ثقافة

“ميلاد حنا” مهندس الهوية المصرية وقديس التعايش

كلما ارتبكت الرؤية وضلت بصيرتنا الدروب وجدنا أنفسنا نفتش فى مكتباتنا بحثا عن مصباح مضئ يحدد ملامحنا التى شوهتها الأحداث وتاهت تفاصيلها ومحدداتها لتقع أيدينا على أعمدته السبعة التى رصدت وحللت بدقة ووعى تكوين الشخصية المصرية …

بَحث فى سؤال الهوية المصرية الذى شغل النخبة منذ 200 سنة تقريبا ومع سقوط الدولة العثمانية صار هذا السؤال ملحا على الطاولة الوطنية .. يتجدد كل حين بطرق مختلفة بحثا عن إجابة وافية شافية للعقل المصرى قدم للمكتبة العربية عددا من المؤلفات

ويبقى الجهد الذى قدمه ” ميلاد حنا ” فى كتابه ” الأعمدة السبعة للشخصية المصرية ” واهتمامه الكبير بقضية “قبول الآخر ” من أحد أهم الإنجازات النظرية لمفكر مصري قبطي يسارى بحجم “حنا ” كما أن رؤاه العميقة لأزمة الإسكان فى مصر تظل ملهمة لكل من ينشغل بهذا الشأن

ذلك المفكر المعجون بالوجدان المصري والمشغول دوما بالتعايش والسلام بحث عنه فى التاريخ وغاص فى أحشائه حتى صاغ رؤيته التى توافقت إلى حد كبير من الرؤية المؤسسة للمفكر جمال حمدان .. وقد تمكن السياسيى والمفكر من تقديم ذلك التصور عن مصر وهويتها بكل براعة وبساطة حتى صار كتابه الصادر عام 1989 مرجعا مهما لكل المنشغلين بالهوية المصرية .

جمال حمدان

أعمدته السبعة

ويبدأ الكتاب الذى صدرت طبعته الأولى عام 1989 بآية من سفر أمثال تقول ” الحكمة بنت لها بيتا … شيدته على أعمدة سبع ” (سفر امثال 9:1)  وحصل على جائزة “سيمون بوليفوار الدولية والتى اعتبرت الكتاب أحد الأعمال الثقافية التى تدعم التعددية فى مصر

ويؤكد “حنا ” فى مقدمة الكتاب أن ” الغرض الرئيسي من الكتاب ليس فقط  عرض الأوجه الأساسية لانتماءات المصري التاريخية والجغرافية بقدر ما هو تحليل للتركيبة الثقافيه للمصري فى العصور الحديثة”

الأعمدة السبعة للشخصية المصرية
الأعمدة السبعة للشخصية المصرية

يستعرض الكتاب رقائق الحضارة المصرية – على حد وصف المؤلف – ويغزل بدقة ورشاقة مراحل تلك الرقائق التى كونت الشخصية المصرية لتصل بها إلى تلك التى نراها اليوم فعبر الزمان تأثر المصرى بالحضارات المختلفة التى مرت على مصر، فما من مصرى إلا ويعتز بانتمائه إلى حضارة الفراعنة، وجدوده المصريين القدماء، الذين قدموا تراثا إنسانيا رائعا، وعظيما، وفريدا من نوعه، ومن ثم يرى ميلاد حنا أن العمود الأول للشخصية المصرية هو العمود الفرعونى الذى يزهو ويفخر به أى مصري،و الركيزة الثقافية التى يقف عليها المصريون، بصرف النظر عن انتمائه الدينى أو أى من الأعمدة السبعة الأخرى

وفى الفصل الثالث من الكتاب يعرض ميلاد حنا لباقى الأحقاب والرقائق التاريخية المتراكمة لدى مصر، وتركت آثارها على الهوية أو الشخصية المصرية، فالطبقة التى تلت الحقبة الفرعونية هى الحقبة المسماه اليونانية الرومانية، ويراها حنا حقبتين قصيرتين متداخلتين فى مرحلة انتقالية مهمة، تفصل بين المرحلة الفرعونية، وصولاً إلى حقبة الأديان السماوية، أى المسيحية، والإسلام.

ويرى حنا أن تلك الحقبة، تركت بصمتها على تاريخ مصر، وصارت بالفعل أحد أعمدتها الثقافية، وربما اعتبرها البعض أضعف الأعمدة المصرية حسبما يقول حنا فى الكتاب، لكنه لا يمكن إغفالها ويجىء بعدها العمود القبطي، وهو متداخل فى بدايته مع الحقبة اليونانية الرومانية، ومتداخل فى نهاية العصر القبطى مع الحقبة الإسلامية، ويقول ميلاد حنا ” من المؤكد أن استمرار المسيحية القبطية حتى الآن يعطى الشرعية الموضوعية والشكلية للعمود القبطي، ليكون متواجدا ومستمرا ومؤثرا فى التركيبة المصرية حتى الآن “

المسرح الروماني في الإسكندرية
المسرح الروماني في الإسكندرية

ويرى “حنا ” أن تفضيل المؤرخين انتهاء العصر القبطى مع دخول العرب مصر عام 641م، إجحاف علمى وثقافى ووجداني، لأن غالبية مصر استمرت مسيحية عدة قرون بعد دخول العرب لمصر، كما أن اللغة القبطية استمرت هى اللغة الشعبية السائدة فى مصر طيلة القرنين السابع والثامن، ثم كانت مشاركة فى الحياة اليومية مع اللغة العربية طيلة القرنين التاسع والعاشر إلى دخول الفاطميين مصر عام 969 ميلادية.

أما الطبقة الرابعة من رقائق الحضارة المصرية فهى حقبة الحضارة الإسلامية، وكما ساهمت مصر فى صياغة الفكر المسيحى فى العالم، ساهمت مصر فى الحضارة والفكر والفقه الإسلامي، ليس فقط لأنها قبلت الفتح الإسلامى فى القرن الأول الهجري، لكن لأنها أنشأت مع دخول الفاطميين فى القرن العاشر أول صرح فكرى إسلامى فى عصره وحتى الآن، ومن ثم فإن مصر تتميز عن باقى الدول الإسلامية، بأن بها إسلاما واحدا يتميز بخصائص ثقافية فريدة فى الواقع اليومى المعاش، فلا هو بالسنى المصفى، ولا هو بالشيعى الزاعق، وبدأ الإسلام فى مصر سنيا فى القرون الأولى للهجرة، ثم صار شيعيا مع دخول الفاطميين فى القرن العاشر، وأنشأوا الجامع الأزهر نسبة إلى فاطمة الزهراء، وكان مركز فكر شيعى لنحو قرنين من الزمان، وعندما دخل صلاح الدين مصر، أمر بأن يتحول الجامع الأزهر لينشئ الفكر السني، وهكذا احتوى الأزهر الإسلام فى مجمله دون تحيز أو تعصب.

جدل قبول الآخر

ويمثل كتاب ” قبول الآخر ” أحد المحطات الفكرية المهمة فى مسيرة “ميلاد حنا ” حيث صدر 1998 وقد كان بدأ فى كتابة فصوله منذ صيف 1996 قبل أن يصدر المفكر “صموئيل هنتغتون ” كتابه الشهير “صراع الحضارات ” ليشرح فيه أطروحته بتفصيل أكبر عن مقالاته تحت نفس العنوان التى كتبها منذ عام 1993

سعى “حنا ” فى “قبول الآخر ” إلى تقديم رؤية تستوعب كل الإختلافات البشرية بعيدا عن روح الصراع وكان ينطلق من عالم ما بعد سقوط سور برلين وتفكك الإتحاد السوفييتى .

يمثل “قبول الآخر – فكر واقتناع وممارسة ” واحدا من أهم الأطروحات العربية التى تناولت صراع الثقافات وضرورة التعايش بين الأعراق والطوائف المختلفه مستعينا بالنموذج المصرى خاصة فى لحظة كان العنف والعمليات الإرهابية تتزايد بشكل كبير ورغم ذلك فإن “حنا ” كان يثق أن مصر لم ولن تنجرف نحو منزلق الطائفيه على الإطلاق .

“حنا ” والسياسة

كان “ميلاد حنا ” الذى ولد فى عام 1924 وحصل على الدكتوراه فى هندسة الإنشاءات من جامعة “سانت أندرو” فى أسكتلندا عام 1950، ثم عين معيدا بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، وتدرج فى عدة مناصب حتى عُين استاذا متفرغا بهندسة عين شمس فى العام 1984

هو أحد خبراء الهندسة البارزين وصاحب مدرسة فى الإنشاءات فى الإسكان تنحاز دوما للإسكان الشعبى ودور للدولة فى هذا المجال الحيوى بالإضافة إلى ذلك فقد عرف طريق السياسة والاعتقال خلال حملة سبتمبر الشهيرة التى شهدتها مصر عام 1981 فى نهايات حكم الرئيس أنور السادات وضمت مئات الساسة والمثقفين ورجال الدين من كل أطياف المجتمع.

ويقول “حنا ” فى مذكراته إنه  “فى شهر إبريل عام 1984 كنت على رأس قائمة من عشرة مرشحين لقائمة حزب التجمع للانتخابات النيابية عن منطقة شمال القاهرة والتى تشمل دوائر: شبرا، روض الفرج، الساحل، الشرابية، الزاوية الحمراء، وهى منطقة واسعة جدا يبلغ تعدادها نحو 2.5 مليون نسمة، وقد رأى الحزب – بعد أن أصبحت مناضلا (أى سوابق سجون)- أن يكون اسمى على رأس القائمة، وخضت معركة انتخابية رائعة أثرت فى حياتى “

مضيفا ” ولأن القانون قد صمم لاستبعاد حزب التجمع بالذات، فقد فرض القانون أن الحزب الذى يحصل على أقل من 8% من جملة الأصوات على مستوى مصر كلها يخرج تماما من السباق، وهكذا خرج كل مرشحى حزب التجمع، فأصبنا جميعا بحالة من الإحباط وظهر أن ذلك هو المخطط والمقصود “!

ويضيف حنا ” أوائل شهر يونيو 1984، اتصل بى الدكتور أسامة الباز وأبلغنى بأن الرئيس مبارك يود لو قبلت أن أعين فى مجلس الشعب وهو يعرف أنك قد صرحت بأنك ضد فكرة ومبدأ «تعيين الأقباط»، ولكن الرئيس يود أن يمارس مبدأ جديدا وهو تعيين بعض المتخصصين والخبراء حتى وإن كانوا من المعارضة، للاستفادة منهم فى إدارة بعض لجان مجلس الشعب، وأتمنى أن تقبل عرض الرئيس، ولما كان حزب التجمع قد قرر مقاطعة المجلس كرد على خروجه من حلبة السباق كلها، قال لى أسامة الباز إن الرئيس سوف يحل هذه الإشكالية مع الأستاذ خالد محيى الدين”

“و تم انتخابى بالتزكية رئيسا للجنة الإسكان بمجلس الشعب، وعكفت على دراسات معمقة حول أخطر قضية تمس الجماهير فى مصر وهى السكن ذو التكلفة المعقولة، وقمت بفتح جلسات استماع وحوار، وكان لكل ذلك دوى فى الشارع المصرى وربما أكتب تفاصيل ما جرى فى تلك الحقبة من شد وجذب وصراعات فى المستقبل. كانت حقبة حزينة انتهت إلى أن استقلت من لجنة الإسكان، إذ وجدت نفسى محاصرا بمجموعة من أعضاء الحزب الوطنى الكارهين لان أكون رئيسا لهم، والرافضين لمقترحاتى بوضع تشريعات تخفف من حدة أزمة الإسكان، فأغلقت ملف العمل السياسى “

عطاء وتكريم

رحل “حنا ” فى 26 نوفمبر 2012 تاركا رصيدا مهما ومسيرة متنوعة وحافلة ومواقف أثارت الجدل أحيانا وعددا من التقديرات والتكريمات المحلية والدوية منها جائزة «فخر مصر» من جمعية المراسلين والصحفيين الأجانب بمصر في ١٩٩٨

كما حصل على وسام «النجم القطبى» بدرجة كوماندوز من ملك السويد في عام ١٩٩٨، وحاز جائزة «سيمون بوليفار» من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» في عام ١٩٩٨، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية في عام ١٩٩٩ وكان الدكتور ميلاد حنا عضوا في المجلس الأعلى للثقافة المصرى، وقدم للمكتبة العربية مؤلفات منها “نعم أقباط لكن مصريون” (1980)، و”ذكريات سبتمبرية” (1987  ” “أريد مسكنا”(1988)

ويظل “ميلاد حنا ” نموذجا للمثقف الوطنى الذى يضرب بجذوره فى عمق التاريخ ويدرك مكونات الهوية الوطنية التى كانت دوما غايته وهدفه

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock