انتهينا في المقال السابق إلى طرق كسب المال التي حددها القرآن الكريم والتي تتوافق مع معظم الأنظمة الحضارية القديمة والحديثة منها، حيث إن العمل هو الطريق القويم للكسب وطبقًا لتلك الأنظمة الحضارية المختلفة فإن العمل هو الذي يعطي للإنسان قيمة، وسوف نتناول في هذا المقال طرق إنفاق المال التي حددها القرآن الكريم ومدي توافقها مع الأنظمة الحضارية المختلفة.
فإن القرآن يقضي بأن إنفاق الأموال إنما يكون بهدف تلبية متطلبات الحياة الفردية والجماعية، وأن العمل على تحقيق هذا الهدف من الأمور الدينية، ومن الأمور الاجتماعية في آن واحد.
فإنه من الأمور الدينية لأن القرآن الكريم قد فرضه فرضًا، وألزم به جماعة المسلمين إلزامًا دينيًا: ألزم به الأفراد، وألزم به الحكومات، وجعله علامة من علامات التمييز بين المؤمنين والكافرين، بين من يلتزمون بتعاليم القرآن وبين من يصدون عنها.
وهو من الأمور الاجتماعية من حيث إنه يقوي الروابط الاجتماعية ويزيد من تماسك البنيان الاجتماعي للأمة، وذلك بما يحققه من تعاون بين الأفراد، وبما يهدف إليه من: تقليل الفوارق بين الناس، والقضاء على الصراع الطبقي الذي قد ينشأ بين المواطنين نتيجة لسوء توزيع الثروة.
والآيات القرآنية المؤكدة لوظيفة المال الاجتماعية، والنصوص المفسرة لها، والكاشفة عن الوظائف الاجتماعية للمال كثيرة، وقبل الخوض في هذه الآيات لابد لنا أن نشير إلى حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي أن تعبيرات القرآن عن الوظائف الاجتماعية للمال إنما وردت في إطار من الأوضاع الاجتماعية التي كانت تسود المجتمع العربي وقت نزول القرآن الكريم، وأنها قد لا تلقى قبول الناس في هذا العصر الذي نعيش فيه فألفاظ: الصدقة، والإحسان، والزكاة، تجرح كبرياء الناس اليوم. وأن التعبيرات التي تلائم هذا العصر هي: المساعدات الاقتصادية، والمعونة الاجتماعية، وغيرها، ويمضي القرآن الكريم في الحديث عن الإنفاق في سبيل الله على أنه الإنفاق على الصالح العام الذي يتمثل في الأمنين الداخلي والخارجي، وفي الخدمات التي تقدم للمواطنين بقصد الارتفاع بمستوى حياتهم، واجب ديني ووطني في آن واحد، فهو واجب وطني من حيث إنه الأساس الوحيد الذي يقوم عليه مجد الوطن، وتقوى به الأمة وتسهم به في التقدم الحضاري.
والآية الأولى في هذا الإطار قوله تعالى “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم”.(التوبة،آية60،ص_196)
ونجد أن مصارف الصدقات في هذه الآية كما جاء في تفسير المنار الجزء العاشر ص 586، 587، تنقسم قسمين: الأول أصناف من الناس يملكونها تمليكًا، وهؤلاء هم “الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وابن السبيل” والقسم الثاني مصالح عامة ودولية، لا يقصد بها أشخاص يملكونها بصفة قائمة فيهم وهي “فك الرقاب وتحريرها، وهي مصلحة عامة في الإسلام، وليس فيها تمليك لأشخاص معينين، وكذلك في سبيل الله وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة”.
والآية الثانية في هذا المجال قوله تعالى: “ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون”(البقرة،آية177،ص_27)
وقال الإمام محمد عبده في الجزء الثاني من تفسير المنار ص 115، وما بعدها “وآتى المال على حبه..” إن هذا الإيتاء غير إيتاء الزكاة وهو ركن من أركان البر وواجب كالزكاة، وهو لا يشترط فيه نصاب معين، بل هو حسب الاستطاعة. فإذا كان لا يملك إلا رغيفًا ورأى مضطرًا إليه، في حال استغنائه عنه، بأن لم يكن محتاجًا إليه لنفسه أو لمن تجب عليه نفقته، وجب عليه بذله. وليس المضطر فقط هو الذي له الحق في ذلك، بل أمر الله تعالى أن يعطي من غير الزكاة: ذوي القربى واليتامى… إلخ وتلك المشروعية في البذل لا تتقيد بزمن ولا بامتلاك نصاب محدود.
وقد أغفل أكثر الناس هذه الحقوق العامة التي حث عليها القرآن الكريم لما فيها من الحياة الاشتراكية وتحقيق للعدل الاجتماعي.
والآية الثالثة والتي تتكرر كثيرًا في القرآن الكريم “وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة واركعوا مع الراكعين” فقد أمر الله عز وجل في القرآن الكريم بعد أمره بالصلاة التي تطهر الروح وتقربها من الله تعالى بالزكاة التي هي عنوان الإيمان، ومظهر شكر الله على نعمه، والصلة العظيمة بين الناس، فالإنسان إنما يكسب المال من الناس بمهارته وعمله معهم فهو لم يكن غنيًا إلا بهم ومنهم، فإذا عجز بعضهم عن الكسب لآفة في فكره أو في نفسه، أو علة في بدنه، فيجب على الآخرين الأخذ بيده، وأن يكونوا عونًا له وحفظًا للمجموع الذي ترتبط مصالح بعضه بمصالح البعض الآخر وتؤكدها الآية “وما تنفقوا من خير فلأنفسكم” حيث إنه يكف شر الفقراء ويدفع عنهم أذاهم فإن الفقراء إن ضاق بهم الأمر واشتدت بهم الحاجة يندفعون إلى الاعتداء على أهل الثروة: بالسرقة والنهب والإيذاء بحسب استطاعتهم، وربما يسري شرهم إلى غيرهم وربما صار فسادًا عامًا بسوء القدوة فيذهب بالأمن والراحة من الأمة.
وهنا يقول الإمام محمد عبده في ص 214 “وإصلاح الأموال واستثمارها، في هذا الزمان هو أساس القوة، فقوة الدول على قدر ثرواتها. والأمة التي تقصر في تدبير الثروة هي التي تلقي بأيديها إلى التهلكة.
وقد يرى بعض الفقهاء أن ربط مسائل العدل الاجتماعي بالدين قد يحد من نموها، ذلك لأن هذا الربط يحول بين الإنسان وبين الحرية المطلوبة في مجال الأنشطة الاقتصادية من حيث إنه لا يملك حق التغيير والتطوير في المسائل التي وردت بشأنها نصوص دينية، خصوصًا مع تطور الحياة وتشابك المصالح الاقتصادية مع دول كبرى، وتأثر الاقتصاد المحلي، بحركة الاقتصاد العالمية، إلا أن القرآن الكريم في الحقيقة لم يربط النشاط الاقتصادي للإنسان، والنشاط الاجتماعي له، بالدين، وإنما ترك له الحرية التامة في أن يمارس نشاطه الاقتصادي والاجتماعي كيف يشاء، ما دام يستهدف الصالح العام في إطار الحق والعدل.
فليس للقرآن الكريم موقف معين من النظم الاقتصادية على اختلافها رأسمالية كانت أم اشتراكية أو شيوعية، حيث إنه نزل قبل هذه الأنظمة جميعًا، ويتلخص موقف القرآن الأساسي من مسألة تكاد تكون إحدى الأسس التي يفرق بها الاجتماعيون بين النظم الرأسمالية من جانب والنظم الاشتراكية والشيوعية من جانب آخر، هذه المسألة هي الوظيفة الاجتماعية للمال.
فإننا نجد أن موقف القرآن ليس إلا تقريرًا لهذه الحقيقة، وتثبيتها في الأذهان، ودفع الناس إلى ممارسة الحياة على أساس منها.
والقرآن الكريم على امتداد آياته ينكر على الإنسان أن يحول المال من وسيلة إلى غاية، فيعالج هذه النزعة ونزعة أخرى هي الحب الشديد للمال، فتلك النزعات هي التي تحول بين الإنسان وبين تركه الأموال تؤدي وظائفها الاجتماعية وأهم طرق العلاج التي قدمها القرآن لهذه النزعات هي:
1_ إن القرآن جعل الإنفاق في سبيل تأدية المال لوظيفته الاجتماعية جزء من الإيمان، وعلامة قوية من علاماته.
” الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”.
2_ جعل القرآن الإنفاق في سبيل الله نوعًا من القرض الحسن الذي يقرضه الإنسان للخالق جل وعلا.. وهو قرض يضاعف للمقرض في الحياة الدنيا والآخرة.
“مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ”.
“مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”.
“الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
3_ تربية الناس وتعويدهم على توظيف الأموال في الخدمات والمهام الاجتماعية، تلبية لاحتياجات المحتاجين الضرورية، ولمتطلبات الحياة العامة، والوطنية والقومية.
4_ التوازن الدقيق بين الواجب، أو بين الحرية والسلطة: حرية الفرد في تنمية ماله واستثماره، وسلطة الدين في تقرير مبدأ العدالة الاقتصادية والاجتماعية، فالمال فيما حدده القرآن الكريم لم يخلق ليكون غاية في ذاته، وإنما خلق ليؤدي وظائف اجتماعية معينة.
والوظائف الاجتماعية التي أشار إليها القرآن الكريم تكاد تنحصر في تلبية احتياجات الأفراد- بما فيهم صاحب المال-وتلبية احتياجات الدولة أو الإنفاق في سبيل الله.
وموقف القرآن في الحقيقة، إنما هو موقف الذي يقدر المسئولية التي يجب أن يتحملها الإنسان من تلقاء نفسه في الأعمال الاجتماعية وتركها له.
ولم يزد على أن حضه عليها، وبين له أنه على أساس من هذه المسئولية يكون يقيمه في الدنيا وفي الآخرة، فمنزلته الاجتماعية في الحياة الدنيا مرتبطة بهذه المسئولية، وثوابه وعقابه في الآخرة مرتبط أيضًا بهذه المسئولية.
ومما سبق نستطيع أن نحدد موقف القرآن من دعوته المسلمين إلى العمل على أن تؤدي الأموال وظائفها الاجتماعية، والتي يتحقق بها الصالح العام، على الوجه التالي:
أولًا: فرض فرضه القرآن الكريم، وألزم به جميع المسلمين وحد به من الحرية، ولكن المتأمل يرى هذا الفرض والالتزام غير معطلين لحق الإنسان في حرية التصرف في أمواله، وأن هذا القرض يتمثل في نسبة مئوية من الدخل واجبة الدفع.
وهي نسبية يحددها القرآن وحددها النبي والمجتهدون من الفقهاء ولكنها من الضالة بحيث لا تعطل حق الحرية وأنها ربع العشر في عرف الأكثرين.
ثانيًا: تعليمات وردت في القرآن الكريم، وفي ثناياها ترغيب فيها، وحق على القيام بتنفيذها، وإلى جانبها عبارات تبين ما يمكن أن تحقق من نفع، وما يمكن أن تدفعه من خزي.
ولقد ترك للإنسان حق تقدير الموقف، وحق التعرف على النسبة المئوية لما يمكن أن يوظفه من أمواله في سبيل تلبية الاحتياجات الفردية والجماعية المشار إليها سابقًا.
ويبقى أن نشير إلى أن تلك الحرية التي يتمتع بها الإنسان في التصرف في أمواله قد تسلب منه إذا لم يقدر المواقف تقديرًا سليمًا، ومن هنا وضعت قاعدة الحجر على السفهاء، وأن تلك الحرية من الممكن أن تسلب أيضًا حين تكون هناك ضرورة لا تدفع إلا بأموال تعجز الدولة عن تدبيرها عن طريق الإقناع.
والتنظيم الحديث للدول قد وضع القواعد والآليات التي تنظم الحرية الفردية وتوجه صالح المجتمع.
والخلاصة التي نستخرجها من المقالات السابقة تقرير الحقائق التالية:
1_ إن القرآن الكريم يمضي في آياته العديدة على أن للأموال وظائف اجتماعية وأن الأموال خلقت لتأدية هذه الوظائف، فلم تخلق لتكون غاية في نفسها، وإنما خلقت لتكون وسائل لتحقيق غايات مستهدفة.
ووظائف الأموال الاجتماعية تكاد تنحصر حسب ما ورد في الآيات القرآنية المتعلقة بالأموال – في الإنفاقات التالية:
أ_ تلبية الاحتياجات الضرورية بالنسبة للأفراد – ويستوي هنا أن يكون هؤلاء الأفراد من أقارب المنفق أو غرباء عنه – الغرباء جنسًا أو لغة أو دينًا.
ب_ تلبية متطلبات الحياة العامة، وهذه المتطلبات تتمثل في أعمال وفي خدمات، تقوم بها الدولة من أجل الارتفاع بمستوى الحياة وتحقيق الخير العام لجميع المواطنين.
2_ إن القرآن الكريم يعارض معارضة شديدة أن تصبح الأموال وسيلة للظلم والطغيان، والسخرة والاستغلال – ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان – ويعتبر ذلك كله من قبيل أكل أموال الناس بالباطل. ومن أجل بعض ذلك حرم القرآن الربا، وهدد أكليه.
3_ إن القرآن الكريم قد أعلنها حربًا شعواء على الذين يمنعون الأموال من أن تؤدي وظائفها الاجتماعية، أو ينحرفون بها عن طريق الخير إلى طريق الشر.
4_ إن هذه الحقوق المالية التي فرضها القرآن الكريم على أصحاب الأموال إنما تثبت فيما تحكي الآيات القرآنية من واقعين اجتماعيين:
أحدهما: هذه الخدمات العديدة التي تقوم بها الدولة من أجل الريادة في الإنتاج، والمزيد من الكسب هذه الخدمات تتمثل في محاربة الآفات الزراعية، شق الترع والمصارف، تحقيق الأمن، مد خطوط النقل، محاربة الاستغلال عن طريق التلاعب بالأسعار …إلخ.
ثانيهما: التعاون والتكافل الذي يقوم بين الناس لتعايشهم في وطن واحد، وهو تعاون يحقق زيادة في الإنتاج ومزيدًا من الدخل، وهو تكاتل يزرع في القلب مزيدًا من الطمأنينة بحيث لا يرهب المستقبل، ولا يخشى الضرورة.
5_ إن حجم الإنفاق يتوقف على إدراك الضرورات والوقوف السليم على كل أبعادها.
وإدراك الضرورات وتقدير الصالح العام يكون واجب على الذين يمثلون الأمة ممن يتوفر فيهم الشروط التي تجعلهم من أولي الأمر