بعد موجة غضب شديدة على مواقع التواصل الاجتماعي عقب عدة فيديوهات لما اسماه البعض طفل المرور، واستنكار الجمهور لسلوك الطفل، وإذا كان سلوكًا مكتسبا أم حالة عمى أخلاقي يعيشها المجتمع في ظل غياب واحترام القانون واستدعاء ظاهرة “مراكز القوى” خاصة وأن تلك الحادثة لم تكن الأولى من نوعها في مجتمع قائم على العلاقات والمحسوبية والامتيازات الفئوية، أعلن نادي القضاة عن اتخاذ إجراءات بشأن ما اسماه “تمادي بعض مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام في اتخاذ واقعة الطفل نجل نائب رئيس محكمة استئناف الإسماعيلية، للنيل من السلطة القضائية”، ونغمة “التحسّر” على أخلاقيات الجيل وعيوب المجتمع المعتادة لدرجة أكاد أجزم أنه حتى في زمن المصريين القدماء سنجد من الأسرة التاسعة من يتحسر على أخلاقيات الأسرة السابعة!!، لكن الحقيقة هي أنه بينما نحب أن نفكر في أنفسنا على أننا عادلون وأخلاقيون وقانونيون، فإن العلم الحديث يوضح لنا أننا قادرون تمامًا على ارتكاب أفعال غير أخلاقية، أو الموافقة على الأفعال غير النزيهة للآخرين ، حتى عندما نعتقد أننا نفعل الشيء الصحيح، فهل ستتحسر علينا أم ستديننا الأجيال اللاحقة؟.
https://www.youtube.com/watch?v=uoNUun2HEno
في لحظة ما من التاريخ، كانت الإمبراطورية الرومانية تمارس بشكل اعتيادي الأضحيات البشرية، والقتل للترفيه، تقدر ماري بيرد معدل الوفاة ب 8000 مصارع سنويًا، وقد تم قتل ما يقرب من 10000 مصارع في الألعاب للاحتفال بفوز الإمبراطور تراجان Trajan على داقية Dacians وحلفائها1جيرالد جونز .”النقاط الأخلاقية العمياء”، ترجمة: علي رضا، منصة معنى، وذات مرة في مكان ما في العالم كانت العبودية وسبي النساء ووأد البنات أمرًا عاديًا وله مبرراته، وعلى مر التاريخ كانت المجتمعات تعاني من نقاط أخلاقية عمياء فإلى وقت قريب لم تختفي العبودية حتى منتصف القرن التاسع عشر، كما كان ضرب الزوجة والأولاد يعتبر واجبا أبويا، بل كان يتم حرق أو قتل أو اضطهاد مجموعة ما بسبب لون بشرتهم، أو عقيدتهم، أو انتمائهم السياسي(لحظة..هذا ما يحدث إلى الآن)، وغيره من أشكال العنف و”سستمة” الاضطهاد ضد فئات مهمشة أو أقليات داخل المجتمع، وبالنظر إلى هذه الفظائع من السهل أن نسأل: هيّا الناس دى كان في دماغها ايه؟ هيا العالم دي ماعندهاش حسّ أخلاقي سليم يشوفوا الجرايم اللي بيعملوها؟!، ومع ذلك، هنا احتمالات أن تتكرر نفس الأسئلة من أحفادنا بعد رؤية الفيديوهات ومقاطع الأخبار والقصص عن بعض ممارستنا في الحياة اليومية التي أصبحنا نراها بشكل طبيعي.
يحتوي الماضي والحاضر على كثير من الأمثلة لتلك الحالات الأخلاقية البغيضة، لدرجة تدفعنا للتساؤل عن علة عدم تمكن رؤية ذلك بوضوح، بدأت أشعر أن الرحلة تمر من اليقين إلى الشك وليس العكس، نحن نفقد مع الوقت كل القيم الإنسانية ويحل محلها الازدواجية والوحشية والطبقية البغيضة، مع الوقت نقفد اليقين في الأشياء، نفقد الثقة المفرطة في مفاهيم العدل والمساواة والقانون، ويتضاعف الأمر مع وجود كم من التبرير والحجج لتحويل انتباه الأشخاص بعيدًا عن إحساسهم بالمسؤولية والذنب، يحب المجتمع تبرير تلك الممارسات لتجنب الكلفة النفسية المرتبطة بالكذب على أنفسهم، كما قال ديستوفيسكي “ارتكاب الخطيئة عمل إنساني، لكن تبريرها عمل شيطاني”، يلعب التبرير دورا مهما في هذه المعادلة، لأن الناس يحبون أن يشعروا بالإيجابية تجاه أنفسهم، لكن إلى أي مدى يمكن للإنسان التمادي بدون الكلفة الأخلاقية؟.
العمى الأخلاقي
ماكس إتش بازرمان، الأستاذ في هارفارد بيزنس ناقش البقع العمياء في كتابه: “لماذا نفشل في فعل الصواب وماذا نفعل حيال ذلك”، بارزمان عرفها على “أنها تحيزات جنسانية أو عرقية، تتأثر بتضارب المصالح وتفضيل مجموعة ما على أخرى، بحيث يحدث كل هذه الأعمال غير الأخلاقية دون أن يدرك أي شخص أنه ارتكب خطأ ما”2https://hbswk.hbs.edu/item/blind-spots-were-not-as-ethical-as-we-think، لدينا جميعًا نقاط عمياء حرفية: قرص في الجزء الخلفي من كل عين حيث يتصل العصب البصري بالشبكية ولا توجد قضبان أو مخاريط لاستقبال ومعالجة الضوء الذي يضرب هناك، ومن ثم لا تتوفر معلومات بصرية من هذا القرص البصري،وعادة ما يملأ دماغنا أو عيننا الأخرى هذه الفراغات البصرية، يمكنك إيجاد النقطة العمياء الخاصة بك على النحو التالي:
اقلب الصفحة على جانبها واغلق عينك اليمنى، امسك الصفحة على بعد طول ذراع وركز بصرك على الدائرة الحمراء،حينها سترى علامة X من زاوية عينك، قم بتحريك المجلة ناحيتك ببطء شديد، مع الحفاظ على تركيز بصرك على الدائرة الحمراء، في لحظة ما ستختفي علامة X، حيث سيسقط الضوء المرتد منها على النقطة العمياء لعينك المفتوحة، مع عين واحدة فقط مفتوحة، لم نتمكن من رؤية العلامة X، مهما حاولنا، وبالمثل، يبدو الأمر كما لو أن أسلافنا كانت لديهم عين واحدة فقط مفتوحة فيما يتعلق بالأمور الأخلاقية، ولم يتمكنوا من رؤية التناقضات في تطبيقهم لقيمهم، وهو يشير مجازًا إلى الحالات التاريخية التى أُنكرت فيها القيمة الإنسانية لمجموعة من الناس، فالعبودية والأضحيات البشرية ومعاداة المرأة والتعذيب والمجازر والتعدي على الآخرين بحجة نفوذ وسلطة طبقة معينة وتضخم الأنا والسلطة المتطرفة لدى البعض، كلها جرائم ضد الكرامة الإنسانية، لكن أليس من الغريب إدانتنا لها في الوقت الحالي وقبولها في السابق أو على الأقل تقبلها من مجموعة لديها النفوذ والسلطة حاليًا؟.
بالتالي إذا كنّا نحاول اكتشاف النقاط العمياء لدينا يبدو لي أننا يجب أن نكون أكثر تشككًا في ثقافتنا، متجاهلين الحجج بأن كرامة الإنسان يتم ربطها بظروفه وبيئته وفئته وطبقته، لمعالجة هذا الأمر لابد أن نتفحص مجموعة من التفسيرات المختلفة للمفهوم:
النوع 1: العمى الأخلاقي: ألا نكون قادرين على رؤية ما قد يكون خطأ، ربما لافتقارنا إلى الحقائق الضرورية التي تمكننا من إصدار حكم.
النوع 2: قصر النظر الأخلاقي: أن نفشل في رؤية قضية ما باعتبارها قضية أخلاقية، ربما نتيجة تشوه منظورنا الأخلاقي.
النوع 3: الرضا الأخلاقي المتغطرس: ألا نبذل جهدًا كافيًا لرؤية ما قد يكون خطأ، ربما لتأكدنا المفرط من صلاحنا.
النوع 4: التنافر المعرفي الأخلاقي: أن نكون قادرين على رؤية التناقضات والتضاربات في قيمنا وأفعالنا، لكننا طورنا استراتيجيات لعزل هذه المعرفة عن عملية صنع قرارتنا.
النوع 5: التعامي الأخلاقي: أن نكون قادرين على رؤية أننا نطبق مبادئنا الأخلاقية بشكل غير متسق، لكننا نتجاهل هذا كما لو أنه لا يحدث.
النوع 6: الضعف الأخلاقي: أن نكون قادرين على رؤية ما قد يكون خطأ، لكننا لا نفعل شيئًا حيال ذلك بسبب ضعف الإرادة.
النوع 7: التشوه الأخلاقي: أن نكون قادرين على رؤية ما قد يكون خطأ، لكننا لا نتحدث عنه (ربما بسبب الخوف أو القمع أو التقاليد أو التحريم) .
ومهما كان التفسير فالطبقات الاجتماعية وجدت لتكمل بعضها بعضا بحيث تكون النسيج النهائي للمجتمع بشكل انسيابي بدون مصادمات أو امتيازات طبقية، حقيقةً الأصل في الإنسان هو الصراع، صراع مع العالم، صراع مع نفسه، صراع مع ظروفه، صراع مع الطبقات الاجتماعية الأخرى، لكن بالنظر للفرق الكبير بين طبقات المجتمع الذي أصبح متطاحنا ومتباعدا بشكل عام هو شيء محزن، عندها تزداد حدة الصراع لدى كل شخص في البحث عن المكاسب والمزايا من طبقته على حساب الطبقات الأخرى، وتتنافر الفجوات بين الطبقات ليصبح مجتمعا مهترئا ضعيفا، يتحول إلى غابة يصبح البقاء فيه للأقوى والأحقر و”اللي مش عاجبه يمشي”.
إزاحة الغمة
بعض الحجج التي كانت ولا زالت لهذه الممارسات تجعل الناس تبرر أو تدافع عن أقذر وأبشع الأفعال بحجج لا يمكن لعقل أو منطق تقبلها، إن المدافعين عن تلك الممارسات يميلون لتقديم مبررات مضادة، بمعنى أنهم يتذرعون بالتقاليد أو الطبيعة البشرية أو هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا (تصريحات مسؤول عن عدم جواز تعين أبناء عامل النظافة)، كما ينخرط المؤيدون لتقبل هذه الممارسات تحت “المنفعة الاستراتيجية”، فهم يحصلون على منفعة ومزايا من تلك الممارسات، وبالتالى يقتصر الحس الإنساني والقيمة الجوهرية للإنسان على ما يشبهونهم فقط “التفكير القبلي” بمستوياته؛ من نفس القبيلة أو الطبقة أو الفئة الإجتماعية، اللي بينهم علاقات وامتيازات لو راحت مش هايعرفوا يعيشوا فالمجتمع(يعني نعملهم ايه أحنا أسيادهم..ماكنش قدامنا بديل تاني)، فبالطبع يتم تقبل وتبرير تلك الممارسات لأنها أصبحت مسألة حياة أو موت بالنسبالهم، وبالتالي بمجرد أن يقتنع المجتمع بأن مجموعة ما من البشر ليست ذات قيمة، يطلق العنان من قِبل أصحاب الامتيازات- بدءً من صغيرهم قبل كبيرهم -وراء الكسب غير المشروع من تضخم الإيجو والسلطة، حتى وإن كان على حساب انتهاك كرامة وإنسانية الآخر، الأمر الآخر أنه لطالما كانت موجودة تلك الممارسات منذ بدء الخليقة، فلم تظهر في لحظة من العمى الأخلاقي، لكن بدلاً من التصدي لها يحاولون ألاّ يفكروا بالأمر كثيرًا، وبمجرد قبول الحجج والمبررات يصعب على أي شخص رؤية العمى الأخلاقي، ليس الأمر كما لو أننا لاندرك ما نفعله، نحن نعلم الضرر، جميعنا لدينا شكوك حول تلك الممارسات التي ستدفع الأجيال القادمة يومًا ما للتساؤل: هيّا الناس دي كان فدماغها أيه؟.
يقول جورج أورويل في روايته (1984)، “لم يكن البقاء على قيد الحياة هدفًا للمرء..بل البقاء إنسانًا”، البقاء إنسانا هو قرار شخصي لذلك فإن “أنا العوز”، ذلك الجزء منا الذي يتصرف وفقًا للمصلحة الذاتية، وغالبًا، دون اعتبار للمبادئ الأخلاقية، يكون صامتًا أثناء مرحلة التخطيط للقرار، ولكنه عادةً ما يظهر ويسود وقت اتخاذ القرار، لن تكون دوافعك الشخصية أكثر “ميكافيليّة”مما تعتقد فحسب، بل إنها ستتغلب على الأرجح على أي أفكار “أخلاقية” لديك.
لقد كانت واقعة بائسة بالنسبة ل#طفل –المرور الذي قاده عماه الأخلاقي ليضع المجتمع أمام أزمة مصداقية وسلطة وازدواجية، كشفت عن ثقافة طويلة المدى من العمى الأخلاقي لتضخم الأنا والسلطة، لكن الناس فاض بيها ولابد من وقفة لمقولة “كخ يا حبيبي ماتفش على عمو”، وهذه شهادة هيثم سعيد على #طفل-المرور