ثقافة

كتاب جديد لفكري حسن يتحدّى النظريتين الشهيرتين في فهم الشخصية المصرية (1-2)

المصريون بين ثقافة التكيف وآفاق التمكين..

أصوات: “ربما كان هذا الكتاب الصادر عن دار الثقافة الجديدة  قادرا  في الأيام القادمة علي إثارة  جدل ونقاش عام كالذي أثاره كتاب العلامة د. جلال أمين  الشهير {ماذا حدث للمصريين } قبل نحو عقدين. فالمؤلف د. فكري حسن وهو أكاديمي موسوعي  يتحدى النظريتين الهامتين في تفسير ما يُعرف بالشخصية القومية المصرية، وهي نظرية دول حوض الأنهار المركزية {ويتفوجل في الغرب ونزيه الأيوبي  وأحمد صادق سعد في مصر} ولكن يتحدى نظرية الحسم الجغرافي الأشهر للعبقري جمالي حمدان.  بل ويتحدى   فكرة الشخصية القومية نفسها ويربطها بالسياق الحضاري للمركزية الأوربية من جهة ودوافعها الاستعمارية من جهة أخري.

يتحدث المؤلف عن {نسبية} صفات الشخصية القومية لأي شعب من مرحلة تاريخية لأخري، ومن منطقة ريفية إلي منطقة حضرية ويضع علاقات الانتاج ونمط توزيع الثروة وقيادة الانسان لبيئته وجغرافية موقعه أهمية تسبق العوامل الثابتة مثل هيدروليكية النهر أو الموقع الجغرافي الخاص مثل الموقع المصري كموقع حاكم لممرات الملاحة والتجارة والحرب والسلام في العالم.

تُقدم أصوات أدناه نص المقدمة التي وضعها الكاتب لتمهيد ذهن القارئ إلي ما هو مُقدِم عليه من مغامرة؛ بل ويحرضه على الاشتباك معها اتفاقا  واختلافا .

مقدمة الكتاب بقلم الكاتب

يعالج هذا الكتاب إشكالية لم تفارقني منذ أدركت – في السبعينيات من القرن العشرين- أن هناك ثقافة متميزة للفلاحين من خلال مقرر دراسي عن أنثروبولوجيا الفلاحين أثناء دراستي للحصول على درجة الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان الموضوع حينذاك جديدا على الأنثروبولوجيا التي كان اهتمام مؤسسيها مُنصبا على ما سمى حينذاك ثقافات الشعوب البدائية.

نبهني ما عرفته عن تشابه خصائص الفلاحين في مصر، مع خصائص الفلاحين في المكسيك وبولندا وإسبانيا والهند، إلى أن التشابه في الخصائص يكمن في ملابسات البنية المجتمعية، التي يمكن أن يؤدى تشابهها إلى خصائص متماثلة، على الرغم من بُعد المسافات واختلاف المحيط الجغرافي والبيئة، وضقت بناء على ذلك بما يشاع عن الحتم أو الحسم الجغرافي لما سمى “شخصية مصر”. كما كشفت لي معاملاتي مع مختلف طوائف المصريين على ما يقارب خمسة عقود، أن المجتمع المصري يموج بخصائص متباينة تتمايز على أساس التعليم والثروة، وما لهما من علاقة بالمركز الاجتماعي والمكانة، بطبيعة وضعهم في البنية المجتمعية.

ومع ذلك كانت هناك بعض الخصائص التي يتشارك فيها المصريون بغض النظر عن الفئة التي ينتمون إليها، أو هكذا هُيِّئَ لي. فكيف يمكن تفسير ذلك؟

لم يخف عليَّ، كما لا يخفي على أي مصري سمحت له الظروف أن يشهد التحولات المجتمعية منذ الخمسينات من القرن الماضي التي أفرزت سلوكيات وقيم وخصائص؛ يبدو أنها لا تتسق مع ثقافة المصريين الذين عايشها من ولدوا في الثلاثينيات أو الأربعينيات من القرن الماضي، وبذلك كان علينا أن نتساءل عن دور المتغيرات في نظام الحكم والاقتصاد والتدين في التأثير على خصائص فئات المجتمع المختلفة.

كما واكب هذه التساؤلات من جانبي، ما أتيح لي من الدراسات الاجتماعية التي حاول لفيف من الباحثين من خلالها أن ينفذوا إلى مغاليق ما سُمِّي بالشخصية المصرية القومية، ولكن هذه الدراسات كانت بدورها نتاج ظرف تاريخي، تعاظمت فيه فكرة القومية في العالم الثالث.

كما أنى لم أكن واثقا من النغمة السائدة في الدراسات الاجتماعية، التي تُعلي من هيمنة خصائص اللامبالاة والتواكل والتفكير الخرافي، وما إلى ذلك من صفات سلبية، وكنت متشككا في الأسس النظرية التي كانت تستند إليها هذه الدراسات، وكنت على قناعة أن الخصائص المجتمعية لا يمكن أن نفسرها بالدراسات الإمبريقية التي لا تعتمد على نماذج توضح العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتنظر للفرد كعضو فاعل من خلال أنشطته وتشاركه مع غيره في عالم يموج بالمتغيرات الداخلية والخارجية والبيئية. وإن الأفكار التي تحرك السلوكيات لا تنفصل عن منظومة ذهنية ديناميكية، تهدف إلى التعايش مع معطيات الحس من خلال القدرات البشرية المتوارثة والمكتسبة من الثقافة السائدة.

وعلى أمل أن أساهم في توضيح ما أعدت توصيفه كخصائص شخصية للأفراد في إطار موضعهم في البنية المجتمعية، أُقدّم هنا نموذجا إيضاحيا لآليات ذهنية تعتمد على “التكيف” والتآلف مع الأوضاع التي يصعب أو من المستحيل تغييرها، كما كان الحال في المجتمعات الريفية منذ زمن بعيد.

أما في المدينة، حيث يمكن للفرد أن يستفيد من فرص الحِراك المجتمعي، يمكننا أن نتعرف على “آليات التمكين”، التي يسعى الشخص من خلالها إلى تحسين حاله، وتخطي ما يواجه من صعوبات بتغيير وضعه في البنية المجتمعية، وتطويع أنساقها الفكرية والقيمية والاقتصادية والمجتمعية لأحلامه وطموحاته.

أرجو أن يكون هذا العمل مفتاحا لرؤية أفضل لتكويننا الاجتماعي وفهم أعمق لسلوكياتنا من خلال قراءة ذاتية؛ يشارك فيها القارئ أو القارئة بخبراتهم وملاحظاتهم وحدسهم، وبذلك يكون هذا العمل قد حقق هدفه لا كعمل أكاديمي فحسب، ولكن كمحادثة تفاعلية بين النص والخبرة الذاتية للقارئ.. ولن تعتمد هذه القراءة على ما سيقوم به القارئ من الحكم على صحة المعلومات ومصداقيتها، أو معقولية النماذج وتماسكها المنطقي، ولكن أيضا على التواصل التفاعلي الذي سيحول النص إلى مفتاح للتأمل الذاتي.

مقدمة:

يتداول المفكرون من علماء الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والجغرافيا والآداب والسياسة في مصر، مصطلح “الشخصية القومية المصرية” ويسعون لتقديم شروح وتفاسير لما يتناولونه من أوصاف، يشتمل بعضها على انطباعات شخصية يشوبها الحماس العاطفي المفرط الذي يسعي للتمجيد والافتخار، بينما تتردد في العديد من الكتابات -على العكس- خصائص “سلبية” كطباع ثابتة منذ أقدم العصور. كما يقدم بعض الباحثون -على خلاف ذلك- دراسات جادة منهجية تختلف في إطارها النظري ومنهجها وأسلوبها، كما تختلف نتائجها حسب تخصص الباحث أو توجهه الفكري والتزامه الأيديولوجي.

ومع التنوع المُربِك فيما كتب عن “الشخصية المصرية” التي يتناولها معظم من تعرضوا لتوضيحها، كان من الضروري أن نُظهر الخلفيات والمقدمات الثقافية التي أدت -في المحل الأول- إلى شيوع هذا المصطلح. واستدعي ذلك أن نتعرض في البداية إلى توضيح نشأة الروح القومية في أوروبا التي صبغت الحياة السياسية للدول والشعوب والحركات السياسية بألوانها منذ ذلك الحين.

ونتبع ذلك بفصل استهلالي (الفصل الأول) لتوضيح مفاهيم وإسقاطات مصطلح “الشخصية القومية” كما تناولها علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان وحضاراته)، الذين ساهموا في تشكيل هذا المصطلح وشيوعه، وما لهذه المفاهيم من علاقة وثيقة بالمشروع السياسي للغرب اللصيق بتأسيس ودعم الدولة الأوربية الحديثة من ناحية، وبالحروب والمنظور الاستعماري من ناحية أخرى.

وكانت هذه الدراسات الأكاديمية الغربية هي المرجعية التي استند إليها الباحثون والمفكرون المصريون في دراساتهم عن “الشخصية المصرية” أو ما طرح تحت مسمى “الشخصية القومية المصرية” أو “شخصية مصر” أو “الشخصية الوطنية المصرية” وهي مفاهيم لا تتسم بالدقة أو المعني القويم؛ لأنها منحوتة من مفاهيم مختلطة عن الخصائص السيكولوجية الثابتة للشعوب، وعن التطابق بين الدولة القومية والشعب بكل أطيافه وفئاته، وعن التجانس الثقافي لكل شعب، مما يؤدى إلى إشكاليات نظرية ومنهجية عويصة.

وما من شك، في أن شيوع المصطلح واستخداماته في مصر يرتبط بعواطف قومية ونزعات تنبثق من تاريخنا الحديث، وحاجتنا إلى تفسير ما يجري من أحداث، كان أهمها في الماضي القريب، ما أحدثته “نكسة” 1967، من تأثير قوي أدي بالبعض إلى التغني بعظمة مصر وثباتها على الرغم من المحن، كما أدي إلى اهتزاز الثقة بالذات وما تبع ذلك من محاولات؛ لتفهم أسباب ما جرى من هزيمة موجعة. وكانت النتيجة أن انساق البعض إلى التحدث عن الشخصية المصرية التي لا تهزها الأحداث والكوارث، وأن الظروف الصعبة التي مرت بها مصر عبر القرون الطويلة لم تقوَ على ابتلاع الشخصية المصرية أو محوها، أو حتى تغيير كثير من ملامحها.

كما أهمل الكثيرون أن هناك اختلافات ثقافية شاسعة بين طوائف المجتمع المصري، كما هو الحال في كل مجتمع، ولا يصح أن نتحدث عن المصريين كما يفعل البعض ككل متجانس. كما أن هناك من يتحدثون عن “شخصية مصر”، وما هي إلا عبارة شعرية بلا معنى، فلا يوجد لأرض ما أو موطن ما “شخصية” إلا مجازا، وحتى عندما نتحدث عن مصر بمعني أهل مصر وناسها، فلا يعني هذا أن لهم جميعا نفس النمط أو النوع من أنماط الشخصيات المعروفة في علم النفس والتي تختلف عن الخصائص الشخصية التي تكتسب من العادات والتقاليد وأسلوب الحياة، والنظرة إلى الذات والآخرين والكون، ومجالات الاهتمام.

ويعنينا بالتحديد ما قدّمه جمال حمدان عن “شخصية مصر” من منظور خصائص طبيعية لإقليم جغرافي بوصفها “تحسم” الشخصية الثقافية، ويفترض أن ملامح هذه الشخصية وأبعادها يمكن التعرف عليه “من التجانس والوحدة الطغيان الإقطاعي، المركزية التبعية السياسية بعد السيطرة، الأساس الخارجي للبناء الحضاري، العلاقة بين الموارد والسكان، التفاعل بين العزلة والاحتكاك تعدد الجوانب والأبعاد التوسط والتوازن والاستمرارية والتقطع، ثم أخيرا الوطنية والقومية”. (التنقيط طبق الأصل، جمال حمدان، شخصية مصر، 1993، ص 18).

ولشيوع الإشارة لهذا العمل نوضح أن ما قدّمه حمدان يعتمد على نظرية “الحتم الجغرافي” المرفوضة حتى باعترافه، ولكنه يتحايل على ذلك باستخدام كلمة “حسم” كما يلي: “… قضية الحتمية صفحة حسبنا أننا طويناها من قديم بعد أن ماتت ميتة طبيعية،…” (جمال حمدان، شخصية مصر، ص 20، الفقرة الثالثة، السطر السادس)، “والخط الذي نسترشد به هذه الدراسة هو أنه ليس هناك حتم، ثمة فقط حسم جغرافي” (جمال حمدان، شخصية مصر، ص 20، الفقرة الثالثة، السطر الخامس). ولا يعدو هذا إلا أن يكون تلاعب لفظي فمعنى حسم في هذا السياق كما جاء في معجم المعاني الجامع: “جعله لازما، من اللازم الضروري، أنهى، بت، جزم، قرر”، إذن فالحسم الجغرافي يعنى أن الجغرافية هي التي تقرر وتملي ملامح الشخصية الثقافية (الحضارية) ولو كان هذا صحيحا لما كان هناك تاريخ ولبقي المصريون في العصر الحجري القديم! ونشير أيضا أن “حسم” هي ترجمة أخري لمصطلح determination في الإنجليزية الذي يترجم بمعنى “حتم”.

وبخلاف ذلك، فما يقدمه حمدان كملامح للشخصية المصرية، يخلط ما بين التحليل والوصف، فعلى سبيل المثال، التفاعل بين “العزلة والاحتكاك” هو متغير سببي وليس وصفا لملامح الشخصية المصرية (وهو بالمناسبة سبب وهمي لأن مصر كانت دائما وأبدا على اتصال مباشر وغير مباشر بجيرانها وعالم البحر الأبيض المتوسط، ولم تكن الصحاري أو الجبال أو البحار مانعا للاتصال)، ولا ندري كيف تكون الوطنية والقومية من الملامح التي “تحسمها” الجغرافيا.

هناك بالتأكيد علاقة بين البيئة Ecology والعوامل الجغرافية من تضاريس وموارد طبيعية (مياه، تربة، خامات وغيرها) ومناخ وموقع. وينجم عن التفاعل بين الإنسان والبيئة ما يسمى بالبيئة البشرية Human ecology وهي منظومة ديناميكية متشابكة بين العوامل الجغرافية والمصادر التي يتعيش عليها الإنسان من نباتات وحيوانات. وتتأثر البيئة بالمتغيرات المناخية والأنشطة البشرية. وبالتالي لا تحدد أو تحسم أو تحتم البيئة، ناهيك عن الجغرافية، أي نشاط بشرى. ومنذ بداية الحياة البشرية، تحوّلت الأنشطة من القنص والصيد وجمع النبات إلى أشكال مختلفة من الزراعة والرعي منذ 10 ألاف سنة فقطـ، ولم تظهر الصناعة إلا منذ عدة قرون. لا تفرض البيئة هيمنتها على النشاط البشرى، ولكن الإنسان هو ما يرى حسب أنشطته وإدراكه ما يمكن أن يقوم به، وما تسمح به البيئة من فرص أو معوقات لما يود أن يقوم به.

المصريون بين ثقافة التكيف وآفاق التمكين

ولا ننسى أن هناك جماعات لم تقرر أن تهجر الصيد والقنص إلى الزراعة، على الرغم من تحول جيرانهم إلى الزراعة. كما أن موقع مصر لا يُحتّم أن تقوم بعلاقات مع كل جيرانها، ويمكنها أن تعزل نفسها، أو تتجه إلى الشرق أو إلى الغرب أو الجنوب أو من خلال البحر إلى دول البحر الأبيض المتوسط، كما أنها تتفاعل مع ما يحيط بها من شعوب، حسب ما تمر به تلك الشعوب من ظروف. لسنا أسرى للجغرافية أو البيئة؛ لأننا بشر نختلف عن الحيوانات التي تنصاع للمقومات البيئية في قدرتنا على تغيير البيئة، بما لنا من قدرات ذهنية وبما نتوارثه ونتعلمه من التجارب التي نمر بها.

كما يعزي البعض نمط الشخصية المصرية المتوهم إلى “المركزية الصارمة” التي تعتمد على دور الدولة في تنظيم الري، وهي نظرية أيديولوجية ثبُت خطؤها منذ عقود. وقد قدّم هذه النظرية في 1957، كارل ويتفوجل (1896–1988) في كتاب بعنوان “الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنة للسلطة الكلية” ومفادها أن إدارة مشروعات الري في بعض الحضارات النهرية القديمة -كما في مصر وبلاد الرافدين بواسطة حكومة مركزية- كان السبب الرئيسي في ظهور الدولة والبيروقراطيات واسعة النطاق التي هيمنت على الاقتصاد والمجتمع والحياة الدينية في هذه الحضارات. وأطلق على هذا النمط “الاستبداد الهيدروليكي”.

وعلى عكس ذلك لم تقم الدولة في مصر في مختلف العصور بأي مشروعات لضبط النيل أو تنظيم الري حتى عهد محمد على في القرن التاسع عشر، والمشروع المائي الوحيد الذي قامت به الدولة كان في الدولة الوسطى منذ حوالي أربعة آلاف عام، واقتصر على بناء سد لحجز مياه الفيضان من دخول منخفض الفيوم؛ للاستفادة من أراضي المنخفض كضيعة ملكية، ولم يصمد السد بعد ذلك للفيضانات العالية، وفي العصر الروماني قامت الدولة بمشروع مماثل في منخفض الفيوم. أما الري والصرف في وادي النيل والدلتا فكان يعتمد على السلطات المحلية في بناء الجسور والترع والمصارف بصورة لامركزية.

ولأهمية ذلك الإطار التاريخي لفهم المجتمع نقدم في الفصل الثاني إطلالة مختصرة عن تكوين الدولة المصرية القديمة، وعرض سريع للأصول الفرعونية والهيلينية والإسلامية لمصر الحديثة.

وقبل أن نتطرق إلى دراسات “الشخصية المصرية” نستقصى في الفصل الثالث الأصول المعرفية في علوم الأنثروبولوجيا وعلوم النفس لما أطلق عليه مصطلح “الشخصيــــة القومية”.

وحتى يحيط القارئ بما قُدم في مجال دراسات الشخصية المصرية عرضنا باختصار أهم ما توصلت إليه هذه الدراسات في الفصل الرابع تحت عنوان “ما هي الشخصية المصرية؟”.

وحتى نمهد لما سنقدمه من نماذج توضيحية (Explanatory Models) لتكوين ما أسميناه “الشخصية المجتمعية”، نستعرض في الفصل الخامس معالم ديناميكيات تكوين الشخصية والثقافة المجتمعية.

وبما أننا نرى أن التنوع في المجتمع المصري ركيزة لنقض فكرة “الشخصية القومية” بما تتضمنه من سمات يشترك فيها الجميع في نمط واحد، خصصنا الفصل السادس للفلاحين لكونهم المكون الغالب للشعب المصري، ولأن أي تفسير لفئات هذا الشعب من مثقفين وحرفيين وحضريين وموظفين وغيرهم لا يمكن أن يتم إلا بأن يأخذ في الاعتبار، إما أصولهم الريفية أو تواصلهم مع الفلاحين أو انغماسهم في الثقافة الريفية، وهي بهذا المعنى ثقافة الأغلبية الغالبة،Dominant culture   وليست مجرد ثقافة فرعية Sub-culture أو هامشية Marginal culture.

ولفهم هذه الثقافة والخصائص الشخصية لمن ينتمون إليها – كان علينا أن نقدم في الفصل السابع نموذجا إيضاحيا يسترشد بتأثير البنية المجتمعية على المزارعين على أساس خلفية تاريخية اجتماعية تعتمد على تفسير بدايات الدولة المصرية القديمة من خلال منظور اجتماعي بنيوي ديناميكي، نتتبع فيه نشأتها خلال ألفي عام من خلال التعاون بين القرى المجاورة في مواجهة تقلبات الفيضانات والتذبذب في كمية وجودة المحاصيل، مما مهد لظهور دويلات إقليمية كتجمعات سياسية تعاونية لتعظيم الأمن الغذائي. وصاحب تكوين هذه الدويلات التعاونية ظهور أشخاص متميزين في الإدارة والقيادة وكبح الصراعات الداخلية وتنظيم الدفاع عن المحاصيل ضد المغيرين من قاطني الصحراء. واستفاد هؤلاء الأشخاص من الهبات والهدايا في تكوين ثروات وضعتهم في مكانة خاصة تسمح لهم بحياة من الترف والرفاهية، والتي تصبح مع تقادمها غاية في حد ذاتها. وبذلك يتحول المجتمع إلى غالبية منتجة وأقلية تعتمد في معيشتها وثرواتها ورفاهيتها على إنتاج الآخرين، مما تتطلب ظهور آليات سلطوية بضمان الحصول على ما يرغبون فيه من القائمين على الإنتاج الزراعي. ومع التوسع في عدد الوحدات المنتجة (القرى) التي تندمج في إطار الوحدة السياسية التعاونية الإقليمية تعدى الأمر الاعتماد على صلة القرابة كأساس للضبط المجتمعي، مما حبذ اللجوء إلى الدين كوسيلة لاكتساب شرعية مجتمعية، وبذلك وبفضل ثرواتهم اكتسب هؤلاء مكانة فريدة تمكنهم من فرض سيطرتهم على القرى والنجوع. وترتب على التوسع في نطاق دمج الوحدات المنتجة اتحاد الدويلات الإقليمية في دولة موحدة تتميز بنظام ملكي إداري ثيوقراطي تتفاوت فيه السلطة والثروة والمكانة بين الفلاحين وموظفي الدولة والكهنة.

ثم نتتبع في هذا الفصل مجريات الأحداث في مصر خلال العصر البطلمي وتأثير تحويل مصر إلى مستعمرة تابعة للأباطرة الرومانيين على المصريين وخاصة الفلاحين. كما نتتبع تأثير حكم المماليك والعثمانيين السلطوي المستبد عليهم.

وبذلك نصل إلى تقديم نموذج إيضاحي معرفي كمفتاح لفهم الخصائص الشخصية الأساسية لمعظم الفلاحين، على أساس استراتيجيات نفسية للصمود تحت ضغوط نفسية هائلة إزاء سلطة طاغية وقلة الحيلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock