ثقافة

خطاب الحداثة بين محمد أركون وعبد الله العروي

يعد تاريخ الفكر العربي المعاصر، بدرجة كبيرة تاريخ تلقيه لمفهوم الحداثة، والتفاعل معها،  وعلى هذا الأساس نشأت مشاريع فكرية تحاول قراءة الواقع العربي قراءة منهجية منفتحة على تجارب الحداثة الغربية بإنجازاتها المعرفية والاجتماعية والسياسية، مستفيدة من خطاب ما بعد الحداثة ومن أفكار فلاسفة الاختلاف والتفكيك، ومن هنا تعد الحداثة من أبرز الإشكاليات المعقدة التي تواجه المفكرين، في العالم العربي على نحو خاص وفي العالم على نحو عام ، فهي مصطلح ملتبس وموضع خلاف و ليس له معنى محدد و واضح . وقد أضحى هدا المصطلح ” الحداثة ” محور اهتمام العديد من المفكرين العرب، وإذا كانت الحداثة، عامة، عبارة عن استراتيجية شمولية يتبعها العقل، من أجل السيطرة على كل مجالات الوجود والمعرفة والممارسة، عن طريق إخضاعها لمعايير الصلاحية أو عدمها، بحسب تعبير يورجن هابرماس، فإن المجتمعات العربية والإسلامية، تجد اليوم نفسها أمام إشكالية جديدة، تطرح السؤال الآتي: ما نوعية الفكر الذي نحتاج إليه لينهض بالعقل الذي نبتغيه ونطمح إليه، وهوالمسمى: “عقل الحداثة”؟

يورجن هابرماس
يورجن هابرماس

وسوف نحاول في هذا المقال الاقتراب من خصوصيات الخطاب حول الحداثة في الفكر العربي المعاصر من خلال (محمد أركون – عبد الله العروي)، للاقتراب من السؤال المركزي حول نوعية الفكر الذي نحتاج إليه لينهض بالعقل الذي نبتغيه ونطمح إليه.

محمد أركون

شغلت إشكالية الحداثة والنهضة حيزا مهما في مشروع محمد أركون القائم أساسا على «نقد العقل الإسلامي» من منطلق تفكيكي، وذلك بتشييده لحقل معرفي سماه “الإسلاميات التطبيقية”، الذي يهدف إلى قراءة ماضي الإسلام وحاضره انطلاقا منخطابات المجتمعات الإسلامية والعربية وحاجاتها الحالية، وفي هذا المجال المعرفي يسعى أركون إلى تجاوز الإسلاميات الكلاسيكية الخاصة بالمستشرقين والتي لا تكاد تتجاوز الدراسة الوصفية والخارجية، يسعى أركون إلى استثمار العلوم الاجتماعية والإنسانية في مقاربته للنصوص الإسلامية من أجل تخطي سطحية وخارجية العمل الاستشراقي، والنفاذ إلى عمق المشكلات من خلال عملية انخراط ابيستمولوجي كامل، ويقول أركون “ومن الواضح إن منهجية الاستشراق لا تؤدي في معظم الأحيان إلى تعرية المشاكل وآليات الهيمنة والتسلط السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية وهي تبدو في معظم الأحيان متواطئة مع الأرثوذكسية  والفئات المهيمنة داخل هذه المجتمعات بالذات”. يتضح هنا أن الرؤية الإستشراقية في نظر أركون رؤية قاصرة تفتقر إلى القدرة على فهم خصوصية الظاهرة الإسلامية، وآليات التحول داخل المجتمعات العربية الإسلامية كما أنها لا تولي اهتماما بالحاجيات الحالية لهذه المجتمعات، فضلا عن النظرة الاستعلائية العرقية لدى بعض المستشرقين المتولدة عن فكرة “التمركز حول الذات” التي تشبع بها كثير من الباحثين والفلاسفة الأوروبيين، وتم تأسيس مشاريع فكرية ومنظومات فلسفية متكاملة على أساس هذه الفكرة، كما هو الحال في فلسفة هيغل.

ومن خلال اهتمام أركون بـ “نقد العقل الإسلامي” والدعوة إلى إسلاميات تطبيقية،  يطرح إشكالية العلاقة بين التراث والحداثة، تلك الإشكالية المزمنة التي رافقت الفكر العربي منذ عصر النهضة، ولاتزال فاعلة في الخطاب العربي المعاصر. ويعترف أركون بأن انشغاله في مجال الفكر الإسلامي ليس من باب الدعوة إلى إعادة الاعتبار للتراث الديني بطريقة ماضوية: «أنا لست أصوليا ماضويا، ولاأعتقد بإمكانية إعادة الماضي والعصور الخالية،الشيء الذي أريده هو إقامة مقارنة جادة وصارمة إلى أبعد حد ممكن بين البعد الديني ومعطيات العلوم الإنسانية والاجتماعية، أقصد المقارنة بين البعد الديني بكل ما يعنيه من قيمة روحية بالنسبة لوجود البشر، وبين فتوحات الحرية التي حققها العقل أكون: الإسلام لحظة انبثاقه العلماني في أوروبا، والتي لا ينبغي إنكارها أو يجد شكلا من أشكال الحداثة التراجع عنها بأي حال من الأحوال».

يحدد أركون إذا خصوصيات منهجه في مقاربة النصوص والظواهر الإسلامية؛ فهو يرفض الواعي والهادف. الخطابات الدعائية، التبجيلية، الشعاراتية التي يختفي وراءها أصحاب الرؤى التقليدية الماضوية، الذين يبدو لهم التراث إنجاز متراكم ومنتهي يمكن استعادته، وتوظيفه توظيف أيديولوجي في معارك الحياة الواقعية الجديدة.

يرفض أركون هذه الرؤية اللاتاريخية، وهذا العقل الأسطوري الذي لا يقود إلا إلى حصد الكوارث على الصعيد الاجتماعي والفكري أيضا، وفي المقابل يشرع أركون أبوابه على معطيات الحداثة الغربية، ولا سيما في إنجازاتها المعنوية، وبالأخص طفرة العلوم الإنسانية والاجتماعية التي حققت للبشريةعامة والفكر خاصة أهم إنجاز وهو التمكين للوعي التاريخي الذي حل محل التفسيرات اللاهوتية والأسطورية.

ومن هنا نجد أركون يفهم الحداثة الغربية فهما خاصا، فهو حينما يوظفها في مقاربة النص الديني، يحاول تطويعها لتلائم جوهر القيم الروحية التي يحققها الدين بالنسبة إلى الوجود البشري، وذلك مالم تركز عليه الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية.

محمد أركون نقد العقل الاسلامي

لقد تشكلت الحداثة الغربية – مثلا – في سياق تاريخي طبعته روح نقدية قوية تجاه الأنظمة التقليدية على كافة الصعد والمستويات، تمت الحداثة الغربية في سياق القطيعة مع أنماط الفكرالأسطوري والتفسير اللاهوتي للظواهر، والثورة على البنی الاجتماعية التقليدية، من خلال نضالات البرجوازية ضد الثقافة الإقطاعية بكل منظوماتها الدينية والعقلية، وبكل حمولاتها الأيديولوجية، ورأسمالها الرمزي، كما كانت حداثة الغرب تتويج المسار طويل من محاولات إخضاع الطبيعة لسيطرة الإنسان، والقضاء على بقايا التصور الميتافيزيقي للعالم. الحداثة الغربية إذا هي حصيلة موقف روحي خاص تجاه العالم والإنسان. سماته الرئيسية؛ العقلانية والوضعية  والعلمانية، والدنيوية في المقابل ما نشهده في واقع المجتمعات العربية الإسلامية هو تجارب تحديث استهلاكي تعوزها الأصالة والإبداع والروح النقدية. هذا ما يؤكد عليه أركون، يجب تجاوز أنماط التحديث السطحي إلى ضرب من الحداثة العقلية والفكرية، نابعة من رؤية شاملة للوجود، حداثة متأصلة في الوعي العربي الإسلامي، تجيب عن تساؤلات الواقع العربي، وتستجيب لطموحات وأشواق الإنسان العربي. لقد قادت تجارب التحديث الجاهزة إلى نتائج رديئة بل إلى كوارث، وهذا ماحصل فعلا في تجربة التصنيع الثقيل في الجزائرالذي انتهى إلى مصير اجتماعي واقتصادي في منتهى البؤس.

يفرق أركون أيضا بين الحداثة والمعاصرة، فقد يعاصرنا أناس لا علاقة لهم بالزمن أو الحداثة. الحداثة ليست زمنية أو تزامنية، إنها موقف روحي أصيل قد يوجد في أي زمان. لقد كان أرسطو والجاحظ والتوحيدي والمعري ومونتني الفرنسي حداثيين ربما أكثر من شخصيات فكرية تعيش بيننا الآن. وفي هذا السياق يقارن أركون الحداثة بالنزعة الإنسية  التي تتلخص في «المزج بين الثقافات والحضارات وصهرها في بوتقة ما وبيئة ما».

الإنسية التي يراهن عليها أركون هي تلك الروح المتعالية عن الشوفينية والعرقية الضيقة، هي انفتاح على الآخر بثقافته، وقيمه وتصوراته. لقد تجلت هذه الإنسية في الثقافة العربية عند أبي حيان التوحيدي الذي يتعاطف معه أركون تعاطفا كبيرا، ويرى فيه رمز التمرد والإبداع وضحية الدوغمائية  والانغلاق والتحجر لدى بعض الفقهاء والساسة الذين رموه بالزندقة والخروج عن تعاليم الإسلام، كما كان الجاحظ مثقف إنسية، متفتح على الأفكار والثقافات الأخرى، جمع بين الفكر اليوناني والفارسي والعربي الإسلامي.

يؤكد أركون دائما على أهمية أن يتجاوز الفكرالعربي ما قدمه المصلحون الأوائل من انتقادات، وينفتح على قراءة جادة للأسس النظرية التي تتأسس عليها الحداثة، ويكف من جانب آخر عن التوظيف الأيديولوجي للتراث والحداثة معا.

فالحداثة ليست مجرد قيم ومؤسسات لنا الخيار في قبولها أو رفضها، بل هي عملية تاريخية فرضت نفسها على المجتمع العربي، فالمطلوب هو تحليل المشكلات التي تطرحها هذه الحداثة وتحليل المنطلقات الأساسية للتيارات الرافضة لعملية التحديث، وتجاوز حداثة الاستلاب القائمة على نفي الذات والانصهار الكلي في الآخر.

عبد الله العروي

يميز عبد الله العروي بين ثلاثة تيارات تمثل«الأيديولوجيا العربية المعاصرة في موقفها من التراث والحداثة والتجديد وغيرها من القضايا الجوهرية التي طبعت فكر عصر النهضة. وقد رمز لهذه التيارات «بالشيخ ورجل السياسة و رجل التقنية». «فالشيخ» – ونموذجه هنا هو محمد عبده – في رؤيته للتناقض بين الشرق والغرب يبلور خطابا سجاليا تقليديا أساسه النزاع بين الإسلام والنصرانية، يستحضر خطاب العقلانية العربية القروسطية – ابن رشد خاصة – فيدافع عن المنابع الصافية للإسلام، ويظهر عقلانيته وجوانب التحرر فيه. يرد على من يصف الإسلام بأنه دين التعصب والتحجر، وأن الغرب هو موطن الحرية، ويعود إلى القرآن ليكشف عن منابع التحرر، ولكنه – كما يلاحظ العروي – يسكت على ما فعله المتوكل بالمعتزلة، والمرابطون بالغزالي، والموحدون بابن رشد – الشيخ يميز بين إسلام صاف متعال، وإسلام أرضي خاضع للأهواء.

أما «رجل السياسة» – ونموذجه لطفي السيد – فهومولع بالغرب الليبرالي المتمدن، مفتون بالنظم البرلمانية الديمقراطية، مناهض للاستبداد «يمزج دعوة روسو بدروس مونتيسكيو، يفهم مثال الديمقراطية على شاكلة النظام البرلماني الإنكليزي». وإذا كان السياسي الليبرالي إزالة الانتقادات يحاول تأويل التاريخ، ويدعو العروي إلى ضرورة استحضاره في معركة الحياة المعاصرة

رجل «التقنية» هذا الرجل – ونموذجه هو سلامة موسي – يهزأ من أوهام الشيخ

التلقائية والانغلاق الفكري والسياسي ينظر إلى الغرب نظرة انبهار، يعمل إلى نظرة إنسانية شمولية بكل ما أوتي من قوة لاستنساخ نموذجه الغرب عنده هو الخلاص من جحيم التخلف وعبودية القديم، شعاره التقنية والتقدم العلمي

تأسيسا على هذه النمذجة التي اقترحها العروي للفكر النهضوي، يمكن أن نلاحظ أن خطابه حول الحداثة يتأسس على رفض الحداثة بوصفها أيديولوجيا ذات طابع إقصائي يفتقر إلى الروح النقدية، ويظهر ذلك في وصفه لعقلية رجل التقنية بأنها إرهابية. يرى العروي أن الفكر العربي مطالب باستباق ما أنجزه الغرب لا مجرد ملاحقته وذلك للخروج من الإطار الضيق «للأدلجة» إلى نطاق الفكر الفعال المطابق للواقع.

يدعو العروي إلى ضرورة التحلي بوعي نقدي، وتجاوز التلقائية والانغلاق الفكري إلى نظرة إنسانية شمولية تكون فاتحة لعهد جديد يتميز بالحوار الفعال والحقيقي مع الآخر، بعيدا عن النظرة الاحتقارية للذات والانبهار الأجوف بالآخر. وإنما يتحقق هذا الطموح بمدى استيعاب الفكر العربي لمكاسب العقل الحديث «من عقلانية وموضوعية وفعالية

عبد الله العروي مفهوم الإيديولوجيا

ويؤكد العروي على أهمية الاستفادة من إنجازات الليبرالية الغربية بكل قيمها التحررية. وهو يحدد الليبرالية بكونها النظام الفكري المتكامل الذي تكون في القرنين السابع والثامن عشر والذي حاربت به الطبقة البورجوازية الأوروبية الفتية الأفكار والأنظمة الإقطاعية». ويبين العروي أن حركة نقد التراث الليبرالي من منطلق الأيديولوجيا النضالية، أي بوصفه حليفه ومبرره للاستعمار، والتغاضي عن إنجازاته الإنسانية العظيمة، ستكون نتائجها في منتهى الخطورة؛ إنها ستشجع بروز التيارات التقليدية وتعطي شرعية لخطابها اللاتاريخي،وستعيد إلى الواقع كل الأشكال العتيقة والمميتة فيذهن وسلوك المجتمع. ولا شك في أن التوسع الاستعماري وما نتج عنه من اضطهاد الثقافات الأخرى وتفكيك بنياتها التقليدية وتحجيم فعاليتها التاريخية كان له دور حاسم في انكسار بعض القيم الليبرالية التحررية، فظهر مفكرون غربيون يبشرون بخطاب انتقادي للأيديولوجيا الليبرالية الغربية من أمثال برنارد شو، وتوماس مان، ورومان رولان، وأخيرا روجيه جارودي وغيرهم. ومهما تكن فعالية هذا الخطاب المضاد لليبرالية الغربية فلا يمكن أن يكون مبرر للتغاضي عما أنجزته من مقومات التحرر والتنوير والحداثة والإنسية التي نحن في أشد الحاجة إلى وعيها وممارستها الواقعية من أفق ثقافتنا وهويتنا.

هل تعني هذه الدعوة إلى تبني قيم الليبرالية الغربية تموقع من قبل العروي في إطار تیار فكري نهضوي أشار إليه في «أيديولوجيا العربية المعاصرة، أقصد التيار الذي رمز إليه «برجل السياسة»؟ وبخاصة أنه رفض منطق رجل التقنية ورؤيته القاصرة وتحفظ منخطاب الشيخ ذي النزعة الماضوية على الرغم من انفتاحه على بعض معطيات الحداثة الأوروبية؟ مهما يكن من أمر فإن العروي يراهن على فعالية الممارسة الليبرالية، ويذهب أبعد من ذلك فيعترف بأن أعماله الفكرية تدور حول مسألة «كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل وبدون أن يعيش مرحلة الليبرالية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock