الحدث

وفاة الصادق المهدي.. محطاته التاريخية وتناقضاته الأخيرة

توفي زعيم حزب الأمة القومي السوداني، الصادق المهدي، ليل الأربعاء الخميس، عن عمر ناهز 85 عاما متأثرا بإصابته بفيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” مطلع الشهر الحالي.

كانت حالة المهدي قد تدهورت في الساعات الأخيرة، إثر إصابته بالتهاب رئوي حاد من جراء مضاعفات الفيروس.
الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي (25 ديسمبر 1935) رئيس حكومة السودان فترتي (1967 – 1969 و1986 – 1989) سياسي ومفكر سوداني وإمام الأنصار ورئيس حزب الأمة. ولد بالعباسية بأم درمان. حصل على الماجستير في الاقتصاد من جامعة أوكسفورد عام 1957.

عقب وفاة والده الصديق المهدي عام 1961 تولى إمامة الأنصار وقيادة الجبهة القومية المتحدة، انتخب رئيسا لوزراء السودان بين عامي 1966 و1967 وعامي 1986 و1989.

وفي عام 2014 وجه انتقادات للسلطات السودانية وتعرض للاعتقال وكان قد سجن عدة مرات سابقا في الأعوام 1969 و1973 و1983 و1989.

ترأس المهدي “قوى نداء السودان” وهو تحالف يضم أحزابا مدنية، وحركات مسلحة، ومنظمات مجتمع مدني. وله عدة مؤلفات تذخر بها المكتبة السودانية منها “مستقبل الإسلام في السودان” و “الإسلام والنظام العالمي الجديد” و”السودان إلى أين”، و “مسألة جنوب السودان”، “جهاد من اجل الاستقلال”، “يسألونك عن المهدية”.. وغيرها.

ومثّل الصادق المهدي، على مدى عقود، حالة جدلية في السودان وخارجه، على مستوى الفكر والسياسة، فالبعض يرونه حالة وسطية تجمع عليها الاطراف، وداعية للحلول اللاعنفية والديمقراطية، فيما يتهمه آخرون بالتردد وإضاعة الفرص.
وانتخب المهدي، إلى جانب رئاسته حزب الأمة طوال أكثر من نصف قرن، بداية الألفية إماما لكيان الأنصار الدعوي، أحد أكبر الجماعات الدينية في السودان.

قضى المهدي أكثر من 7 أعوام من عمره في السجون، ومثلها في المنافي التي أرغمته عليها الأنظمة العسكرية المتعاقبة، وآخرها نظام البشير، الذي انقلب على سلطة المهدي المنتخبة عام 1989.

وخلال سنوات السجن والمنافي والملاحقات، عكف الصادق المهدي على كتابة العشرات من المؤلفات في مجالات الفكر والسياسة والتاريخ.

شارك في العمل السياسي في المرحلة الجامعية حيث كان الصراع بين اتجاهين فكريين : إسلامي وشيوعي، وانتج هذا الصراع صراعا ثانيا أيستقل السودان أم يتحد مع مصر؟. ولم يكن في الجامعة في ذلك الوقت تنظيم لأمثاله من حزب الأمة والأنصار كما هو الحال اليوم وكانوا في نطاق الجامعة يعانون يتما فكريا وسياسيا. كان معه عمر نور الدائم ومهلب عبد الرحمن علي طه، وكمال الدين عباس وهو من الطلبة القلائل من غير أبناء الأنصار الذين أيدوا حزب الأمة في وقت كانت الدعاية المصرية قد افترت على حزب الأمة افتراءات لصقت به وصدت عنه غالبية المثقفين السودانيين. لم يجد أولئك فئة طلابية ينتمون إليها ولكن بحكم التوجه الإسلامي قامت صداقات بينهم وبين بعض الطلبة الحركيين أمثال مدثر عبد الرحيم وحسن الترابي. وبينما كان في جامعة الخرطوم انشق من الإخوان المسلمين جماعة سميت الجماعة الإسلامية بقيادة بابكر كرار. وكان اتجاه هؤلاء قريبا جدا منهم لأنهم إسلاميون فكريا واستقلاليون سياسيا، ورغم التعاطف لم تقم بينهم علاقة تنظيمية بل قامت صداقة فكرية سياسية مع قادة التنظيم الجديد وهم: بابكر كرار، ميرغني النصري، عبد الله محمد أحمد، عبد الله زكريا. كان هؤلاء مؤسسون للحركة الإسلامية في الوسط الطلابي وفق في نيل شهادة جامعية بدرجة الشرف في الاقتصاد والسياسة والفلسفة.. ونال تلقائيا درجة الماجستير بعد عامين من تاريخ تخرجه. حسب النظام المعمول به في جامعة أكسفورد.

دخل المعترك السياسي من باب المعرضة حيث كان واحدا من معارضي نظام الرئيس الأسبق ابراهيم عبود وقد شارك بفاعلية في الجبهة القومية المتحدة للمعرضة بعد وفاة والده في أكتوبر 1961، واتصل بنشاط الطلبة المعارض، كما كان من أوائل المنادين بضرورة الحل السياسي لمسألة الجنوب، حيث أصدر كتابه “مسألة جنوب السودان” في إبريل 1964م، ونادى فيه بالأفكار التي كانت أساس الإجماع الوطني لاحقا من أن مشكلة الجنوب لا يمكن أن تحل عسكريا .

كانت نقطة انطلاقه حين اندلعت أحداث الـ21 من أكتوبر 1964م، حيث نجحت مساعيه في توحيد جميع الاتجاهات السياسية في السودان وفي جمعها خلف قيادة الأنصار في بيت المهدي وفي جعل بيت المهدي (أي القبة والمسجد الرابع الشهير بمسجد الخليفة) مركز قيادة التحول الجديد، رغم معارضة كبار البيت المهدوي للخطوة ورؤيتها أن الأمر يحتاج للتريث والابتعاد عن الثورة إلا أنه قاد موكب التشييع وأم المصلين في جنازة الشهيد القرشي، وكان ذلك هو الموكب الذي فجر الشرارة التي أطاحت بالنظام، كما كتب مسودة ميثاق أكتوبر 1964م الذي أجمعت عليه القوى السياسية.

الحراك الشعبي والعودة إلى السودان

بعد عام قضاه في المنفى، عاد المهدي إلى الخرطوم في 19 ديسمبر 2019، نفس اليوم الذي اندلعت فيه التظاهرات، لكنه التزم الصمت إلى أن أعلن يوم الجمعة 25 يناير 2019، موقفا واضحا وصريحا من الحراك الشعبي ملقيا بثقله السياسي، ما يعني أن التحرك الرامي إلى إنهاء ثلاثة عقود من حكم البشير بدأ يأخذ منحى آخر يستهدف توسيع الاحتجاجات وإبقاء الضغط على أشدّه على النظام.

وقال المهدي إنه يؤيد الحراك الشعبي في البلاد، مؤكدا أن نظام الرئيس عمر البشير “يجب أن يرحل” مشيرا إلى مقتل “أكثر من 50 شخصا” وهي حصيلة أعلى بكثير من الرقم الرسمي.

دعا البشير يوم الجمعة 5 ابريل 2019، إلى رفع حالة الطوارئ والاستقالة، وحل جميع المؤسسات الدستورية وتشكيل مجلس مكوّن من 25 عضوا لإدارة البلاد.

وفي 25 أبريل 2019، حذر المهدي من انقلاب مضاد في البلاد في حال لم يتوصل المجلس العسكري والمعارضة لاتفاق يتم بموجبه تسليم السلطة إلى حكومة مدنية خلال الفترة الانتقالية.

كما كان المهدي أول من دعا إلى تشكيل “مجلس سيادي” في ظل نظام برلماني بأغلبية مدنية ورئاسة عسكرية، وأوضح حينها أن مطالب الشعب السوداني، هي “حوكمة ديمقراطية وتحقيق السلام”.

وأشار إلى أن هناك نذر تصعيد عدائي بين العسكر والمدنين، إضافة إلى تصعيد داخلي بوجود جماعات للنظام المخلوع، وأخرى خارجية “دون تفاصيل”، بهدف تعطيل أهداف الثورة، وذلك يعيق التحول السلمي.

وقال إن المطلوب من القوى صاحبة المصلحة في التغيير، تأكيد وحدتها، وتقديم صيغة “حازمة وواقعية” في التعامل مع المكون العسكري.

في أغسطس 2019، أكد المهدي أن قوى الثورة ستدعم الحكومة الجديدة بقيادة حمدوك لتحقيق الأهداف التي يتوق إليها الشعب السوداني في النهضة والازدهار دون إقصاء لجهة، مع تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المفسدين والمسؤولين عن الجرائم، التي ارتكبت في حق الناس وفق القانون.

تناقضات المهدي الأخيرة

يري عدد من المتابعين للشأن السوداني أن المهدي كان يمثل خطرا على المرحلة الانتقالية بسبب تناقضاته السياسية، أثير هذا الهاجس بداية مايو الماضي 2020، عندما اتخذ الصادق المهدي خطوات في سبيل تقويض المرحلة الانتقالية من حيث زعمه البحث عن سبيل إصلاحها، ويعرف الجميع أن المهدي صاحب نفسية متقلبة صاحبنه في مراحله السياسية كافة وعرف عن الرجل مزاجٌ لا يمكن أن يتكهن أحد بردود فعله، غير أنه حين يتكشف في الواقع ويظهر للعيان، يعكس وعياً مأزوماً باستمرار.

اتضحت تناقضات المهدي في خطبة العيد 23 مايو الماضي، التي ألقاها أمام جمع محدود من الناس، بدا الصادق المهدي عنواناً صارخاً للتناقضات من ناحية، ومن الانفصال عن الواقع من ناحية ثانية.

فبينما هو يتحدث عن حماية المرحلة الانتقالية، إذا به ينادي في أكثر من مناسبة إلى انتخابات مبكرة، وسط أنباء ترشح عن محاولة للتحالف بين حزبه وبين بعض الإسلاميين كأنصار المؤتمر الشعبي، وحركة العدل والمساواة التي يقودها جبريل إبراهيم، وهي حركة ذات مرجعية إسلامية، وذلك كله استناداً إلى توهم شرعية غالبية انتخابية يزعمها لحزبه حتى الآن، بينما هي قبل 30 عاماً، يقول الصادق المهدي، “لقد جمدنا عضويتنا في تحالف الحرية والتغيير. لا زهداً في العمل الجماعي، بل لتفعيله وتعضيده وتحويل التحالف إلى جبهة قادرة على القيام بدور حاضن سياسي مساند للحكومة لا عبئاً عليها”. ويقول عن العلمانية، “العلمانية فكرة محملة بأفكار فلسفية نافية لأي قيمة لما ليس دهرية. ومن مفكريها أمثال شارلس تايلور من رحبوا بأي حركة دينية ذات مرجعية دينية ما دامت تقبل المساواة في المواطنة والتعددية”. يقول، أيضاً، في تلك الخطبة، “إن حزبه هو الحزب الوحيد الذي لم يشارك في حكومة البشير (بينما كان ابناه؛ عبد الرحمن الصادق والبشري الصادق، ضمن نظام البشير وفي مواقع أمنية وسياسية.

وتحدث المهدي في خطبته تلك عن طلب السودان للبعثة السياسية تحت الفصل السادس، لكنه يزعم أن قراراً وشيكاً لبريطانيا وأميركا سيوصي بوضع السودان تحت الفصل السابع (والسودان الآن يخضع في دارفور لأحكام الفصل السابع) ليحتج بذلك على طلب الحكومة السودانية من الأمم المتحدة بعثة سياسية تحت الفصل السادس من أجل بناء السلام والتنمية والديمقراطية. ثم أخيراً يتحايل الصادق المهدي ليبرر مخرجاً للدعوة المهدوية (دعوة جده التي حكمت السودان في نهايات القرن الـ 19).

فكيف يطالب المهدي بحماية المرحلة الانتقالية الذي تقرر بموجب اتفاق 17 أغسطس، أن تكون بموجب الإعلانين الدستوري والسياسي لمدة ثلاث سنوات (وحزبه من الموقعين على اتفاق 17 أغسطس 2019)، ثم بعد ذلك يطالب بانتخابات مبكرة، ويسعى لتكوين تحالف من بقايا الإسلاميين المتشددين ليخوض تلك الانتخابات؟

وكيف يجمد المهدي عضوية حزبه في تحالف قوى الحرية والتغيير، ثم يزعم أن سبب ذلك التجميد من أجل تفعيل التحالف؟ والحقيقة أن لسان حال حزبه يقول؛ إما أن يجمد نشاطه، أو تتم الاستجابة لمطالبه، هكذا يفهم الصادق المهدي تفعيل حزبه لتحالف قوى الحرية والتغيير.

ثم يقول الصادق المهدي، إن العلمانية تقبل بأي حركة ذات مرجعية دينية ما دامت تقبل المساواة والمواطنة؟ بمعنى آخر يصر الصادق المهدي على برنامجه المسمى “نهج الصحوة”؛ الذي كان يزايد به على حسن الترابي إبان مرحلة الديمقراطية الثالثة 1985 – 1989)، وكأنه لا يدرك أن منطق الدولة القومية الحديثة هو بخلاف منطق الدين من حيث أن الأولى سلطة إكراه، والثاني سلطة ضمير في المقام الأول، أي أن الصادق المهدي سيسوّق للسودانيين إسلاماً سياسياً جديداً، وهو الشعب الذي نجا بالكاد من حركة إسلام سياسي دمرت حياتهم تقريباً طوال 30 عاماً.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock