في أواخر عام 1977 أنتجت هوليود فيلما من بطولة النجم “جون ترافولتا” بعنوان “حُمَّى ليلة السبت” وعلى غير المتوقع حقق الفيلم نجاحا كبيرا بين أوساط الشباب ليس في أمريكا وحدها بل في العالم كله حتى صار أيقونة جيل السبعينيات الذي عمَّدته التجارب الثورية منذ بداية العقد. في شتاء العام التالي يُقرر طالب الفرقة الثالثة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ممدوح عبد العليم محجوب الإعداد والتجهيز لعرض الفيلم داخل الحرم الجامعي.. في اليوم المقرر للعرض يجتمع نحو ألف طالبٍ لمشاهدة الفيلم.. ونظرا للإقبال الكبير يتقرر عرض الفيلم في حفلتين.. تصل أخبار الإعداد لعرض الفيلم إلى رؤوس الجماعات المتطرفة بالجامعة؛ فيقرروا منع عرض الفيلم بأي وسيلة كانت.. لم يستجب “ممدوح” للتهديد والوعيد؛ فسارع المتطرفون إلى قطع التيار الكهربي عن الكلية، وترصَّدوا العامل الفني الآتي بالفيلم وآلة العرض ومنعوا دخوله إلى الحرم الجامعي وحدثت مصادمات بين الطلاب والمتطرفين ما استدعى حضور عميد الكلية الذي جاءته الأوامر بمنع عرض الفيلم انحيازا للجماعات المتطرفة التي كان النظام يدعمهم سرا وجهرا لكسر شوكة اليساريين والناصريين داخل أروقة الحرم الجامعي.. كانت هذه هي اللحظة الفارقة التي جعلت الفنان ممدح عبد العليم يعود مختارا إلى حضن الفن بعد سنوات من البعد والجفاء.
https://www.youtube.com/watch?v=op5FxEs1aR0
البداية
بينما كانت مصر تخوض حربا من أشرف حروبها لصد العدوان الثلاثي الغاشم بداية من خريف عام 1956، هذا العدوان الذي استهدف مصر الجديدة التي كانت قد بدأت تُشكل برؤاها الاستقلالية وجها آخر لحركات التحرر الوطني في أربعة أركان المعمورة- ولد ممدوح عبد العليم في أسرة متوسطة تحب الفن وتشجع أبناءها على إبراز مواهبهم من خلال تكوين فرق فنية تقدم الأغاني والاستعراضات، فكوَّن أخوه الأكبر فرقة أسماها “خمسة وخميسة” وكوَّن “ممدوح” مع أخيه الأصغر وأطفال آخرين فرقة باسم “الكتاكيت”. ومن خلال مسابقات المواهب بالتليفزيون يلتحق “ممدوح” بفرقة الفنون الشعبية، قبل أن تلمع موهبته فيشركه المخرج محمد فاضل في مسلسل “القاهرة والناس” ثم في “عادات وتقاليد” مع المخرج حمادة عبد الوهاب قبل أن يعجب به المخرج نور الدمرداش، فيشركه في المسلسل الشهير “الجنة العذراء” أمام الفنانة “كريمة مختار” وكان “ممدوح” وقتها لم يتجاوز التاسعة من عمره.
قسوة الفن
في تلك السن الصغيرة عرف “ممدوح” تحمُّل المسئولية والتضحية بكثير من المسرات حبا في الفن، فكان لا يقبل على تناول الطعام وخاصة الحلويات حتى لا يزيد وزنه، وتقل فرص مشاركته في الأعمال الدرامية، كما كان يُضحي بالذهاب إلى المصيف ويبقى وحيدا بالمنزل لارتباطه بالعمل الفني، كما كان يحاول -وهو الطالب الفائق- الموازنة بين الذهاب إلى المدرسة وإنجاز الواجبات المدرسية والمذاكرة من ناحية والتواجد في الاستوديو في المواعيد المحددة للتصوير مع حفظ الدور جيدا.. ما جعله يصاب كثيرا بالإعياء ويسقط غير مرة مريضا تحت ضغط الإرهاق.
من المشاهد التي حُفرت في ذاكرة الصبي الجميل مشهدٌ كان كثيرا ما يراه في الاستوديو. رجال متقدمون في السن يتواجدون لساعات طويلة للمشاركة ككمبارس في الأعمال التليفزيونية.. كان قلبه الصغير يشفق عليهم، خاصة عندما يسمعهم يشكون ضيق الحال وضعف ما يتقاضون من أجور.. وكان يحزن عندما يرى أحدهم وقد أسند إليه دور مهرج يقفز في حركات بلهاء ليُضْحك الصغار.. تلك المعاناة التي كابدها الصغير، وتلك المشاهد التي اختزنتها ذاكرته الغضة لهؤلاء البؤساء جعلته يكوِّن وجهة نظر عن الفن تتلخص في كونه مجالا قاسيا للعمل يفرض على الفنان ضوابط صارمة ويحرمه من العيش بحرية كبقية الناس ويلزمه بالعمل في أصعب الظروف ثم هو يسلمه في النهاية إلى مصير تعيس.. والحقيقة أن الفن في بلادنا مازال لا يبتعد كثيرا عن تلك الرؤية التي كونها عقل الصبي النابه.
قرار بالفرار
بعد حصوله على الثانوية العامة بتفوق يقرر “ممدوح” الابتعاد عن الفن والالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وينتظم في الدراسة بها؛ لينجح بتفوق؛ مقررا أن يعمل بعد تخرجه بالسلك الدبلوماسي.. مبتعدا بذلك عن “ندَّاهة” الفن التي تحكم على ضحاياها بالشقاء.. بالتأكيد كان فناننا خلال تلك الفترة في أواسط السبعينيات يتابع عديدا من الأنشطة الفنية داخل الجامعة وخارجها.. لكن الحاجز الذي اصطنعه مع الفن كان أقوى من أن يكسره الشغف القديم. إلى أن كان ما كان من أمر الصدام مع حملة الجنازير؛ فكأنما كشف ما قد حدث فإذا به يرى أن ابتعاده عن الفن لا يمكن إلا أن يكون تخليا وتفريطا عن قيمة نبيلة أهلته الأقدار ليكون من حماتها والمدافعين عنها، ومن يدفعون بهذه القيمة إلى المجتمع غلاة التطرف وإجرام المتشددين.. هذا الحس الوطني الصادق لدى ممدوح عبد العليم كان دافعه الأول في كثير من المواقف التي كان يأخذ فيها زمام المبادرة انطلاقا من إحساس حقيقي بالمسئولية الوطنية.. فعقب أحداث الكُشح الدامية نهاية عام1999م وما نتج عنها من ارتفاع نبرة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد.. قرر “عبد العليم” أن يذهب إلى الصعيد ليقدم “بالأحضان” وهي مسرحية شعرية من تأليف صلاح جاهين، كان الفنان قد قدمها على خشبة المسرح القومي ولاقت نجاحا كبيرا.. هناك في قلب مصر الصلب المحروم من كل وسائل الترفيه، المتعطش للفن.. حلَّ الفنان النبيل مواسيا وجابرا لكسر القلوب وداعيا إلى الاجتماع على محبة هذا الوطن العظيم.. فاضت دموعه أثناء العرض مرات ومرات.. وباليقين لم تكن دموع “ممدوح” تمثيلا وإبداعا؛ بل كانت دموع قلبه المكلوم على وطن تهدده الفتنة والاحتراب.. وطن عشقه بكل صدق حتى اختلط هذا الحب بكل ذرة في كيانه.
ما أحلى الرجوع إليه
يعود الفنان نهاية السبعينيات إلى العمل بالدراما التليفزيونية فيشارك في بطولة مسلسل “صيام.. صيام” وفي نفس العام يعود للعمل مع المخرج “نور الدمرداش” فيشارك في بطولة مسلسل “أصيلة” قبل أن يختاره المخرج “حسين كمال” لدور “عادل” في فيلم “العذراء والشعر الأبيض” وينال عنه ممدوح جائزة أحسن ممثل دور أول. وهو ما شجع المخرج هشام أبو النصر لاختياره لدور البطولة في فيلم “الخادمة” فأدى “ممدوح” الدور ببراعة بعد أن تفاعل مع الشخصية وخبر تفاصيلها الدقيقة فجاءت انفعالاته في غاية الانضباط دون أدنى قدر من المبالغة.. ومع نفس المخرج يشارك في فيلم “قهوة المواردي” ويحصل على جائزة أفضل وجه جديد.
كان من المفترض بعد هذه البطولة المطلقة أن ينطلق نجمنا في سماء الفن محلقا لكن شيئا من ذلك لم يحدث لسبب أعلنه “ممدوح عبد العليم” بعد ذلك عندما وجه له أحد الصحفيين سؤالا عن أسباب عدم تحقيق جيله من الفنانين النجاح الذي حققته الأجيال السابقة. ليجيب الفنان بأنَّ هذا الجيل ظُلم ظلما شديد من الجيل السابق له، فعندما كانوا في الثلاثينيات كانوا يؤدون أدوار أبطال في العشرينيات. هذه الأدوار كانت من حق جيلي الذي اضطر للتراجع للأدوار الثانية والثالثة.. وعندما اقتنع الجيل السابق لنا بدوران عجلة الزمن كنا نحن قد دخلنا في طور الكهولة.. ثم يضيف بصراحته المعهودة من العجيب أن تكون عين المخرج والمنتج دائما على من يأتي بأكبر الإيرادات بغض النظر عن هل هو أنسب من يقوم بالدور أم لا؟.
الحفر في الصخر
ورغم تلك الظروف استطاع “عبد العليم” أن يقتنص عدة بطولات في السينما لنقل أنها آلت إليه بفعل الأقدار بعد اعتذار نجوم الصف الأول، كدوره الرائع مع عاطف الطيب في “البدرون” الذي اعتذر عنه “أحمد زكي” ودوره الذي حقق نجاحا كبيرا على المستوى الجماهيري بعد العرض التليفزيوني للفيلم، دور “رامي قشوع” في “بطل من ورق” الذي اعتذر عنه “عادل إمام”.. بالإضافة إلى عدد من الأدوار في أعمال متوسطة المستوى مثل فيلم “ملائكة الشوارع” و” تحت التهديد” و” وداعا يا ولدي” و”أنا” قبل أن يتألق مع المخرج عاطف الطيب في “البريء” “وكتيبة الإعدام” ثم يصل إبداعه إلى أعلى درجات الجمال والتألق في بطولة مطلقة مع محمد خان في “سوبر ماركت” أمام النجمة “نجلاء فتحي” التي أنتجت الفيلم.. ولكنه للأسف يعود إلى تقديم أدوار في أعمال متوسطة المستوى وبعضها ضعيف بعد تضييق دائرة الأعمال الجيدة؛ لتكون حكرا على ممثلين بعينهم تحت ضغوط الرغبة في تحقيق المكاسب المادية دون النظر للمعايير الفنية.
وفي تجربة الإنتاج الوحيدة يقدم لنا “عبد العليم” فيلما بديعا هو “سمع هس” من إخراج شريف عرفة وتأليف ماهر عواد وبطولته مع “ليلى علوي” وقد شكَّل النجمان في الفيلم ثنائيا بالغ الروعة وخفة الظل.. وللأسف لم ينتبه المنتجون إلى إمكانية الاستفادة من الثنائي البديع في أعمال سينمائية أخرى وانتهت التجربة بعدم تغطية الفيلم لنفقاته.. ما أدخل “ممدوح” من جديد في دائرة الأزمات المادية المتلاحقة… ما اضطره للعودة مجددا إلى العمل في أفلام متوسطة المستوى مع الحرص على أن يكون دوره متماسكا قدر الإمكان.. ثم يعود للدخول في مغامرة سينمائية جديدة مع صديقه زكي فطين عبد الوهاب في فيلم “رومانتيكا” الذي حافظ على مستوى جيد فنيا رغم الصعوبات الجمة التي اعترضت العمل.
التألق في دراما التليفزيون
على مستوى الدراما التليفزيونية لمع الفنان ممدوح عبد العليم مبكرا في أدوار البطولة بداية من “الحب وأشياء أخرى” مع أسامة أنور عكاشة والمخرجة إنعام محمد علي التي كان “ممدوح” يدين لها بالفضل ويعتبرها بمثابة أم له. وكذلك تألقه غير المسبوق على مدى خمسة أجزاء في أعظم أعمال أسامة أنور عكاشة الدرامية “ليالي الحلمية” من إخراج إسماعيل عبد الحافظ، ثم مع عبد الحافظ مجددا في رائعة “بهاء طاهر” “خالتي صفية والدير” في دور “حربي” الذي أداه باقتدار وكان من أحب الأدوار إلى قلبه.. وصولا إلى عملين من أروع أعمال الدراما التليفزيونية المصرية هما “جمهورية زفتى” “والضوء الشارد” والعملان عُرضا في قنوات النيل المتخصصة في أوقات متأخرة، ومع ذلك كان نجاحهما الجماهيري كبيرا.. بالرغم من محاولات الإفشال الواضحة التي استهدفت “عبد العليم” شخصيا نتيجة مواقفه الصلبة في مواجهة تجبر قطاع الإنتاج على الفنانين وانتقاص حقوقهم.
وفي الدراما التاريخية يمتعنا الراحل القدير بعملين غاية في الروعة هما “ذو النون المصري” وقد صال وجال في دور العالم الفقيه المحدث “ذي النون” ومسلسل “الطارق” الذي برع فيه في أداء دور البطل “طارق بن زياد”.. وقد كانت إجادته للغة العربية الفصحى في العملين محل إعجاب الجميع.
لم يقدم الفنان “ممدوح عبد العليم” الكثير من الأعمال المسرحية، وتجدر الإشارة إلى مشاركته في بطولة مسرحية “بداية ونهاية” في دور” حسنين” وقد شارك في هذا العمل 27 نجما على رأسهم الفنان “فريد شوقي” لم يتقاض أي منهم أجرا وذهبت الإيرادات لسداد ديون مصر.
قاربت أعمال الفنان ممدوح عبد العليم التسعين عملا.. تراوحت مستوياتها تراوحا كبيرا.. لكن الكثير منها يعتبر بحق من أهم علامات الفن المصري في السينما والدراما.. رحم الله هذا الفنان الوطني النبيل الذي آمن برسالة الفن فظل جنديا في ميدانه إلى آخر لحظة في حياته، مؤديا واجبه مرضيا ضميره رافعا ذكره بما قدمه من أعمال جليلة في الفن وكثير من المجالات الاجتماعية والإنسانية الأخرى في مصر وعدد من الدول العربية.