رؤى

فرصة لمصر مع بايدن.. بقلم عبد العظيم حماد

على عكس التيار السائد لدى الرأى العام المصري، و لدى كتاب و مذيعي البروباجندا ، فإنني ألمح فرصة حقيقية وكبيرة ومهمة ينبغي أن لا تضيع فى سقوط دونالد ترامب من منصب الرئاسة الأمريكية، ومجيء الديمقراطي جو بايدن خلفا له، وهو الرجل الذى شغل طويلا منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشيوخ، و يعرف الشرق الأوسط ومصر جيدا، وسبق له الاتصال المباشر بالشخصيات المؤثرة، وبالقضايا الكبرى فى المنطقة، فضلا عن أنه كان نائب الرئيس فى إدارة سلفه الأسبق باراك أوباما التى عاصرت كل تحولات مصر والأقليم فى أثناء ثورات الربيع العربي وبعدها .

تتمثل هذه الفرصة فى دور مصري نشط يحفظ مصالحنا السياسية والاستراتيجية والاقتصادية طويلة الأجل فى مواجهة مشروع ترامب/نتنياهو الشرير لإقامة تحالف استراتيجى إسرائيلى خليجى، وهو تحالف يمتد إلى السودان وأثيوبيا وبقية القرن الأفريقى ومدخل البحر الأحمر، ولايقتصر فقط على الشق الأمنى فى مواجهة نفوذ إيران بما فى ذلك مشروعها النووى، بل يشمل مشروعات ضخمة للتعاون الاقتصادى ، وهى مشروعات – بحسب المعلن عنها – تكاد تقترب من إقامة سوق مشتركة خليجية إسرائيلية، ويصبح السودان والقرن الإفريقي فناءها الخلفى، على أن تجبر الأردن والعراق فيما بعد- بحكم ضرورة نظرية الدومينو- على الإلتحاق بمؤخرة الركب.

https://www.youtube.com/watch?v=JlOg38SxoNM

من تلك المشروعات خطوط ومحطات لنقل صادرات الغاز والبترول الخليجية عبر الأنابيب إلى الموانئ الإسرائيلية، وشبكة للسكك الحديدية وسائر خطوط النقل البرى ، واستثمارات خليجية ضخمة ومتنوعة داخل إسرائيل نفسها، فضلا عن اتفاق الخليجيين مع الإسرائيليين على احتكار مرور كابلات شبكة الإنترنت بين جنوب آسيا وبين أوروبا و التعاون الثقافي والسياحي.. إلخ.

مخاطر هذا التحالف من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية على مصر ودورها و علاقاتها ومصالحها الإقليمية أكثر من أن تحصى، وأشد من أن يستهان بها، وتتجسد هذه المخاطر أمامنا إذا تساءلنا مثلا :ما الذى ستنقله شبكة السكك الحديدية وأساطيل النقل البرى بين إسرائيل و بين دول الخليج؟  ما دامت الصادرات الخليجية الرئيسية- بترولا وغازا- سوف تنقل بالأنابيب مباشرة أو بالناقلات إلى ميناء إيلات على رأس خليج العقبة ثم بالأنابيب إلى ميناء حيفا، وبالطبع دون إغفال مخاطر هذا المشروع الأخير على عائدات قناة السويس ومشروع سوميد المصري من تجارة النفط والغاز، وهى بالقطع مخاطر كبيرة .

نعلم أنه ليس لدى الدول الخليجية صناعات تصديرية مهمة سوى النفط، وهذه لا تحتاج سكة حديد لنقلها إلى إسرائيل، ونعلم أن إسرائيل هى الأخرى ليست قوة صناعية كبرى، وإن كانت -دون جدال – قوة تكنولوجية عظمى، ومن المتفق عليه أن الاقتصاد الإسرائيلي لم يطور قطاعا للصناعات الثقيلة والصناعات المتقدمة بسبب صغر حجم السوق الإسرائيلية، والعجز عن المنافسة -لأسباب اقتصادية وجغرافية – فى الأسواق العالمية الكبرى البعيدة .

نتحدث عن صناعات مثل السيارات والقطارات والسفن والطائرات وآلات المصانع وآلات البناء والتشييد وسائر الصناعات الهندسية المتطورة، فضلا عن الصناعات العسكرية على نطاق كبير.

https://www.youtube.com/watch?v=kGIt4aVHBQ0

ومن المفهوم أن مخططى المشروع الصهيونى منذ البداية، ثم الآباء المؤسسين لإسرائيل كانوا يتطلعون إلى المحيط العربى حولها ليكون هو السوق الطبيعية لمنتجاتها عندما تتحول إلى قوة صناعية كبيرة، لكن سنوات الصراع وسياسة المقاطعة العربية الشاملة حالت دون هذا التطور، مما دفع القطاع الصناعي الإسرائيلي إلى التركيز على التكنولوجيا المتقدمة سهلة النقل إلى الأسواق البعيدة، وعالية العائد الاقتصادى، ليس فقط فى مجالات التنقية والمعلومات، بل أيضا فى مجالات الزراعة والري، وتحلية المياه، والطاقة المتجددة، إلى جانب الصناعات الكهربائية والكيماوية والاستهلاكية الخفيفة .

من هنا فإن دمج اقتصاد إسرائيل فى السوق الخليجية بالاستثمارات الضخمة ومشروعات النقل العملاقة يوفر السوق الواسعة التى ظلت تحلم بها طويلا، خصوصا وأن هذه السوق الخليجية تمتلك فوائض مالية هائلة، وهى نهمة دائما لمشروعات البنية التحتية والتشييد والسلاح، كما أن المستهلكين فيها – مواطنين ووافدين – يتمتعون بقوة شرائية كبيرة ونهمة هي الأخرى دائما للسلع الاستهلاكية والترفيه .

كذلك يمكن أن تمتد شبكات النقل والتصدير الإسرائيلية من شبه الجزيرة العربية إلى القرن الإفريقي .

المحصلة ستكون إذن نموا هائلا و سريعا و مطردا فى اقتصاد إسرائيل الصناعي، ومن ثم فى قدرتها على استيعاب مزيد من المهاجرين اليهود ، ليس فقط بدوافع إيديولوجية صهيونية، ولكن أيضا بدوافع اقتصادية ومعيشية بحتة، وبالطبع فهذا التطور المؤكد سوف يساهم فى حل المشكلة الديمجرافية، المسماة فى الأدبيات الصهيونية بالقنبلة السكانية، أى تحول العرب الفلسطينيين إلى أغلبية داخل فلسطين التاريخية بمرور السنوات .

فإذا امتد التحالف الخليجى الإسرائيلي إلى السودان وإثيوبيا – كماهو مقرر- فلن تقتصر طاقاته الاقتصادية لمصلحة إسرائيل على القطاع الصناعي، ولكنها ستشمل أيضا قطاعات الزراعة والري والغذاء والصناعات الغذائية، فى وقت تضمن فيه سوقا هائلة و جاهزة لاستيعاب الصادرات من هذه القطاعات، وبدلا من تحقيق الحلم التاريخي المتجدد والطبيعي بالتكامل المصري السوداني، والذى يزداد إلحاحه مع تفاقم الزيادة السكانية فى مصر، فإن هذا الحلم سوف يتبدد مرة واحدة وإلى الأبد.

https://www.youtube.com/watch?v=YpR1Ig_LT_8

وما دمنا وصلنا إلى هذه النقطة، فسوف يكون بمقدور الحلف الإسرائيلي الخليجى مع الوقت النفاذ إلى المشرق العربى، وربما شمال إفريقيا “العربى أيضا”.

دون أدنى شك ستكون كل هذه التطورات وخيمة العواقب علينا كمصريين من كل النواحى، وذلك من منظور الأمن القومي الشامل، فهى سوف تؤدى إلى مزيد من إضعاف مكانة مصر الاقليمية، وربما إلى شكل من أشكال العزلة الخانقة فى مجال حركتنا الطبيعى ، وسوف تقتطع من حصتنا فى فرص النمو الاقتصادي، وفى خلق الثروة من خلال التعاون الإقليمي، كذلك فإنه ليس من الحكمة افتراض أن العلاقات السلمية بين الدول تنفى المنافسات الإقليمية، وتعارض المصالح الاقتصادية و السياسية، فإسرائيل نفسها لا تفكر على هذا النحو، ونحن أيضا لا نفكر كذلك، بل إن المنافسة قائمة بين الاتحاد الأوروبى مثلا، والولايات المتحدة، وهم حلفاء حاربوا كثيرا جنبا إلى جنب، بل إن المنافسات قائمة داخل دول الاتحاد الأوروبي نفسه، كالصراع الدائم حول دعم الصادرات الزراعية، أو ضرائب القيمة المضافة، وقيمة أجر ساعة العمل، وهي عناصر تؤثر فى أسعار الصادرات ارتفاعا وانخفاضا، بما يؤثر على معدلات البطالة والربح والحصيلة الضريبية.. إلخ .

يضاف إلى ذلك كله أنه ليس بوسع أحد الثقة فى تخلي اليمين الصهيونى المهيمن فى إسرائيل عن طموحات القيادة الأقليمية، وسياسات الابتزاز على المدى الطويل .

هل يرى أحد فى هذه النذر مبالغات أو مجرد هواجس متشائمة؟

حسنا فلنتذكر تحولات أو لنقل نجاحات المشروع الصهيونى منذ كان مجرد حبر على ورق قبل أكثر قليلا من قرن من الزمان ، ثم وعد بلفور، فقيام الدولة، فانتصاراتها العسكرية، ثم تحولها من مجموعة مستوطنات زراعية لا تستطيع أحيانا دفع رواتب موظفيها إلى أقوى قوة اقتصادية وعسكرية فى الإقليم تحتكر وحدها السلاح النووى، وتمنع الآخرين قوة واقتدارا من مجرد التفكير فيه .

يبقى السؤال، وهل مجئ بايدن رئيسا للولايات المتحدة يمكن أن يوقف هذا القطار الخليجي الإسرائيلي المندفع بأقصى سرعة، بما يوفر فرصة لمصر لاعادة تقويم الموقف، ومراجعة الحسابات، والتحرك لتأمين مصالحها ومكانتها؟

بايدن ونتنياهو
بايدن ونتنياهو

الإجابة هى نعم مؤكدة، ليس لأن بايدن لايحب إسرائيل أو يمانع فى التطبيع الخليجى معها، فذلك رجح بعيد، ولكن الحيثيات هى أنه ليس ترامب الذى يضغط بقوة و قسوة على الفلسطينيين، ويوفر غطاء حمائيا لانتهاكات الحكام العرب ماداموا ينخرطون فى المشروع الإسرائيلي، كما أنه يرى من خبرته بالمنطقة أن السلام حقيقيا ووطيدا دون حل المشكلة الفلسطينية ، وهنا فرصة حقيقية لإحياء الدور المصري الفاعل فى هذه القضية، وستجد الدبلوماسية المصرية فى واشنطن تجاوبا مؤثرا من كثيرين أرهقتهم الوصاية الإسرائيلية على السياسة الأمريكية فى عموم الشرق الأوسط، حتى من بين اليهود الأمريكيين أنفسهم، كحركة جى استريت مثلا، أو بين التيارالذى لا يستهان به والذى ساند ومازال يساند المرشح الرئاسي برنى ساندرز فى تمهيديات الحزب الديمقراطى، بالاضافة طبعا إلى الأوساط الأكاديمية، والصحفية، والمثقفين، ومراكز الفكر الاستراتيجى، ثم إن بايدن مهتم بالتفاهم الشامل مع إيران حول برامجها النووية والصاروخية وأدوارها فى الخليج واليمن وسوريا ولبنان .. والأهم بالنسبة له حول العراق، وبمنطق الأمور سيؤدى التفاهم الأمريكى الإيرانى إلى عودة ملف الأمن الخليجى مرة أخرى إلى أيدى الأمريكيين بدلا من الأيدى الإسرائيلية، ولنتذكر أن الرجل يخطط لدعوة السعودية والإمارات للمشاركة فى المفاوضات مع إيران ..كما قال هو بنفسه، فإذا أضفنا إلى هذه النقطة المتمثلة فى تقليل حاجة الخليجيين إلى إسرائيل أمنيا ( كما يقول دعاة التطبيع هناك) وجود معارضة قوية لهذا الغرام بإسرائيل داخل الأسر الحاكمة فى الإقليم الخليجي، وبين المثقفين والإسلاميين، فهنا أيضا فرصة مصر للتحرك خليجيا، ونحو إيران التى يجب على الدبلوماسية المصرية التوقف عن تجاهلها، ولعله مما يحسب لصانعى السياسة الخارجية المصرية فى هذا السياق مبادرة الحوار الاستراتيجى الثلاثى الأخيرة بين مصر والعراق والأردن، فى انتظار عودة سوريا، وذلك لموازنة ذلك المشروع الشرير الذى سميناه مشروع ترامب /نتنياهو، وأما حاجتنا إلى السودان وحاجة السودان لنا فهى أعمق وأوضح من الحث على إدراكها والعمل بمقتضاها .

أخيرا ليس من اللائق أن تستمر دولة فى حجم مصر ماضيا وحاضرا ومستقبلا وحجما ودورا فى رسم استراتيجياتها وسياساتها الداخلية والخارجية على قاعدة واحدة ونحوهدف واحد وهو مناهضة مشروع الإسلام السياسي فقط.. إذ لا شيء منطقيا يمنع التحرك بكفاءة وفاعلية على كافة المحاور والجبهات، ولنترك وراء ظهورنا خرافة أن إدارة أوباما الديمقراطية هي التى سلمت حكم مصر بعد ثورة يناير إلى جماعة الإخوان،  وأن بايدن سيعيد تلك الكرة الخاسرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock