لا سيما في مجال العمليات الفردية التي هزت الداخل المحتل، وأهل هذا الداخل المحتل عام ١٩٤٨، ورغم كافة محاولات الأسرلة ليسوا بمعزل عما يحدث في القدس بل هم في مقدمة المدافعين عنها.

كما أن وقوع كلتا الجنازتين في مدينة القدس، التي يصر المحتل على كونها “عاصمته” في تجاهل تام للقانون الدولي، ولكافة القرارات الأممية الصادرة بشأنها، يعيد تذكير الغزاة بأن في تلك المدينة شعبا عربيا مرابطا وصامدا؛ يأبي أن يندثر وأن تتهود مدينته، رغم مرور أكثر من نصف قرن على احتلالها.

بدا هجوم المحتل على النعوش، وكأنه محاولة من المحتل لوقف ما بدا، وكأنه استعادة عربية للقدس، ولو لبضع ساعات امتلأت فيها شوارع المدينة –لا سيما شرقها– بأهل البلاد، وتزينت سماء المدينة بألوان علم فلسطين.

إلا أن سعى العدو لم يُجْدِ؛ فتحولت شوارع القدس إلى ساحات معركة مفتوحة بين قوات الاحتلال، وأهل البلاد؛ فقد الاحتلال خلالها كما قالت صحيفة “هآرتس” الصهيونية صراحة السيطرة على شرق القدس، وتساءلت الصحيفة عما سيكون عليه الوضع لو أن الفلسطينيين انتفضوا في الداخل المحتل منذ عام ١٩٤٨، في مناطق مثل عكا أو النقب.

الحقيقة أن النعوش ترعب المحتل؛ بسبب قدرتها المدهشة على توحيد من يحملونها ويطوفون بها، حتى يوصلوها إلى مثواها الأخير، وهي –لعمري– قدرة يعجز دونها كثير من الأحياء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock