مقولة «التدريس الجيد له نور الشمس وقوة السحر» .. تشير إلى قدرة المعلم على إلقاء الضوء على ما هو أهم، ثم الاستعداد للسحر .. لأنه سوف يحدث.
جاء العام الدراسي الجديد محملا بالكثير من المعضلات الناجمة عن الخوف الشديد من تفشي الموجة الثانية من فيروس كورونا، فهل استعدت وزارة التربية والتعليم بشكل جيد لمواجهة تلك المعضلات؟ وهل تم تأهيل المعلمات والمعلمون للتعامل مع تلك المنظومة الجديدة التي تعتمد بشكل رئيسي على آلية التعليم عن بعد؟ وهل ستتمكن تلك المنظومة الجديدة من إستيعاب أبناء وبنات الأسر الفقيرة أم ستفاقم من أزمة التسرب من التعليم؟ .. بمعنى أخر هل راعت تلك الاستعدادات الجديدة ظروف وإمكانات أبناء وبنات الأسر الفقيرة؟ .. تساؤلات عدة في حاجة لمن يجيب عليها من المتخصصين في مجال التعليم وربما يساعدنا كتاب التربوي الأمريكي إيريك جنسن الذي نقلته للعربية صفاء الأعسر ويحمل عنوان: «الفقر والتعليم .. ماذا يفعل الفقر بمخ أطفالنا؟ .. وماذا تفعل المدرسة لتصلح ما أفسده الفقر؟» في استنباط الإجابة على بعض تلك التساؤلات.
هل مازالت هناك فرصة متاحة لتعليم أبناء الفقراء؟
كثيرة هى الدراسات التي أكدت على أن التعليم الجيد يعد الطريق المشروع الوحيد للخروج من دائرة الفقر ولكن يظل التساؤل المطروح وهل هناك تعليم جيد يمكن إتاحته للفقراء؟ وكيف السبيل لتحقيق ذلك؟ .. يستهل إيريك جنسن كتابه«الفقر والتعليم» بالإشارة إلى أنه إذا كانت خبرات الحياة تدفع بأطفال الفقراء إلى الأسوأ فلماذا لا تغيرهم خبرات الحياة أيضا إلى الأفضل؟ ومن ثم يجيب على تساؤله هذا بأنه على مدى عقدين من الزمان قد شارك مع آخرين في بناء برنامج أكاديمي إثرائي يحمل عنوان: «المعسكر المتميز» وقد غير هذا البرنامج حياة عشرات الآلاف من الأطفال حول العالم، وبهذا فإنه يعلم أن التغيير للأفضل يمكن له أن يحدث من خلال المدرسة، بل أنه يحدث بالفعل. ولكن هل يمكن لهذا التغيير الإيجابي لأطفال الفقراء أن يحدث بالاعتماد على المدارس الحكومية العامة المصرية وهى على ما هى عليه؟!
بالحديث عن المدارس الحكومية العامة المصرية تجدر الإشارة إلى أن أولياء أمور تلاميذ تلك المدارس قد فوجئوا هذا العام بإرتفاع قيمة المصروفات الدراسية بنسبة تصل لمائة في المائة عن العام الماضي، فهل سيتمكن كافة أولياء أمور تلاميذ الأسر الفقيرة من دفع تلك المصروفات؟ .. وإذا تمكنت الأسر الفقيرة من دفع المصروفات الدراسية وتوفير الأدوات المدرسية التي أصبحت باهظة الثمن، فهل ستتمكن من توفير وسيلة التواصل المباشر مع شبكة الإنترنت وتكلفة الإشتراك بها لإنخراط أبنائهم بمنظومة التعليم عن بعد؟ .. وإذا تمكنت الأسر الفقيرة من تدبير كل تلك التكلفة من قيمة المصروفات الدراسية وتكلفة الأدوات الدراسية وتكلفة الأنترنت، فمن سيعوض أبناء تلك الأسر الفقيرة عن ذلك الدور الذي كان من المفترض أن يلعبه المعلمون والمعلمات حيث أصبح الذهاب للمدرسة قاصر على يومين أو ثلاثة أيام فقط بالأسبوع كآلية وضعتها وزارة التربية والتعليم للحد من كثافة الفصول الدراسية في مواجهة فيروس كورونا؟!
المزعج في الأمر حقا أن كل تلك العوامل من إرتفاع قيمة المصروفات الدراسية واقتصار الذهاب للمدرسة على يومين أو ثلاثة أيام بالأسبوع والإعتماد على الدروس الخصوصية والحاجة للإشتراك بشبكة الإنترنت من شأنها أن تزيد من معدلات التسرب من التعليم خاصة بمرحلة التعليم الأساسي، ذلك أن إيريك جنسن حين تناول العلاقة بين الفقر والمدرسة قد أكد على أن أحد أهم العوامل التي تؤدي للترسب من التعليم تتمثل في اعتياد التلاميذ الفقراء على الغياب من المدرسة، فكأن ظاهرة الغياب المتكرر تعد المؤشر الأول لبداية التسرب من التعليم، فماذا لو أن هذا التغيب ناجم عن قرار وزاري لمواجهة فيروس كورونا؟! .. «المدرسة الجيدة يمكنها أن تغير من حياة التلاميذ وهذا لا يتحقق إلا إذا وجد التلاميذ بها» فماذا إذا فرض عليهم التغيب؟!
قد يرى البعض أن قرار اقتصار ذهاب تلاميذ المدارس الحكومية العامة على يومين أو ثلاثة أيام قرار صائب لمواجهة فيروس كورونا ولكن هل سيتمكن المعلمون والمعلمات من أداء واجبهم نحو تلاميذهم على نحو صائب بتلك الفترة الوجيزة للغاية التي يقضوها مع تلاميذهم؟
من واقع خبرة أبناء أخوتي الملتحقين بالمدارس الحكومية العامة بالمراحل الثلاث «إبتدائي – إعدادي – ثانوي» فجميعهم باتوا لا يعتمدون على المدرسة، حيث التحقوا بالدروس الخصوصية بجميع المواد، فإذا كان أخوتي يستطيعون توفير تكلفة الدروس الخصوصية لأبنائهم بجميع المواد، فهل سيتمكن جميع أولياء أمور الأسر الفقيرة من توفير تلك التكلفة؟ .. والأزمة لا تقتصر على الإعتماد على الدروس الخصوصية، الأزمة تكمن في شعور الإستغناء عن المدرسة الذي بات يسكن مشاعر التلاميذ، فالمدرسة بالنسبة لهم أصبحت مكان لإجراء امتحان الفصل الدراسي الأول والثاني وذلك للإنتقال من عام دراسي للعام الذي يليه.
المدرسة الناجحة
يصف إيريك جنسن المدرسة الناجحة بكونها المدرسة التي تتمكن من بناء جسر مع تلاميذها وأولياء أمورهم وهنا يأتي دور مجلس الأباء بالمدارس فهل تشهد المدارس الحكومية المصرية تفعيلا لهذا الدور؟ .. كما يلعب الاخصائي الإجتماعي والنفسي دورا مميزا بالمدارس الناجحة عبر بحث حالة تلاميذ المدرسة المعرضون للضغوط الاجتماعية ومن ثم التواصل مع أولياء أمور التلاميذ وهو ما من شأنه أن ينجم عنه العديد من النتائج الإيجابية الطيبة، ومن جانب آخر فإن المدرسة الناجحة هى تلك المدرسة التي تتيح للمعلمين بها أن يلعبوا دورا في إدارة المدرسة وإدارة مواردها مهما كانت محدودة.
من جانب آخر فإن المدارس الناجحة هى تلك المدارس التي تحرص على إنشاء شبكة جيدة من العلاقات ما بين المعلمون بعضهم البعض وما بين المعلمون والتلاميذ وما بين التلاميذ بعضهم ببعض وما بين إدارة المدرسة وأولياء أمور التلاميذ.
المعلم الناجح
يوصي إيريك جنسن المعلمون بضرورة الحرص على اكساب تلاميذهم بعض المهارات الاجتماعية التي من شانها أن تعينهم في الحياة، من بين تلك المهارات الهامة مهارة التعلم التعاوني والمشاركة في العمل وخلق مناخ يطلق عليه «النحن» يقوم على عدم استبعاد أو تهميش أي تلميذ مع الحرص الدائم على استخدام ضمير «نحن .. مدرستنا .. فصلنا» وتجنب استخدام ضمير «أنا .. أنتم» ذلك أنها ضمائر مشبعة بالقوة.
الطفل الذي ينشأ ببئية فقيرة يأتي إلى المدرسة محمل بالعديد من الضغوط التي قد تؤثر على سلوكياته وقد تنعكس على تحصيله الدراسي هنا يأتي دور المعلم الذي يمكن أن تحمل طريقته في التدريس «نور الشمس وقوة السحر» .. فالمعلم الذي يمكنه تبني طريقة لعب الأدوار وتشجيع تلاميذه على الإنتظام في الأنشطة الرياضية والفنية سوف يجني الكثير من ثمار النجاح عبر تغيير سلوكيات تلاميذه خلال العام الدراسي.
من جانب آخر فإن المعلمون الجيدون هم من يحرصون على ربط تلاميذهم بالواقع المحيط بهم، فعلى سبيل المثال يمكن للمعلمون استثمار أزمة فيروس كورونا في دفع تلاميذهم نحو تبني العديد من السلوكيات الصحية السليمة التي من شأنها الحفاظ على صحتهم ليس على المدى القصير فحسب وإنما على المدى البعيد أيضا.
بشكل عام فإن التدريس الجيد هو ما يمكنه تخفيف الآثار الناجمة عن المستوى الاجتماعي الاقتصادي الضعيف لتلاميذ المدارس الذين ينتمون للأسر الفقيرة إلى جانب تخفيف آثار فقر الموارد بالمدرسة، فالمعلم الجيد هو مفتاح النجاح لذا فقد آن الآوان كي تعمل وزارة التربية والتعليم جاهدة على توفير سبل إعادة تأهيل المعلمين مع توفير سبل العيش الكريم لهم سواء كان ذلك في ظل أزمة فيروس كورونا أو في ظل ما يتبعها من مراحل، كما انه قد آن الآوان أن تعيد وزارة التربية والتعليم النظر في رؤيتها حول دور المدرسة والمعلم وهل هناك احتمال يتعلق بكون المدرسة ذاتها بطريقة إدارتها ومستوى معلميها هى التي ربما تدفع دفعا تلاميذ الأسر الفقيرة نحو المزيد من التسرب من التعليم خاصة بمرحلة التعليم الأساسي؟!