عند تتبع العلاقات التاريخية بين المسلمين واليهود يبدو وأنها تتميز بحالة من التداخل والتعايش، فرغم الخلافات الحاصلة بين النبي مُحمد وجماعة اليهود فى الجزيرة العربية والتى أورثت عداءً من المسلمين تجاه اليهود تُرجم فى عدة حوادث اضطهاد تجاه اليهود إبان فترات مختلفة، إلا أن الاسلام كفل لهم حرية العبادة وإقامة الشعائر والحياة الطبيعية داخل الدولة الإسلامية باعتبارهم (أهل الذمة) مشتركين فى ذلك مع المسيحيين، وطوال أكثر من ألف عام اندمج اليهود فى المجتمع الإسلامي كتجار وأطباء وسفراء للخلفاء والأمراء تحت حماية السلطة الزمنية الممثلة فى الخليفة أو السلطان.
وباتساع السيطرة الإسلامية وعبور المسلمين من آسيا وأفريقيا إلى أوروبا المسيحية، وصل اليهود إلى أرفع المناصب داخل الإدارة الإسلامية وعملوا كهمزة وصل بين خلفاء المسلمين وحكام أوروبا المسيحية، فاستمر الوجود اليهودي داخل الأراضي الإسلامية خاصة فى الأندلس (711-1492م) حتى عصر ملوك الطوائف، حيث هاجر اليهود من شبه الجزيرة الإيبيرية هربا من اضطهاد المُرابطين (1056-1147م)، ثم التعصب الكاثيوليكي بعد سقوط الأندلس 1492م.
تعددت وجهات اليهود إما إلى شمال إفريقيا والدولة العثمانية أو إلى الممالك المسيحية فى أوروبا الغربية، ومع استقرار بعض اليهود الفارين من الأندلس فى غرب أوروبا اتخذوا نمط حياة إخوانهم من يهود أوروبا، مثل الحفاظ على الخصوصية اليهودية والعيش فى (جيتوهات) خاصة داخل المجتمع الأوروبي، ومن ذلك حافظ اليهود على وحدتهم الدينية والثقافية حتى مطلع العصر الحديث، حيث اضطروا إلى الخروج إلى العالم وحتمية المواجهة، المواجهة التى خلّفت انقسام وتشتت يهودي يتشابه مع انقسام المسلمين فى أوروبا حول مدى القبول والتعايش داخل المنظومة الأوروبية العلمانية.
أبناء عمومة
تتميز العلاقة بين الاسلام واليهودية بحالة من التداخل والتعايش رغم حوادث العداء بين المسلمين واليهود، والتى بدأت منذ عصر صدر الاسلام ومازالت مستمرة بأشكال مختلفة إلى اليوم، فالمسلمون واليهود يؤمنون بالله وبالرسالات والكتب السماوية المُنزلة لهداية البشر والحساب والعقاب فى الآخرة، وإجلال أنبياء الله كالنبي ابراهيم والنبي موسى، كذلك تشمل اليهودية مع الاسلام نظام شامل للدين والدنيا وهو ما يجعلها أقرب إلى الاسلام من المسيحية.
فى حديثه يرى الدكتور عمر كامل -أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة لايبزج بألمانيا-: “بأن علاقة المسلمين باليهود لا يُمكن حصرها في ثُنائية العداء، بل أعتقد أن من الإنصاف التاريخي أن دارس الأديان السماوية الثلاث يكتشف أن الإسلام واليهودية من أكثر الأديان التي أثرت في بعضها البعض، فقد سعى الرسول -طبقًا للمصادر الإسلامية- لاستيعاب وكسب اليهود في المدينة للإسلام والمسلمين الأوائل”.
يتابع كامل: “بأن من يدرس قصة الإسراء والمعراج يرى الأهمية التي تُعطيها الرواية الإسلامية لسيدنا موسى، ومن يدرس العلوم القرانية يكتشف التواصل القرآني مع التراث العبري عبر الكثير من المُصطلحات والآيات القرانية، ومن يقرأ القرأن يعلم أن سيدنا موسى وبني إسرائيل هم أكثر من ذكروا في القرآن”.
بالنظر إلى التاريخ الإسلامي يُؤرخ -عادة- للعصر العباسي الأول (750-847م) بالعصر الذهبي للحضارة الإسلامية، حيث عمل العباسيون على نقل التراث اليوناني إلى المدنية الإسلامية الصاعدة وهو ما خلق حالة من التواصل بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى كان منهم اليهود، والتى تفاعلت لمئات من السنين داخل الأراضي الإسلامية.
فيرى كامل: “بأننا إذا ما تركنا التواصل الإسلامي اليهودي، نرى التواصل اليهودي مع الإسلام، فالديانة اليهودية كانت ديانة شفاهية تُورّث عبر الحاخامات، ولم يتم كتابتها إلا فى ظل الدولة الإسلامية منذ القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر، وعليه فمن يدرس المصادر اليهودية يكتشف تأسيس الشريعة اليهودية على أيدي موسى ابن ميمون وغيره ممن تأثروا كثيرًا بالفقه الإسلامي وخاصة بالإمام الشافعي، بل لعلي لا أقول شيئًا جديدًا حينما أقول بأن فقه التشريع اليهودي يُمكننا اعتباره فقه شافعي”.
الخروج من الجيتو
بملاحظة الوجود اليهودي فى أوروبا يبدو وكأنه يمتد لأكثر من ألفى عام داخل القارة العجوز، فمنذ هاجر بعض اليهود من الشرق خاصة من مدن فلسطين ومدينة الإسكندرية إلى أوروبا قبل صعود الإمبراطورية الرومانية، ورغم حوادث الصدام اليهودية الرومانية أو اليهودية المسيحية والتى زادت إبان العصور الوسطى، إلا أن اليهود قد نجحوا -رغم خلافاتهم الداخلية- فى عبور عصر الإيمان مُحافظين على كيانهم المُستقل ووحدتهم الثقافية مُتحصنين داخل الجيتو، حتى أقلقهم نابليون.
فى 14 يوليو عام 1789م وفى مدينة باريس يندفع الفرنسيون ليحتلوا سجن الباستيل -رمز الطغيان الملكي- ليسقطوه ويسقطوا معه النظام الملكي ويقيموا الجمهورية الفرنسية الأولى تحت شعار (حرية-مساواة-أخوة) متأثرين فى ذلك بفلاسفة الأنوار، فيما يُعرف بـ(الثورة الفرنسية)، أنذاك وفى محاولة الفرنسيين لبناء دولة قومية علمانية بعد تاريخ من المجازر والحروب الدينية برزت مشكلة الأقليات وأهمهم بعد المسيحيين غير الكاثيوليك، اليهود.
فى محاولة الأوروبيين والفرنسيين خاصة لبناء الدولة القومية برزت (المسألة اليهودية) وبرز الخلاف حول الهوية اليهودية، فهل يطيع اليهودي الدستور الفرنسي أم الشرع اليهودي؟ وهل ينتمى إلى جماعة اليهود أم إلى فرنسا؟، حيث لم يعتقد نابليون بوجود تعارض بين اليهود والفرنسيين، فقد أعلن فى عام 1791م قوانين (تحرر اليهود) والتى ساوت اليهود بسكان فرنسا المسيحيين.
وفى عام 1805م اجتمع الإمبراطور نابليون بونابرت بمُمثلي اليهود فيما عُرف في التاريخ الفرنسي ب(الجراند سانهيردرين)، وهو اجتماع قلما يعقده ممثلو اليهود، إلا إن كانت هناك حادثة مصيرية خاصة بهم، حيث طرح نابليون 12 سؤالا عن حقيقة ولاء اليهود، وهو ما وضع اليهود فى المواجهة. وذلك حسب كتاب (اليهود العرب فى إسرائيل) لمؤلفه عمر كامل.
فيقول كامل: “بأن نابليون وقف وخطب في الحضور من اليهود قائلا بأن اليهودية ديانة تمرّ في أزمة في كل بقاع العالم اليوم، وأن اليهود لا يعرفون المساواة بين الرجل والمرأة، ويحقرون المرأة، ويبيحون تعدد الزوجات، حيث يعيشون في عالم موازي ومعادي للمجتمع الفرنسي، متبعين فيه قوانين الشريعة اليهودية، لا القوانين الفرنسية”.
أمهل نابليون اليهود مدة عام للإجابة على مطالبه والإنصياع تحت مظلة الدستور الفرنسي وهو ما رفضه اليهود، حيث انقسموا إلى فريقين، فريق رافض لمطالب نابليون وهم (اليهود الأرثوذكس) وفريق قدم الحكم العلماني الجديد على الشريعة اليهودية وعرفوا بـ(العلمانيين)، وبناءً على الرفض اليهودي للاندماج الاجتماعي داخل المنظومة العلمانية رفضت أوروبا الحديثة اليهود كجماعة دينية، وقبلت بهم كأفراد داخل المجتمع لما عليهم من واجبات وما لهم من حقوق.
ومن الانقسام اليهودي حول تعريف الهوية توالد انقسام آخر، ففريق يؤيد البقاء والاندماج فى المجتمعات الأوروبية وفريق آخر يريد إنشاء دولة تلم شتات اليهود، ومن الفريق الأخير جاء المشروع الصهيوني والذى تبلور بقيام دولة إسرائيل عام 1948م على أراضي فلسطين التاريخية لتُحل مشكلة اليهود فى أوروبا بشكل كبير، وتُصدر أوروبا مشاكلها بعيدا عن أراضيها.
ثلاث ثقافات
بالحديث عن علاقة الإسلام بالمسيحية وأوروبا لا يمكن فهم الأوضاع الحالية بدون الرجوع إلى القرن السابع الميلادي، حيث هدد المسلمون أوروبا المسيحية شرقا عن طريق المحاولات المتكررة لدخول القسطنطينية وغربا فى عبورهم مضيق جبل طارق وفرض السيطرة الإسلامية على شبه الجزيرة الإيبيرية.
وبعيدًا عن التصور السلبي للإسلام لدى المسيحيين فى أوروبا إبان القرون الوسطي والذين يعتبرون الإسلام هرطقة مسيحية، فقد نشأت علاقات إسلامية مسيحية قوية شملت حروب واستردادات ودبلوماسية وتحالفات وتجارة ومصاهرات وإسهامات علمية متبادلة استمرت لما يقرب من 15 قرن.
استمر الوجود الإسلامي بأشكال مختلفة داخل الأراضي الأوروبية، ومع تطور العلاقات الأوروبية بالعالم الإسلامي بفعل الاستعمار والحربيين العالميتين، زاد عدد المسلمين المهاجرين إلى أوروبا ليصل إلى ما يقرب من 44 مليون نسمة -حاليًا- أى حوالى 6% من إجمالى سكان أوروبا، وبظهور التجمعات الإسلامية فى أوروبا ظهرت مشكلة الاندماج مع المنظومة الأوروبية العلمانية والتى تصاعدت فى الآونة الأخيرة بفعل موجات الهجرة ونمو الحركات الإسلامية، مما يُبرز سؤال الهوية والاندماج -لدى المسلمين المهاجرين- والذى سألته أوروبا لليهود بالأمس.
يعتقد عمر كامل: ” بأن هناك تشابه فيما يُلاقيه المسلمين اليوم من طلبات مُشابهة من سياسيين أوروبيين وما لاقاه اليهود قريبًا، حيث يُشكل ذلك تحديًا كبيرًا يواجهه مُسلمي أوروبا اليوم، يغذي ذلك التجربة الاستعمارية، فأوروبا صاحبة جريمتين من أبشع جرائم العصر وهما المحرقة ضد اليهود، والاستعمار. غير أن أوروبا أعترفت بجريمة المحرقة مُتصالحة مع اليهود، إلا أنها ترفض إلى اليوم الاعتراف بجرائمها الاستعمارية وخاصة الفرنسية منها ضد المسلمين في شمال افريقيا والذين يُمثلون نسبة كبيرة من المجتمع الأوروبي، وهذا ما يضع أوروبا على المحك، ويجعل استيعاب المسلمين في أوروبا أكثر تعقيدًا”.
يتابع كامل: “بأننا -كمسلمين- يجب أن نستفيد من التجربة اليهودية فى الاندماج وذلك بالمعرفة!، حيث تعاني مجتمعاتنا العربية الإسلامية -للأسف- من عدم إقبالها على دراسة الآخر وقراءة تجاربه، فلا يمكن لنا أن نعيش في عالم يؤثر فينا ونحن نجهله، وعليه أتمنى أن يكون هناك اهتمامًا أكثر وأعمق في المجتمعات العربية الإسلامية بالقراءة عن اليهود عمومًا، وتجربتهم في الدياسبور (الشتات) خاصة، حيث تعلم اليهود عبر تشردهم وشتاتهم التاريخي كيفية المثابرة على الحياة والتلائم مع الأجواء التي يعيشون فيها من أجل حماية هويتهم بشكل أو بآخر”.
من جهة أخرى يرى الدكتور وائل صالح أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة كيبك الكندية فى حديثه: “أنه من الصعب مقارنة تجربة اندماج اليهود فى أوروبا بتجربة المسلمين، فالحضارة الغربية فى مراحلها المختلفة تُسمى بالحضارة المسيحيويهودية، أما الاسلام ورغم العلاقات التاريخية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، فهو وافد جديد عليها، حيث لا يُشكل رافدًا أساسيًا من روافد الحضارة الغربية”.
يعتقد صالح بأن: “جزء كبير من مشكلة الاندماج التى يواجهها المسلمون فى فرنسا وأوروبا عمومًا، ترجع إلى رغبة (الإسلاموية) فى احتكار التحدث باسم الإسلام، وذلك بتصدير نمط تدينهم -المُجافي لأدنى معايير التعايش- كأنه الإسلام، زاد على ذلك اعتبار بعض الباحثين الغربيين بأن جماعات الإسلام السياسي هى الإسلام نفسه، أو أنها تُشكل التيار الغالب فى عموم المجتمعات الإسلامية”.
يتابع صالح: “بأن شرائح اجتماعية غربية تُسيطر عليها النظرة الاستشراقية لـ-برنارد لويس- والتى تقول بأن الإسلام دين سياسي بطبيعته، تُشكل الدولة رُكنًا من أركانه، آخذًا من اليهودية فكرة (القانون الإلهي) المُنظم لكافة شؤون الإنسان، وهذا ليس صحيحًا، فالربط بين السياسي والديني موجود فى الأديان الإبراهيمية الثلاثة وهو ما وضّحه بعض الباحثيين الغربييين، فالأصوليات فى المسيحية والإسلام واليهودية لديها تقريبا نفس النظرة إلى العالم ونفس العداء لفصل الدين عن الدولة”.
تصريح أثار أزمة
مؤخرًا أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجدل بتصريحاته الأخيرة عن الإسلام، والتى قال فيها بأن (الإسلام دين يعيش فى أزمة)، حيث أدان الأزهر وعدة مؤسسات إسلامية حول العالم تصريحات الرئيس الفرنسي، يعتقد صالح بأن: “ماكرون أساء التعبير عما يريد قوله، فمُجمل خطابه كان عن الإسلام السياسي وأخطاء الحكومة الفرنسية إزاء تمدد الأصوليات فى المجال العام الفرنسي، وقد فهمت من تصريحاته أن المسلمون يعيشون فى أزمة فى كل مكان فى العالم بسبب الإسلاموية، وهو ما يجب أن نلتفت إليه”.
من جهته يرى عمر كامل: “بأن ماكرون أخطأ حين قال بأن الإسلام في أزمة، لسببين: الأول لو هناك أزمة في الإسلام فهو دوري ودورك ودور كل مسلم وليس دور ماكرون، السبب الثاني هو أن ماكرون ليس فيلسوفًا ولا مُفكرًا وإنما هو رئيس جمهورية، وعليه أن يقدم حلول للمسلمين، لا أن يحكم عليهم بأن ديانتهم فى أزمة وبذلك ينفى المسؤولية عن نفسه، وعليه فتصريح ماكرون هو محاولة لكسب ود الشارع الفرنسي على حساب المسلمين وعينه تنظر على الانتخابات الرئاسية القادمة”.
وبعيدا عن التصريحات السياسية يرى كامل: ” بأن ما نحتاجه كمسلمين هو أن نتواصل مع الآخر، وأن نُعيد قراءة تراثنا الديني بما يُعطي المسلم فرصة للحياة والنجاح في مجتمعه الأوروبي دون الانسلاخ عن هويته الدينية، فهناك من المسلمين من يدعم رؤى إصلاحية للتعايش وهناك من يعارضه وهناك من يعارض كلاهما، وبالتالي نحن نتواجد في معمل تجارب، وما يهمني هو كيف ندعم نحن المسلمين في أوروبا التيارات والأحزاب الأوروبية التى تسعى للحوار مع المسلمين من أجل مُستقبل يقوم على أوروبا جديدة، يعيش فيها الجميع سواسية أمام دستور البلاد التي يعيشون بها.