ليس للمقولة الشهيرة أننا نعيش “زمن الرواية” محلاً فى حضرة راهب القصة القصيرة “سعيد الكفراوى”، فقد حمل قديس الأدب على كتفه عبء القصة القصيرة رغم هجرة كل كتاب جيله حيث الرواية الأكثر انتشاراً فى زمنها.
فى هدوء يشبهه تماماً رحل ” الكفراوى ” تاركاً فى عيوننا دمعة حبيسة وحزن مقيم، رحل بعد نضال حقيقى من أجل الأدب ومسيرة حافله بالحكايات والتفاصيل.
كان “الكفراوى ” المسكون بسحر القرية المصرية والحارس الأمين على تراثها ووجدانها وتفاصيلها القديمة يدرك جيداً صعوبة حلمه لكنه ظل يحلم..
ظل يحلم بكتابة رواية لم تكتب، ويحلم كما قال يوما: “أن يتغير الوطن إلى الأفضل، وأن يعرف المصري الراحة بعد أعوام من المعاناة شهدت هجرة المصريين إلى الخارج، وانتفاضة الجماعات الإرهابية وسطوة الأغنياء على الفقراء، وانطفاء حب العلم والتنوير والثقافة في النفوس”.
لكن حلم الكفراوى الذى لم يخذله يوما، فقد كان يكتب للناس وعنهم، ويعبر عن حياتهم بكل ما فيها، فهو كما يقول عن نفسه أنه يكتب فى “منطقة الأحلام والمكبوت الغرائبي وعلاقة الحيوان بالإنسان”.
كان معنى الموت حاضراً بقوة فى معظم أعمال “الكفراوي” لكنه ليس الموت بالمعنى الذى ندركه ونعنيه، لكنه ذلك الموت الذى ينقلنا إلى عوالم أخرى مغايرة.
فى لحظة الوداع المؤلمة تمر كلماتك يا عمنا الجليل ونعيد اكتشاف أنفسنا فى مرآة إبداعك لعلنا نتمسك بما دافعت وناضلت من أجله..
نتمسك بإنسانيتنا التى قضيت حياتك تدافع عنها وعن حريتها وقيمها النبيلة.
https://www.youtube.com/watch?v=EazvO2kOYRk
المحلة وعمق البدايات ….
فى عام 1942 بقرية كفر حجازي بالمحلة الكبرى تلك القرية المطلة على الرياح المنوفي أو كما يطلقون عليه سكان القرية “بحر شبين” كانت قرى مصر في ذلك الحين تقبع تحت قبضة الإقطاع وتفتقد الحد الأدنى من الخدمات التى يتطلبها الإنسان فلا صحة أو تعليم أو كهرباء كافية.
وكانت القرى – فى معظمها – تعيش فقط لخدمة الإقطاع واسترضاء الاقطاعيين وانشغل الكفراوى مبكراً بتلك الأسئلة الملغزة وسعى دوما لتفسير ذلك الوضع، وحين أكمل عامه العاشر قامت ثورة يوليو 1952 فأحدثت تغييراً كبيراً فى بنية المجتمع الطبقية، وانعكس ذلك على القرية المصرية بشكل كبير، تعلم “الكفراوي” أول درس فى حياته وكان عنوانه “كيف تنحاز إلى الناس وكيف تعبر عنهم”.
فاختزنت ذاكرته حكايات الناس وتفاصيل القرية وأغنيات الفلاحات وأناشيد الفلاحين كما سجل بوعي كبير معاناتهم وشعورهم بالفقر والتهميش وربما الدونية أحيانا.
كانت المحلة الكبرى … وكان الوعى المبكر .. طبيعة المناطق العمالية الكبرى التى تنشط فيها الحركات اليسارية ومن ثم يزداد الاهتمام بالأدب والفن وكانت المحلة ليست مجرد مدينة بل حالة سياسية وفكرية وثقافيه فى ذلك الحين،
ولم تكن صدفة أن تنشأ فى عام 1964 “شلة المحلة” كما يطلق عليها، وهى مجموعة من المهتمين بالأدب والفكر شكلوا معا حالة عرفت فى الأوساط الثقافية المصرية واستمرت لأكثر من نصف قرن، ويؤكد كل من اقترب من تلك الحالة الأدبية أن أهم ما ميزها بالإضافة للإبداع المتدفق والمتميز كانت وحدتهم وتماسكهم، تلك الميزة التى لا تتكرر كثيراً فى المجتمعات الثقافية المصرية، وكانت تضم كل من ” أصدقائه جابر عصفور ومحمد المنسي قنديل وصنع الله إبراهيم ونصر حامد أبو زيد وجار النبى الحلو ومحمد صالح وفريد أبو سعدة “
كانت “شلة المحلة “جزء رئيس من الحركة الثقافية المصرية التى عرفت فيما بعد “جيل الستينيات ” والذى وصفه الكفراوي قائلا إنه “جيل الوثبة المضادة “
هذا الجيل الذى شهد انتصار الثورة وتابع نموها وتحقق أحلامها ثم انكسر بقوة مع انكسارها فى 1967، ويعتبر “الكفراوي” نفسه معارضاً رغم أنه أكد مراراً عدم انتمائه لأى تنظيم سياسي، لكنه ظل يحلم بوطن أفضل وهذا ما جعله يقف فى صفوف المعارضة طوال الوقت.
نجيب محفوظ والكفراوى
فى عام 1970 كان “محمد عفيفي مطر” يعمل فى مدينة كفر الشيخ ويصدر مع زملائه “محمد محمد الشهاوى والراحل علي قنديل ” مجلة سنابل، وكانت أحد أهم المجلات الثقافية المصرية ونشر” الكفراوي ” قصة قصيرة اعتبرها رجال الدولة إساءة للرئيس عبد الناصر، وألقي القبض عليه، والمدهش وفقا لما أكده الكفراوي أن المسؤلين عن التحقيق معه لم يكن يعلموا انتمائه السياسي فكانوا فى الصباح يتهمونه بالإنتماء لتنظيم شيوعى وفى المساء يتهمونه بالإنتماء لجماعة الإخوان!
قضى “الكفراوي” ستة أشهر وأُطلق سراحه، وطلب منه الأديب “نجيب محفوظ ” أن يروى له ما دار خلال فترة اعتقاله وبعد ثمانية أشهر صدرت رواية “الكرنك ” وعندما التقى به أديب نوبل فى مقهى ريش قال له ” ياكفراوى أنا استلهمت منك شخصية اسماعيل بطل الرواية ” والتى جسدها “نور الشريف” فى الفيلم الذى حمل نفس الإسم.
نهاية رحلة الإبداع
رغم أنه بدأ الكتابه منذ الستينيات إلا أن الكفراوي لم ينشر مجموعته القصصية الأولى “مدينة الموت الجميل” سوى فى عام 1985، وربما يعود ذلك إلى أزمة النشر التى كانت تشهدها مصر خاصة بالنسبة للأدباء الشباب، ثم صدرت له عقب ذلك عدة مجموعات قصصية منها “ستر العورة” “سدرة المنتهى” و”مجرى العيون” و”دوائر من طين” و”كشك الموسيقى” و”ياقلب مين يشتريك” و”البغدادية” وأخيراً مجموعته “زبيدة والوحش”عام 2015.
كان “الكفراوي” أحد أبناء جيل يعانى بشدة لنشر كتبه ولم يكن النشر الرسمي متاحاً كما حدث خلال حقبة التسعينينات وما بعدها.
ظل الكفراوي ورفاقه من أبناء هذا الجيل الذى ساهم فى صناعة الوهج المصرى والألق الإبداعى ظل قابضاً على جمر القيمة الفنية ومتمسكاً بالرسالة الفكرية للمبدع.
لم تُغره أضواء الميديا ولم يبحث عنها، ولم “تزغلل” عينيه شاشات السينما أو حلقات الدراما وتمسك دوما بالأبقى وهى الكتابة من أجل الناس.
وداعاً أيها الراهب العظيم، حاضن تراث قريتنا وقديس القصة القصيرة..
سعيد الكفراوي: مع السلامه يا عمنا الجليل.