ثقافة

الدكتور محمد المهدي.. غواص في بحر العباقرة (2)

إن الإبداع هو الثورة هو العبقرية بالفن والشعر وهي ليست لحظات أو أيام أو فعل سريع ينتهي، ولكنها منظومة وفعل مستمر، تمر بلحظات انتصارعند الأبنودي وقد تكون لحظات انكسار، عند جمال حمدان ، وقد تكون مبهجة عند صلاح جاهين وقد تكون كوكب عند أم كلثوم

والدكتور محمد المهدي منشغل طوال الوقت برصد دائم لعبقريات المحروسة من كل مجال، فكتب عن بطل شخصية مصر جمال حمدان ، وقدم عنه بحثًا فريدًا يرصد فيه عبقرية د.جمال حمدان فقد ولدت عظمة هذا العالم الفذ ،حيث اكتشف أن هناك منافسة غير شريفة، وضاغطة بينه وبين زملائه في قسم الجغرافيا، فانسحب من الصراع حتى لا يبدد طاقاته فيه، وآثر أن يتشبث بالشيء الأوحد الذي يعطيه دائمًا الحب والتقدير واحترامه لذاته، ألا وهو العلم، فكأنما كان يصنع علاقته مع الحياة ومع الناس (ولو من بعيد) بواسطة العلم، فكأنه يقول لهم بلسان الحال: “لم تستطيعوا أن تمنحوني الحب لشخصي، فسأحصل على حبكم وتقديركم لعلمي الذي سوف تعرفون قيمته في يوم من الأيام”، ولذلك كان يكتب للناس، ولكن عزة نفسه وكبريائه المجروحين كانا يأبيان أخذ مقابل تافه لذلك العلم، حيث كان يطمح إلى الخلود، فهي عبقرية خرجت من المحنة الشديدة الصعبة  التي لايحتملها سوي عالم جليل بحجم حامل دفتر شخصية مصر د.جمال حمدان ، ورغم عزلته ووحدته إلا أن  إنتاجه العلمي كان يعكس عبقرية من نوع خاص، فقد مكنته عزلته من تجاوز الشكليات والتفاصيل والنفاذ إلى الجوهر والروح، وقد أدى غضبه من المصريين كبشر إلى توحده مع مصر كوطن بعبقرية زمانها ومكانها، وقد أثارت حياة جمال حمدان المختلفة عن المألوف تساؤلات كثيرة، ولاتزال حتي يومنا هذا.

يركز الدكتور المهدي على فهم وتحليل عبقريات مصر المتعددة ، الأبنودي ذات يوم يتصل به باكيًا كما طفل نبيل برئ ، سعيد بما كتبه عنه ، رغم مكانة الشاعر الكبير، لكنه في معمل التحليل النفسي يدرك قيمة تفنيد عبقريته بواسطة عالم فذ في تخصصة  وكما كل الشعراء يسعدون بكلمة من محب.

الأبنودي
الأبنودي

يصف د.مهدي تلك اللحظات بالمبهجة في حياته كباحث مهتم بدراسة مصر بشرا وناسا ، قال صوته وهو يتحدث معي، بدا لي كما لو كان مثل النيل الذي يجري لمصر من الصعيد في يسر وسهولة وبعبقرية الحضارة المصرية التي تنبع من الصعيد في جزء كبير منها، ومنجز الصعيد الحضاري لمصر أكبر من التخيل ، مئات العبقريات كما وردت في الطالع السعيد لأعلام الصعيد ،

تأمل هذا البيت الشعري الفلسفي الذي يبدو بسيطا، لكنه يمثل وعي الشاعر بقضايا وطنه ،

…………………..

وقد ما قريب يا بكره

قد ما انت بعيد

أنا المتيم خفيف الظل

أنا الصامت

راقص في قلب العزا

باكي في صبح العيد.

………………

لاشك أن عبد االرحمن الأبنودي (شاعر فذ من فصيلة العباقرة المصريين ) يقول د.محمد المهدي  هناك تعريف دقيق للعبقرية، وقد يحصل بعض الخلاف بين الناس في تصنيف فلان على أنه عبقري أو عاديّ، لكن المتعارف عليه وما أصبح موضع إجماع بين أهل الاطلاع أن العبقري هو ذلك الإنسان الخارق للعادة، المتفوق على أقرانه بأشواط في مَلَكةٍ من الملكات الفكرية والروحانية والفنية، فعباقرة الفكر والشعر والموسيقى والأدب والفنون كافة ما وصلوا إلى حيث وصلوا إلا بواسطة الألم والمعاناة. وليس الألم والمعاناة بالضرورة نتيجة لعامل خارجي، بل هي في معظم الأحيان نتيجة عامل داخلي وهو الحساسية المرهفة والشعور العميق بكنه الأشياء وبجوهر المعاني. فذلك الذي يحثّه الألم وتحفّزه المعاناة ليس كالمترف المتنعّم الذي لا يباشر نتاج الفكر والإبداع إلا من موقع سطحي،

يوميات حراجي القط عمل أدبي لايتكرر

يقول د مهدي في كتابه عن الأبنودي حين قرأت هذا العمل الأدبي لأول مرة استمتعت به كثيرًا وبهرني هذا التواصل الجميل بين زوجين صعيدين بسيطين من خلال “جوابات” تحمل في طياتها أجمل وأرق المشاعر الإنسانية تحملها ذهابًا وإيابًا كلمات بسيطة من البيئة المصرية الصعيدية ولكنها منحوتة من الذهب الخالص والماس.

اكتفيت في هذه القراءة بالمتعة الوجدانية من هذا العمل الإنساني العظيم إلى أن عثرت عليه مرة أخرى مسجلًا على شرائط كاسيت بصوت الشاعر الموهوب صاحب التجربة الإنسانية العميقة عبد الرحمن الأبنودي، فأضاف صوته المليء بالشجن والمعاناة وأضافت لهجته الصعيدية العذبة كماء النيل، أضافا لهذا الديوان الشعري أبعادًا متعددة وطبقات يعلو بعضها فوق بعض وقد أغراني هذا بدراسة هذا العمل العبقري دراسة علمية نفسية بحيث أضعه تحت المجهر العلمي وأقوم بتحليل جوانبه النفسية من خلال دراستي الطويلة والمحبة للعلوم النفسية وللطب النفسي، وهنا وجدتني أمام كنز كبير وهو أن هذا الديوان (وأيضًا ديوان “أحمد سماعين” للأبنودي) يمثل “أزمة النمو” لدى الإنسان، وهي مفهوم نفسي هام لأننا نمر بها جميعًا كبشر في كل مراحل عمرنا، وتتوقف أشياء كثيرة في حياتنا على كيفية تعاملنا مع هذه الأزمة وكيفية عبورنا إياها فمنا من يكبر وينمو ويتطور ومنا من يتوقف ويخاف ويتجمد.

أدب مصري يفسر كيف نصنع الحضارة

تعتمد حركة الحياة عمومًا على نواتج أزمات النمو لدى البشر، فنرى شعوبًا تدفع النمو لأعلى وتحتفي به وتصنع من خلاله حضارات، ونرى شعوبًا أخرى تخشى النمو وتفضل الالتصاق بالأرض واتباع ما وجدوا عليه الآباء والأجداد والخوف من كل جديد ولذلك يركنون إلى الأرض حتى تتجاوزهم حركة الحياة ويعيشون حياتهم يمارسون التثاؤب التاريخي والتغني بأمجاد الماضي. لذلك فقد رأيت أننا أمام خبرة إنسانية عامة طرحها الشاعر العبقري عبد الرحمن الأبنودي من خلال تجربة هذا الشاب الصعيدي “حراجى” في النمو، وما مر به من مراحل تغيير، وما تجاوزه من صعاب. وبشكل تلقائي بسيط وعميق في آن نجد أنفسنا من الناحية العلمية نلتقط مفردات وجوانب وقوانين “أزمة النمو” فيزيد ذلك من معرفتنا العلمية النفسية بهذا الجانب الهام في النفس البشرية، وهذا ليس بالغريب، فقد كان الأدب دائمًا يسبق العلم بخطوات ويؤدي إلى فتح آفاق جديدة له، وكثير من الإنجازات العلمية سبقها خيال أديب.

ربما تعود أصالة هذا العمل وعمقه إلى كونه تجربة شخصية للأبنودي حيث غادر قريته أبنود وسعى نحو القاهرة وغيرها بحثًا عن الرؤية وعن النمو، ومر بكل مراحل هذه العملية النفسية المعقدة، وصورها وجسدها بعينه الدقيقة المبدعة في ديوانين هما الجوابات (الذي بين أيدينا) وديوان أحمد سماعين, وهو هنا لا يعبر عن تجربته الشخصية فقط وإنما يعبر عن تجربة إنسانية يمر بها الكثيرون من نبهاء أهل الصعيد حيث يجدون أن البيئة في الصعيد لا تتسع لأحلامهم وآمالهم فيهجرونها بحثًا عن أرض الأحلام في القاهرة أو الإسكندرية أو غيرها، وعلى الرغم من أن البيئة الصعيدية بيئة فقيرة بمواردها المادية إلا أنها بيئة غنية بمحتواها الفكري والإنساني ولهذا لا نستغرب حين نجد الكثيرين من عظماء مفكرينا وشعرائنا ومبدعينا قد قدموا من الصعيد، وربما تكون “النكات” التي يطلقها أهل الوجه البحري على أهل الصعيد نوع من الغيرة من نجاحهم وتميزهم وهم الذين جاءوا إلى”وجه بحري” غرباء معدمين فإذا بهم بعد سنوات قليلة مفكرين ومبدعين.

كيف تولد الوعي في رحاب السد العالي

شعر الأبنودي في قصة حراجي القط يمثل الأزمة تنشأ بين جزأين أو أكثر من أجزاء المنظومة النفسية أو بين كيانين من الكيانات المكونة لها حسب طبيعة المدرسة النفسية، فمثلًا طبقًا لمدرسة التحليل النفسي نجد أن أزمة النمو في شعر الأبنودي قائمة بين (الهو )أي الشخص المليء بالرغبات والذكريات على المستوى الأدنى للنفس وبين الأنا الموضوعية المنطقية التي تسعى نحو النمو والتوازن والرؤية الأوسع للناس والحياة. فالهو يبحث عن الأمان في جبلاية الفار ويبحث عن الأنس بجوار الزوجة والأولاد والأهل والأحباب الذين ألفهم وعاش ذكرياته الحلوة والمرة معهم والأنا يبحث عن مساحة أكبر للوعي في جوار السد العالي حيث البشر جاءوا من كل مكان ومعهم الكثير من التجارب والرؤى فهم يمثلون الحياة الواسعة الممتدة ويمثلون مستويات متعددة من الرؤى والوعي, ولكن هذا الصراع بين الهو والأنا ليس من السهل حسمه لصالح أحد الطرفين ولذلك استمرت الجوابات ذهابًا وإيابًا بينه وبين زوجته.

أما في مدرسة التحليل التفاعلاتى لـ “إيرك بيرن” والذي يفترض أن الإنسان مكون من ثلاث ذوات متناوبة ومتفاعلة هي ذات الطفل وذات الوالد وذات الراشد، فإننا نرى هنا الصراع بين ذات الطفل وذات الوالد تارة وبين ذات الطفل وذات الراشد تارة، وبين ذات الوالد وذات الراشد تارة أخرى وهكذا، ولكن ذات الراشد تحاول أن تمسك بالزمام على الأقل أغلب الوقت لكي تحقق المصلحة للجميع فالطفل لديه رغبات متناقضة ولكنها نشطة ومحركة فهو يرغب من ناحية في البقاء في حضن الجبلاية ودروبها ونخيلها وحضن الأهل والأحباب ويخشى السفر والغربة بعيدا عنهم ولكنه في نفس الوقت يريد الرؤية والتجديد والمغامرة, وذات الوالد لديها صراعات أيضًا فهي ترغب في البقاء بجانب الأبناء (عزيزة وعيد) لترعاهم وتحميهم ولكن نفس الوقت نفسه تتحمل البعد عنهم لتوفير لقمة العيش وملابس العيد ومصروفات الذهاب للكتاب والمدرسة.

عندما تكون الجوابات منحوته مصرية من الماس

وبالإضافة لهذه الصراعات الداخلية (في ذوات النفس) هناك صراعات بينية بين احتياجات الذوات المختلفة فالطفل يسعى نحو النمو والرؤية والمعرفة والانطلاق والوالد يسعى نحو الرعاية والاحتواء والتوجيه والراشد يسعى نحو تحقيق التوازن والمصلحة الموضوعية بعيدًا عن شطط الطفل وتحكمات الوالد.

هذه الديناميات المختلفة نجدها تدور في ثنايا جوابات “حراجى القط” لزوجته “فاطنة أحمد عبد الغفار” والعكس وتظهر عبقرية الأبنودي في إظهار كل هذا بشكل سلس وفي لهجة صعيدية أصيلة وبسيطة ولكن الكلمات منحوتة من الماس لتؤدي وظيفتها في السياق بلا أدنى زيادة أو نقصان, وهي مع ذلك مأخوذة من أفواه البسطاء من العمال والزراع والنساء في الصعيد الذين لم ينالوا حظًا من التعليم ولكنهم حملوا في حشاياهم الكثير من الحكمة الصائبة والثروة اللغوية الهائلة والمعبرة.

وتتبدى عظمة هذا الشاعر في قدرته على التعبير عن أسمى المشاعر الإنسانية بين زوج صعيدي بسيط وزوجة صعيدية أمية باستخدام كلمات وتعبيرات مألوفة في البيئة, ويعبر أيضًا عن مفاهيم نفسية معقدة مثل شعوره بالاغتراب حين كان في الجبلاية في الفترة السابقة للسفر ومثل أزمة النمو التي مر بها وتمر بها معه زوجته.

وتسمية “جوابات” عند المصريين بدلاً من “خطابات” ربما يكون لها معنى فأنت حين تبعث لمن تحب أو حتى من تعرفه ويعرفك ولو لأول مرة فكأنك تجيب على نداء سابق وصلك منه بصورة من الصور فأنتما في حالة تواصل مستمر تجيبان نداءات متواصلة بينكما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock