طوال الأسابيع الأخيرة حبس العالم أنفاسه بسبب مواصلة الرئيس ترامب إنكار الهزيمة ورفضه تسليم السلطة، وانقسم المحللون السياسيون حول السؤال: هل سيدخل الرئيس في مرحلة طويلة من الإنكار المزمن أم أنه قد يبدأ مرحلة جديدة من التعافي ؟ يبدو أن ترامب وفريقه قد توصلوا أخيرا لصيغة أكثر واقعية تتمثل في التعامل مع ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات والموافقة على بدء إجراءات نقل السلطة، استجابة للضغوط، مع عدم الإقرار أو الإعتراف بالهزيمة أخلاقيا وقانونيا كونها ناتجة عن التزوير والتلاعب غير الدستوي بالنظام الانتخابي في العديد من الولايات.
وكان ترامب قد نشر تغريدة على تويتر أمس الإثنين يعلن فيها موافقته على حصول الرئيس المنتخب جو بايدن على الدعم الفيدرالي اللازم لبدء عملية نقل السلطة، مؤكدا أنه أقدم على هذا القرار”من أجل مصلحة” الولايات المتحدة، لكنه عاود التأكيد على رفض الإقرار بالهزيمة وشدد على مواصلة القتال القانوني قائلا: “قضيتنا مستمرّة بقوّة، وسوف نواصل القتال الصالح، وأعتقد أنّنا سننتصر!”.
ليست المرة الأولى التي يحير فيها ترامب المراقبين السياسيين والرأى العام، فقبل حوالي عشرة أيام وفي معرض حديثه عن رفض الإغلاق مستقبلا بسبب كوفيد 19 تساءل ترامب: ” من يعرف أي إدارة ستكون؟، أعتقد أن الوقت سيخبرنا”. حينها تلقف المراقبون كلماته وسارعوا بتفسيرها كأول إشارة إلى احتمال إقراره بالهزيمة في الانتخابات. لكن سرعان ما خاب ظنهم، فعلى الرغم من اتساع فارق الأصوات لصالح بايدن يوما بعد يوم، وتهاوي الدعاوى القضائية لفريق ترامب القانوني الواحدة تلو الأخرى ، إلا أن ترامب واصل تغريداته مؤكدا أنه الفائز وأن بايدن أنتخب بالتزوير، وأن مشوار القضاء لايزال طويلا.
مع كل تغريدة كان يتأكد للجميع أن “حالة الإنكار” التي يعانيها ترامب أكثر استعصاء مما تصور الجميع في البداية، وأنه لايزال يواصل الالتفاف على الإقرار بالنتائج مع الإعتراف النهائي بالهزيمة، فهل دخل ترامب في حالة من “الإنكار المرضي المزمن” الذي لاتزال أشكاله تتغير مع الوقت استجابة للضغوط التي يتعرض لها مؤخرا؟
إنكار مركب
يميز علماء النفس بين المستوى البسيط من الإنكار الذي يمكن أن يواجهه الإنسان العادي عند مواجهة خبر صادم، وبين حالات الإنكار المرضي المزمن. المثال الأشهر على الإنكار البسيط هو جمل الإنكار التي عادة ما ترد على لسان الإنسان لحظة علمه بوفاة عزيز. السمة الأساسية لهذا النوع البسيط والعادي من الإنكار هو أنه لحظي، وقد تتراوح “اللحظة” بين دقائق أو ساعات وحتى أياما قليلة بحد أقصى.
رئيس غير ناضج
ثمة وجه إيجابي للإنكار البسيط، فهو آلية تكيف تمنح الشخص بعض الوقت للتأقلم مع الأوضاع المحزنة بشكل مؤقت. إنها أقرب لفترة نقاهة نفسية وذهنية تمهد لتلك اللحظة التي يكون الشخص قد استجمع نفسه وأصبح قادرا على الاعتراف وتقبل الواقع.على العكس ، لاحظ المراقبون والرأى العام خلال الأيام الأخيرة أن الرئيس ترامب يعاني من حالة إنكار أكثر تعقيدا صنفها فرويد كآلية دفاعية للعقل غير الناضج، حيث أنها تتعارض مع القدرة على التعلم من الواقع والتعامل معه، وهى حالة قد تمتد لفترة من الزمن، وعادة ما يصاحبها إقدام الشخص – بشكل غير واع أو متعمد – على تصرفات تؤكد إنكاره، فتجده يستمر في ممارسة حياته الطبيعية قبل الخبر الصادم ( كأن شيئا لم يحدث )، بل إنه كثيرا ما يواصل سلوكياته المعتادة بشكل مبالغ فيه إمعانا في الإنكار.
تخفيف الضغط: نشاط رئاسي محموم
لا يملك المريض في حالة الإنكار المرضي القدرة ولا الوقت للتفكير العقلاني، بل يكون واقعا تحت ضغط شديد يدفعه دفعا لإخراج توتره نحو الخارج أو نحو الآخرين خاصة هؤلاء الذين يمكن أن يعوقوا عملية التخلص من الشحنات السلبية بأقصى قوة وبشكل فوري. في الحيلاة العادية يتجسد ذلك في المشهد المتكرر لشخص يطيح بكل ما حوله تكسيرا دون تمييز، وكذلك تجاه من يحاول منعه من إطلاق هذه الشحنات أو يحاول إرجاعه للواقع حتى لو لو كان من المقربين له.
في حالة ترامب، تفسر هذه النظرية موجة النشاط “الرئاسي” المكثف والمفاجئ والمحموم التي انتابته مؤخرا، ، وتمثلت في الإقدام على قرارات “خارجية” خطيرة مثل تخفيض القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق والتفكير في ضربة عسكرية لإيران حتى لوكانت محدودة أو كان من سيقوم بها إسرائيل. في الاتجاه ذاته أقدم ترامب على إقالة كل من يختلف معه في الرأى بخصوص هذه القرارات، ومنهم عدد من كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين إضافة إلى المسؤول عن ضمان أمن الانتخابات، ناهيك عن تصرفاته الأخرى للتنكيل السياسي الموجه لفريق بايدن نفسه، وكلها قرارات قد لا تتسق مع المصلحة الوطنية للولايات المتحدة ولا تتناسب أيضا مع طبيعة “المرحلة الإنتقالية”.
ثمة ملاحظات ثلاث على شكل القرارات الرئاسية الأخيرة لترامب، أولها أنها بدت – في جانب من جوانبها – وكأنها قرارات ذاتية حتمية التنفيذ من قبل رئيس واقع تحت ضغط، ويبدو أنه لم يكن يملك القدرة الانفعالية على ضبطها أو إرجائها. وثاني الملاحظات الشكلية أن قرارات الإقالة لقيادت الدفاع والأمن والاستخبارات – أو الضغط غير المعلن لتقديم الاستقالات أحيانا – بدا وكأنها ليست مجرد قرارات موضوعية تقتضيها المصلحة السياسية، ولكن بدا أنها كانت تحمل قدرا من “الغضب الشخصي” من قبل الرئيس تجاه من حاولوا عرقلة إطلاق شحنات التوتر داخله نحو الخارج، وهو ما يمكن التدليل عليه من وقائع مثل تجاهله للتقاليد المحترمة المتعارف عليها في إقالة القيادات الكبيرة من هذا المستوى، وتعمده اتباع أساليب مهينة مثل الإقالة بتغريدة من ثلاث كلمات على تويتر !!
أما الملاحظة الثالثة فهى أن بعض هذه القرارات بدا عدائيا ولا يستهدف سوى إيذاء الطرف الآخر، ويدخل تحت هذا النوع من التصرفات إصراره طوال الفترة الماضية على حجب البيت الأبيض للإفادات الاستخبارية اليومية عن الرئيس المنتخب بايدن وفريقه، ووقف تمويل عملية الانتقال من قبل وكالة الخدمات العامة، دونما وضع احتمال لتسلمهم لمهام الرئاسة في الاعتبار.
التزوير .. الرواية البديلة
يأتي “إنكار المسؤولية الشخصية” عن الحدث المؤلم على رأس أولويات “الإنكار” كعملية نفسية، وعادة ما يتم ذلك عن طريق لوم الآخرين أى تحويل الذنب إلي طرف آخر. ولكى يكون لوم الآخرين مقنعا، يستدعي الأمر بطبيعة الحال تركيب رواية بديلة للرواية الحقيقية التي يتم إنكارها. ويلاحظ هنا أنه وكما يقول علم النفس، ينبغي أن تكون الرواية البديلة محملة بشحنة عاطفية أو أخلاقية سلبية تحط من شأنها ومن شأن فاعليها كسبا للتعاطف.
في حالة ترامب تم اللجوء لرواية التزوير كبديل بهدف نفى رواية انخفاض الشعبية. بمقتضى هذه العملية يتحول الديمقراطيون إلى “أشرار” تجرأوا على أقدس ما في النموذج الديمقراطي الأمريكي، ليس فقط التزوير ولكن بشكل أدق “إهدار قيمة الأصوات القانونية” التي ضاعت وسط ما تعتبره رواية ترامب تصويتا “غير قانوني“.
لماذا يتقاعس الوسطاء؟
مع استمرار الأزمة لوقت أكثر مما هو معتاد، ومع تصاعد القلق من تعثر عملية انتقال السلطة وارتباكها هذه المرة، تكررت المطالبات للوسطاء المقربين من ترامب ممن يمكن أن يستمع إليهم بالتدخل لديه وربما الضغط عليه للتعاون بشأن المسارعة بالتعاون في عملية تسليم السلطة. هنا كانت نظرية الإنكار حاضرة أيضا، حيث يرى المعالجون النفسيون أن تسرع الأهل والمقربين بمحاولة انتشال المريض من حالة الإنكار تكاد تكون مستحيلة وقد تتسبب في المزيد من تفاقم الحالة، وأن التوقيت هنا هو عاما حاسم. يفسر ذلك إحجام المقربين من ترامب أو ترددهم وتأخرهم في على لعب دور الوسيط.
وعادة ما ينصح المعالجون المقربين بتجنب محاولة إقناع المريض بالتخلي عن الإنكار بشكل مباشر، وأن أقصى ما يستطيعه المقرب أن يساعد المريض على الاقتناع بإمكانية النظر في طرق بديلة لفهم الواقع المحيط به. وهو ما يفسر فشل المناشدات الفردية من قبل بعض السياسيين مثل السناتور لامار ألكساندر عن ولاية تينيسي الذي طالب ترامب “بوضع المصلحة العامة البلاد في المقام الأول ومساعدة بايدن على النجاح ” وأنه “عندما تكون في الحياة العامة، يتذكر الناس آخر شيء تفعله”، وكذلك نأكيد و شيلي مور كابيتو سيناتور ولاية وست فرجينيا الذي أكد على أنه “في مرحلة ما، يجب أن تنتهي انتخابات 2020”.
استدعى فشل المناشدات الفردية استخدام شكل آخر من الضغط الأدبي تمثل في الضغوط الجماعية التي يبدو أنها كانت أكثر قدرة على زحزحة موقف الرئيس ترامب ولو بالقدر الذي يسمح بتحرك المسار الإجرائي لانتقال السلطة، بغض النظر عن تقييمه الأخلاقي والقانوني لما حدث في الانتخابات مزورة أم غير مزورة. تمثلت أهم هذه الضغوط الجماعية في بيان صدر عن أكثر من 100من مسؤولى الأمن القومي السابقين من أعضاء الحزب الجمهوري، وهو البيان الذي أكد على أن ” رفض الرئيس ترامب السماح بعملية الانتقال الرئاسية يشكل مخاطر كبيرة على أمننا القومي، في الوقت الذي تتصدى فيه الولايات المتحدة لجائحة عالمية وتواجه تهديدات خطيرة من خصوم على المستوى العالمي وجماعات إرهابية وغيرها من القوى”، ودعا البيان “القياديين الجمهوريين – لا سيما من هم في الكونجرس – إلى مطالبة الرئيس ترامب علنا بوقف هجومه المناوئ للديمقراطية على نزاهة الانتخابات الرئاسية” وهو ما حدث بالفعل.
أما الضغط الجماعي المؤثر الآخر فصدر عن أكثر من 160 من قادة الأعمال الذين طالبوا ترامب بالاعتراف فورا ببايدن كرئيس منتخب.، وأوضحوا في بيانهم أن “حجب الموارد والمعلومات الحيوية عن إدارة قادمة يعرض الصحة العامة والاقتصاد وأمن أمريكا للخطر”.
استراتيجية تخفيف المخاوف
أحد التفسيرات الأخرى لإصرار المرضى على مواصلة الإنكار هو الخوف الداخلي من العواقب التي قد تترتب على الواقع الجديد المرفوض. وبالتالي فإن تقليل هذه المخاوف هو أحد التكتيكات العلاجية الناجعة في تشجيع هؤلاء المرضى واقتناعهم بالتوقف عن المماطلة والمسارعة للإعتراف بالواقع مهما كان مؤلما، وهو تكتيك ليس مستبعدا أن بعض الوسطاء يعملون عليه الآن مع الرئيس. بعض من هذه المخاوف لدى ترامب هى مخاوف شخصية، يأتي على رأسها تخوفه من تحريك عدد من الدعاوى القانونية الجاهزة ضده وضد شركاته، كاتهامه بالتهرب من الضرائب مثلا، بمجرد تجريده من الحصانة الرئاسية التي يتمتع بها الآن. وكان بعض المراقبين قد أشاروا إلى احتمال عقد صفقة سياسية مع ترامب يتم بموجبها تسهيل انتقال السلطة مقابل اتفاق على “خروج آمن له”، وهو ما قد تكشف عنه الأيان القادمة.
استراتيجية الدور البديل
أحد الأسباب الأخرى للقلق الذي ينتاب من يعانون حالة إنكار تخوفهم من تبخر الأدوار المهمة التي اعتادوا القيام بها والتي أصبحت جزءا من حياتهم . في حالتنا يخشى ترامب من تبخر تألقه وتفرد دوره السياسي، وبوجه خاص إرضاء ميوله النرجسية واستعراضه الكاريزمي – خاصة على شاشات الإعلام والسوشيال ميديا. قد ينصح الوسطاء ترامب بالمسارعة بالاعتراف بالهزيمة – أيا كانت الأسباب – والتركيز على إعادة صياغة دوره السياسي بعد خروجه من البيت الأبيض، واستثمار شعبيته وقدرته على التأثير كزعيم للمعارضة الجذرية بين أنصاره الذين يناهزون الأربعة وسبعين مليون صوت إنتخابي وهى كتلة قابلة للزيادة خلال السنوات الأربع القادمة، تمهيدا لعودته للترشح في انتخابات 2024.، بل إن البعض تحدث عن احتمال أن يفكر ترامب في تأسيس حزب جديد يعبر عن “الترامبية” كاتجاه فكري صاعد أثبت جدارته في أوساط قطاعات معتبرة من الأمريكيين.
حالة إنكار قومي
المؤكد أن الوسطاء المقربين حاولوا خلال الأيام الماضية إقناع ترامب بالتوقف عن المماطلة، بعد أن تحقق الهدف الأهم لمستقبله السياسي، حيث نجح – رغم كل شئ – في إقناع قطاع كبير من الأمريكيين برواية التزوير، وهى الأساس الإيديولوجي الذي سيبني عليه مسيرته لانتخابات 2024، فحتى بعد خسارة فريق ترامب القانوني لثلاثة وثلاثين دعوى قضائية للتشكيك في الانتخابات، أكدت نتائج آخر استطلاع للرأى أجرته وكالة رويترز مع معهد إبسوس للأبحاث الأسبوع الماضي ( من 13 إلى 17 نوفمبر الحالي ) أن 68 في المائة من الجمهوريين الذين تم استطلاع آرائهم قلقون من أن الانتخابات جرى «تزويرها»، وأكد أكثر من نصفهم ( 52% ) أنهم لايزالون يعتقدون أن ترامب “فاز عن جدارة” في الانتخابات، لكن تزويرا “واسع النطاق” سلبه الفوز لمصلحة الرئيس المنتخب بايدن. لم تكن آراء الجمهوريين هى الأخطر في هذا الاستطلاع، لكن الأهم أن النتائج كشفت أن ترامب لم ينجح في إقناع أنصاره فقط برواية التزوير، بل تجاوز ذلك إلى إشاعة مناخ من “تسميم السياسة” – إن جاز التعبير – في المجتمع الأمريكي كله، إذ نجح في القيام باختراق واضح لجبهة الديمقراطيين ذاتها، حيث رصد الاستطلاع أيضا أن 16% من الديمقراطيين أنفسهم قلقون من أن الانتخابات جرى «تزويرها» بالفعل، وهو ما يؤشر على أن الأزمة تضع النظام الانتخابي ذاته في محل شك، وأنها لا تقتصر على رئيس “غير سوي” يعاني من حالة إنكار فردية، بل يبدو أننا بصدد حالة إنكار جماعي وأزمة ثقة عامة على نطاق واسع لم يعرفها المجتمع الأمريكي طوال تاريخه.