رؤى

الجزائر..ثورة الشهداء: ثلاث صور في صورة واحدة (٣)

الصورة الثالثة والأخيرة:

بعد أن فّرغّ الحضور من تناول الطعام الذي قدم لهم استأنف ” جمال عبد الناصر ” ذلك الاجتماع الخطير الذي ضم ، زميله ” زكريا محيي الدين ” عضو مجلس قيادة الثورة ، ومؤسس جهاز المخابرات العامة الذي أصدر ” ناصر ” قرارا بتكوينه مطلع هذا العام ، عام ١٩٥٤، و” علي صبري ” المسؤول الثاني في ذلك الجهاز ، ومدير مكتب زعيم الثورة المصرية ، والضابط ” فتحي الديب ” مسؤول الشؤون العربية والمشرف الأول على دعم الثورة الجزائرية ، فضلا عن الضابط ” عزت سليمان ” مُساعده في عملية الجزائر والرجل الأول في نقل شحنات السلاح من مصر إلى ساحة الجهاد في عموم الأرض الجزائرية  …

كانت الكلمة عند ” زكريا محيي الدين” والذي فّرغّ منها ، لكي تنتقل إلى زميله الضابط ” علي صبري ” والذي تحدث بوصفه مديرا لمكتب ” عبد الناصر ” ، وبدا من طريقة طرحه لما كُلف به من خطط أنه أعدها إعدادا  جيدا فقد كُلف من ” ناصر ” بالجوانب السياسية والإعلامية المُتعلقة بدعم الثورة الجزائرية ، والتحرك في إطار أشمل ، وهو العمل ضمن مجموعة ” المغرب العربي ” التي كان يرأسها الأمير ” عبد الكريم الخّطّابي ” المُجاهد المغربي الكبير وقائد ثورة الريف في بلده ” المغرب ” أو ” مراكش ” كما كان يطلق عليها أحيانا في هذا الوقت ، ويساعده المناضل المغربي الكبير ” عّلاّل الفّاسي ” ، فضلًا عن ” الحبيب بورقيبة ” مُمثلًا لتونس ، و” محمد خيضر وحسين آية أحمد ” عن الجزائر ، وقد سبقا ” أحمد بن بيلا ” في المجئ إلى مصر ، والعمل تحت هذه الصفة ، أي التحرك ضمن مجموعة ” المغرب العربي ” …

أحمد بن بيلا
أحمد بن بيلا

تّحدث ” علي صبري ” وقال : ” … لقد تحركت وفق ما كلفني به الرئيس بالعمل وفق ثلاث اتجاهات ، أولها الاجتماع مع الأخوة في لجنة المغرب العربي ، وعلى رأسهم الأمير ” عبد الكريم الخطابي ” وتوصلنا إلى ضرورة البحث عن وسائل جديدة للكفاح ضد المحتل الفرنسي ، واتفق غالبية الأخوة ، على ضرورة انتهاج أسلوب حرب العصابات بسبب الاختلال الشديد في ميزان القوى العسكري بين القوى الوطنية وجيش الاحتلال في الجزائر وتونس والمغرب … مع ملاحظة ترك مساحة كافية من حرية الحركة وفق كل إقليم …

ثانيًا : اتفقت مع عدد من الزملاء في الساحة الليبية وفي وجود الأخ ” أحمد بن بيلا ” على طرق وأساليب نقل السلاح من مصر إلى الجزائر عبر الأراضي الليبية ، وتحديدًا نقل السلاح بالسفن إلى منطقة ” الخُمس ” على الشاطئ الليبي وبالتنسيق مع العقيد الليبي ” عبد الحميد دّرّنة ” والذي قام الأخ ” أحمد بن بيلا ” بعقد صلات قوية معه ، آخذين في الاعتبار أن هناك مصلحة من قيادات الأمن البريطانية المُسيطرة على الوضع في ليبيا على إضعاف الأوضاع العسكرية الفرنسية في كل من الجزائر وتونس ، لقد نجحنا في تجنيد عدد من الأفراد العاملين مع قائد البوليس الليبي ، وهو بالمناسبة بريطاني وصاحب الكلمة النافذة في كل ليبيا ، فضلًا عن تعاون بعض العناصر القريبة من الملك ” أدريس السنوسي ” والتي أبدت استعدادًا في المساعدة في نقل السلاح إلى الجزائر وتونس ، وبموافقة ضمنية من الملك الذي أشيد في هذا الاجتماع بتعاونه مع العمل الذي نقوم به مع الأخوة في جيش التحرير الجزائري … “

عبد الحميد دّرّنة واحمد بن بيلا
عبد الحميد دّرّنة واحمد بن بيلا

عند هذا الحد تدخل ” عبد الناصر ” وقال :

 ” … لقد التقيت  كما تعرفون مع الأخ ” أحمد بن بيلا والأخ بومدين ” وقد بّقيّ الأول هنا ، في الوقت الذي توجه الثاني إلى الجزائر قبل وقت كافٍ من العمل ، لكن مراقبة سلطات الاحتلال بعد عملية مكتب بريد وهران الفدائية التي قام بها ” بن بيلا ” بات هو الرجل الأول المطلوب من فرنسا ، ولذلك اتفقت معه على البقاء في القاهرة لبعض الوقت ،  وكذلك اتفقت مع بعض الأخوة في جيش التحرير على الإشراف المباشر مع الأخ ” عزت سليمان ” في نقل السلاح إلى الجزائر ، خاصة عن طريق البر وعبر الحدود مع كل من ليبيا وتونس … “

وبعد لحظات من الصمت مّرت سريعًا ، أعطى ” ناصر ” الكلمة إلى زميله ” علي صبري ” ليستكمل خطته الأساسية والإعلامية ، قال :

” بالنسبة للعمل في الداخل ، فقد أبّلغني الأخوة في جبهة التحرير بتشكيل ” اللجنة الثورية للوحدة والعمل ” وكما تلاحظ سيادتك ، أنها من تحليل دلالات الاسم  هي أقرب إلى الصيغة الجبهوية ، وإرجاء التناقضات الثانوية بين فصائل العمل المختلفة والاتفاق على تحقيق  هدف واحد هو حشد الجهود من أجل التحرير … ومجرد الاطلاع على أسماء هذه اللجنة يتضح ما أقصده ، اللجنة تضم كل من : بن يبلا ، وحسين آية أحمد ، العربي بن مهيدي ، محمد بوضياف ، مصطفى بن بلعيد ، رابح بيطاط ، ديدوش مراد ، محمد خيضر ، كريم بلقاسم …”

هنا توقف الرئيس بملاحظة ، قائلًا :

” أولًا ، هناك توافق في الأسماء بين مسؤولي المناطق العسكرية الخمس وفق ما سبق عرضه من الأخ ” عزت سليمان ” فأعضاء  اللجنة الثورية الموحدة وهي المعنية بالعمل السياسي ، تتكامل مع اللجنة العسكرية ، وهذا في حد ذاته جيد جدًا ، فلا يجب أن يكون هناك فصل بين كوادر الحركة ، بين ما هو سياسي وماهو عسكري ، أما الملاحظة الثانية ، فهي التنوع بين مسؤولي العمل في الداخل وزملائهم في الخارج ، خارج الجزائر ، يوجد مثلا الأخ ” أحمد والأخ خيضر والأخ بوضياف على سبيل المثال هنا في القاهرة ، التكامل في العمل وتأجيل التناقض الثانوي هو مفتاح أي عمل ثوري ، تجربتنا في تنظيم الضباط الأحرار تقول بذلك ، وتجربة من سبقونا في مصر كثورة ١٩١٩ وثورة عرابي تقول بذلك ، وما حدث في الثورة الصينية ، وهي القريبة منا من حيث الوقائع  التاريخية  تقول بذلك ، فهناك أكثر من كتاب لزعيم الثورة الصينية ” ماوتسي تونج ” أرجو أن تطلعوا عليها، تتحدث عن هذا الموضوع ، ” التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي ” وقد طلبت من مكتب المعلومات أن يوفر لكل منكم نسخ من هذه الكتب ، الكتاب الأول عن ‘ الجبهة الوطنية المتحدة ” والثاني اسمه ” في التناقض ” وهو كتاب أقرب إلى الفلسفة منه إلى أساليب الحرب الثورية وحرب العصابات ، لكنه شديد الأهمية لكل من يعمل بالسياسة ، ثم إن هناك أكثر من كتاب في هذا الموضوع “

هنا تدخل الضابط ” فتحي الديب ” ليضيف ملاحظة على كلام قائد الثورة المصرية ، وهي إعداد الأخوة في جيش التحرير وتأهيلهم للعمل من خلال  دورات تدريبية تثقيفية حول حرب العصابات ، وقد وفّرّ الأخوة  في القوات المسلحة عدد وافر من النسخ من كتب حرب العصابات وتجاربها المختلفة في أكثر  من ساحة ، ومنها عمليات حرب المدن والتي جرى معظمها في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية ، وفي مدن مثل باريس وبلجراد وبودابست وغيرها ، وذلك لتشابه تلك المدن التي حاربت القوات الألمانية  النازية  مع الكثير  من المدن الجزائرية …”

بدت ملاحظة ” فتحي الديب ” بالغة الأهمية ، غير أن زميله ” عزت سليمان ” أشار إلى دور زميله في حركة الضباط الأحرار ” أحمد حمروش ” وصاحب الاهتمامات الثقافية الكبيرة ، وصاحب الصٍلات والعلاقات  القوية  بعدد من التنظيمات اليسارية ، بتوفير نسخ مُتعددة  عن تجارب حرب العصابات في أكثر  من ساحة وبأكثر من أسلوب ، ومنها كتابات لقادة عسكريين من الغرب ، سواء في أمريكا أو جنرالات حرب كبار في كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها … “

بدا الحوار على درجة عالية من العمق ، وهو الأمر الذي أدركه  ” ناصر ” من البداية ، فقد حرص على تسجيل كل كلمة فيه ، وتكليف واحد من سكرتارية المعلومات التي كانت في طور التكوين حينذاك على كتابة محضر الاجتماع ثم توفير ما هو ملائم منها للأخوة في جيش التحرير الجزائري ومكتب ” المغرب العربي ” ….

عند ذلك طلب ” علي صبري ” الحديث ، لكي يلقي الضوء على الجانب الثالث من خططه ، والمتعلقة بالعمل الإعلامي ، ولكنه سرعان ماتوقف عن الحديث في لفتة ذكية منه ، فقد حّرٍص على التأكيد عَلى أهمية العمل الجماعي بين فصائل حركة التحرير الجزائرية وضرورة العمل داخل بوتقة واحدة ، ولكنه نظر إلى الرئيس قائلًا له :

” وفق نفس الرؤية كان عملنا المشترك مع بعض الأخوة في الجهاز ، جهاز المخابرات ، والأخوة في مكتب سيادتك ، والإخوة في القوات المسلحة ، في الجيش والذين يقومون وبإشراف الأخ ” عبد الحكيم عامر ” بتوفير ماهو مطلوب من سلاح … وفي ضوء ذلك تّبقىّ  الخطة الإعلامية المُعدة لمعاونة الثورة الجزائرية وغيرها من حركات تحرر عربية وغير عربية نعتزم باذن الله دعمها … هنا أترك الحديث إلى أخي ” زكريا ” …”

بدا ” زكريا محيي الدين ” مُمتنًا لزميله ومعاونه في جهاز المخابرات العامة ، فقال ” … بصراحة للأخ ” علي ” الفضل الأول في العمل الذي تم على صعيد الإعلام ، لقد تم تنفيذ الإقتراح الذي دعوتنا سيادتك لدراسته وتجهيزه ، بإنشاء أذاعة موجهه إلى الأخوة العرب وحركات التحرير سواء في المشرق العربي أو المغرب العربي ، ولذلك اتفقنا أن يكون اسمها ” صوت العرب ” و أصدرت قرارًا ببدء العمل فيها العام الماضي ، سنة ١٩٥٣…..

وأدخل في الموضوع مباشرة ، فقد كلفت الزملاء عزت سليمان وفتحي الديب بالتنسيق مع الأخ ” أحمد سعيد ” بمده بالمعلومات المتعلقة بالثورة في الجزائر عند اندلاعها  ، بإذن الله ، وبالتشاور في كل معلومة أو تحليل سياسي مع الأخوة الجزائريين المتواجدين في القاهرة ، مثل الأخ ” بن بيلا وبوضياف ومحمد خيضر وغيرهم …. وتعرفون جميعا أن الإرسال بدأ بعدد محدود من الساعات زادت الآن ووصلت إلى أكثر من ٢٠ ساعة … “

https://www.youtube.com/watch?v=nljU-g9nhYI

وهنا أبدى ” ناصر ” ملاحظة بالغة الأهمية ، وهي ضرورة التحضير لمحطة إذاعة سرية لا يُعلن  عنها الآن تكون بديلًا لإذاعة صوت العرب ، أو حتى الإذاعة المصرية ، فسوف نخوض معارك كثيرة على أكثر من جبهة ، وسوف يكون صوت الثورة المصرية مُستهدفًا ، سواء في إذاعة ” صوت العرب ” أو الإذاعة المصرية ….”

عند كلمات ” ناصر ” عن الإعلام والثورة ، انتهى هذا  الاجتماع  الخطير ، الذي جّمعّ بين رجال الثورة المصرية وأشقائهم رجال الثورة الجزائرية ، رغم اختلاف المواقع وبُعْد  المسافة بين القاهرة ومدن الجزائر الحُبلىّ بالثورة ….. “

وبالفعل أنشئت مصر إذاعة سرية ، وبدأت العمل في نوفمبر عام ١٩٥٥ ، وظلت مُخصصة للثورة الجزائرية حتى انتصار  الثورة في سنة ١٩٦٢ ، وانتقلت إليها موجة الإذاعة المصرية خلال حرب السويس عام ١٩٥٦، بعد قصف محطة الإرسال الرئيسية في منطقة ” أبي زعبل ” …

لكن بقيت إذاعة ” صوت العرب ” في خلال ذلك الاجتماع لها شرف الإعلان التاريخي عن بدء حرب التحرير الجزائرية ، فقد أُتخذ قرارًا بترتيب إذاعة بيان الثورة من القاهرة ….

وفي صباح الفاتح من نوفمبر من العام ١٩٥٤ أُعلن بيان جبهة التحرير الجزائرية  ، مصحوبًا بتفجير ” ٢٤ قنبلة ” شملت أنحاء متفرقة من الجزائر ، لتُعلن بدء ثورة شعبية مسلحة ، تعتبر واحدة من أعظم ثورات القرن العشرين …

تحية لثورة الشهداء في عيدها  ، وتحية لقادتها الكبار ، وتحية لمصر وشعبها ، خير سند لثورات وانتفاضات الحق والعدل في كل زمان وعصر … تحية لروح ” جمال عبد الناصر ” ورجال ثورته الكبار..

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock