تنفتح الرواية على عوالم أذاب السرد فيها الزمان والمكان في حيز يلتقي فيه القارئ بشخوص لم ولن يقابلها وجها لوجه ذات يوم، بينما ونحن نقرأ تتجسد هذه الشخوص ونتفاعل معها وكأنها تحيا واقعنا على بُعد ما منا، وتدوم رحلة التأثير والتأثر طوال فترة القراءة بل وتمتمد وأحيانا تمتزج بصفاتنا وتبقى داخلنا كأحد عناصر خبراتنا الإنسانية، ولكن السؤال.. من أين يأتي هذا التفاعل مع شخصيات نعلم سلفا أنها متخيلة؟
لماذا؟
الروائية هدى توفيق
إن السرد القصصي والروائي بلا شك يعتمد على مدى طرح، ورسم أبطال الحكايات، وما تفرزه هذه الشخصيات من تجليات محورية هامة في نمو وسير المتن السردي بوجه عام سواء القصصي أو الروائي، وعندما نستخدم مصطلح علم النفس أي بمعنى تحليل الشخصيات داخل الوعاء السردي، ومدي تفعيل التوجه النفسي والتحليلي للشخصيات دون الإطار العلمي المباشر، وإن كان ضمنيا يتعلق بنهج ذلك المصطلح، وهو التحليل النفسي والعلمي لما يقوم به هؤلاء الأشخاص، ولكنه يصب بالطبع في إطار فني وإبداعي خالص؛ لنشعر بطغيان الملكة الإبداعية في مدى تفعيل استخدام التحليل السيكولوجي، أو الميثولوجي، أو الراديكالي.. إلخ سواء لشخصية أو ظاهرة أواعتقاد من خلال تفاعلات الحكي، ومظاهر سلوكيات هؤلاء الأبطال الذين استحوذوا على الحس السردي برؤية ثقافية وجغرافية وتاريخية. يتجلى فيهم ظهور الأبطال، ومظاهر هذه الأفعال، وما تبعته هذه السلوكيات من أفعال؛ أوحت لنا بغرابة أو تأطير غير معتاد الحدوث عن باقي الأبطال داخل تناول إبداعي ما. مما يطرح تأويلات نفسية أدت لاعتباره يقع تحت نير التحليل النفسي لهذا المضمار والسلوك.
وهذا ينطبق على اتجاه محدد، فليست كل القصص والحكايات تؤدي بنا إلى هذا الخطاب السردي؛ لأن ملكة التحليل النفسي لا بد أن تأتي بأشكال غير مباشرة حتى يذوب الوهج الإبداعي داخل تداعيات عقول ومشاعر وأحاسيس هؤلاء الأبطال الورقية المستوحاه من بيئة جغرافية محددة، بمصداقية فنية في البدء والأخير، ومن ثم نُطلق عليه عبارة أيقونة استخدام التحليل النفسي، وتحديد النمط النفسي الذي قدمه العمل الفني، لأن تفعيل هذا المفهوم النفسي حتى ينصهر داخل العمل الفني بكشف حضوري لا شك يحتاج إلى مهارة تتعلق بمدى التبصر والتأمل والخبرات الحياتية الثاقبة للمبدع. فالجميع لديهم خبرة بالحياة، ولكن كيف يتم مزج تلك الخبرات الحياتية بالنسيج الفني والسردي، بالرؤية داخل عوالم سردية متعددة ومختلفة وحاذقة.
هذا الفاصل الحاسم لمدى تمرير الطرق المتعددة والمتنوعة، ليصل إلى توحد العالم الحكائي داخل مفهوم اصطلاحي معني بتفسير تلك النوازع البشرية المعقدة بكل فضفضة حرة، واختيار يصدر عن هذا العقل الإنساني. ذلك المكمن المعقد بتداخلات نفسية بحتة، وعندما نذكر مصطلح علم النفس نعود فورًا لأحد رواد هذا الاتجاه كنموذج مثالي وتعبيري شامل في الحكي الروائي العالمي، وهو الكاتب الروسي الشهير (دوستويفسكي) .الذي كان رائد هذا الاتجاه بإخلاص. بل وبمثابة الأب الروحي لهذا الاتجاه النفسي التحليلي، وقد قام بتأسيس هذا المفهوم العلمي بصياغة إبداعية وملهمة كبيرة لكل من شغف بتحليل تلك النوازع النفسية، أو حتى فقط لقرائتها، والتي خلدت أعماله على مر السنوات، تلك الحكائية القائمة على التحليل النفسي باستلهام سردي، وتحليل واضح ومستكشف لباطن الأمور، وانتزاع الأقوال النفسية، وتوضيحها في إطار المجتمع والواقع الذي كان يعيش فيه أبطال الحكايات، والمرتبط بالمتعلقات المجتمعية التي دفعت هؤلاء الأشخاص لهذا الاتجاه أو ذاك كل على حسب ما يلائم الوضعية التاريخية والاجتماعية والثقافية؛ التي تتخللها تأجج ملكة التخييل، واستبطان الحس النفسي والشعوري بملكات التخييل الإبداعي الخلاق. الذي يستكشف اللحظات الحرجة والحاسمة في حياة هؤلاء الأبطال الورقية المقرونة باستدعاءات الوحي الروائي والسردي في ذوبان تحليلات نفسية كاملة. كما ظهر هذا جليا تقريبا في كل روايات وقصص هذا الكاتب الخالد بداية من رواية: (الفقراء، وقلب ضعيف، في قبوي، والجريمة والعقاب، والابله، والمقامر، وحلم رجل يضحك.. إلخ). حتى صار اتجاه وعنوان لكل ما أنتجه من الإبداع والتعبيرعن تلك الامتثالات النفسية التي أنتجها بشر معذبون أشقياء تعساء، أوحتى في أي تلك الحالات العكسية ما دامت الرؤية تأتي من نوازع نفسية مباغته.
ولقد انصهر علم النفس لحد الذوبان بشكل كبير أو كاملًا كما جسدت روايات هذا الكاتب الكبير(دوستويفسكي)،لأن كل سلوك وفعل وطرح لا بد أن يأتي من عقل يفكر، ويخطط، وبالتالي نزع لفعل آثم أو خير، أو كل ما يظهر بشتى التشكيلات؛ التي تصدر من تفكير بشري و يندفع من نزعة نفسية ما في كل مراحل عمر الإنسان التي تؤثر عليه منذ الطفولة، وتنمو وتتطور به لهذا الشكل النهائي؛ الذي كنتيجة طبيعية أودت به لتلك السلوكيات، والتصرفات بوجهها الخيرأوالطيب. فالحكم النهائي في نهاية الأمر صدر من نفوس بشرية خالصة التكوين؛ بمؤشرات التحليل النفسي الذي امتزج وتشكل في ضرورات سردية وافرة الرؤى النفسية والتعبيرية الداخلية، عن مكنون تلك النوازع البشرية بوجه عام.
الناقد والكاتب عصام حسين عبد الرحمن
بين الكثيف والمتأرجح
تعد الراوية من أكثر الأجناس الأدبية تجسيدا للأبعاد النفسية التى باتت تعصف بالذات الإنسانية في ظل تعقد وتشابك الواقع الاجتماعي والسياسي والتاريخي وما يشهده من تقلبات وتغيرات خاصة بالوعي والإدراك والحركة الديناميكية للتاريخ
من هنا تعد الراوية من أكثر الأجناس الأدبية استيعابًا لهذه الحركة وتلك التغيرات والرواية في العقد الأخير من الزمن ركزت على الشخصيات ذات الكثافة النفسية لما تنطوي عليه من مشاعر وأفكار وصراعات ومحاولة فك وتركيب وتحليل العلاقات الإنسانية من منظور نفسي كعلاقة الأنا بالآخر وما شابها من صراعات خرجت من تحت عباءتها الكثير من المشاكل السياسية والعنصرية والعقائدية كالأرهاب المرتدي لأثواب الدين والجماعات الخارجة عن منظومة المجتمع والدولة وعلى مستوى الذات الإنسانية اقتحم السرد الروائي مناطق نفسية داخلية ترصد حالات ذهانية مضطربة متأرجحة بين الشعور واللاشعور أو مناطق الوعى واللاوعى أو حتى شبه الوعى
واهتم الراوي بالزمان والمكان وفق رؤية نفسية عائدة للشخصية أو مصاحبة للراوي والمروي عنه لذا تنوعت الأساليب داخل العمل الروائي من حيث انصهار علم النفس بنية الراوية نفسها بكل عناصرها فتجد منها الأحلام وأحلام اليقظة والهزيان والذهول العقلي,والمونولوج المباشر,وغير المباشر,كما تم تشكيل عنصري الزمان والمكان بأبعاد نفسية ولعبت الأحداث الروائية من حيث طبيعتها في التحكم في رسم الشخصيات وإعطائها أبعادها (البنيوية)،والراوية الحديثة لا تركز على الشخصية ببعدها النفسى فقط وإنما على أبعاد أخرى عامة منها متصلة بسلوكياتها الخارجية بالمجتمع وأثرها على باطنها النفسي ونوازعها الداخلية أي أن الشخصية داخل العمل الروائي الحديث تتكون تكوينًا تتضمن الأفكار والدوافع والانفعالات والميول والاتجاهات والقدرات والظواهر المتشابهة وكل الموضوعات التي لها علاقة بطبيعة الشخصية أصلها وتطورها وتغيرها، لذا وفي القرن الواحد والعشرين أصبح البعد النفسي السمة الرئيسية التي ترتكز عليها معظم الكتابات الروائية بكل ما في ذلك البعد من انعطاف باطني وتركيز على المحتوى الداخلي للشخصية وما تنطوي عليه من حالات ذاتية نفسية والتعبير عن مجرى تجربتها العقلية
ونستطيع ان نقول أن البعد النفسي بكل مفرادته قد ذاب بنائيًا في العمل الراوئي للدرجة التى قلما أو ندر وجود رواية حديثة في القرن الواحد والعشرين دون أن يكون سمتها الرئيسية
الناقد والكاتب السيد نجم
هلاوس الراهب الأسود
لن يتردد القاريء ومحترف الكتابة الإبداعية أن النصوص الإبداعبة، ومنها الرواية على علاقة بالنفس بداية، منذ اللحظات الأولى لصياغتها عند الروائي حتى النهايات؛ لذا بات للنقد ما يقوله تحليلا لمداخل ونهايات الرواية، وكيف أنها للبداية والنهاية من دلالات تضاف إلى متن العمل الإبداعي، على تنوعها إلى حد التناقض أحيانا.. وذلك لا مراد له إلا الحالة النفسية للروائي أثناء العملية الإبداعية.
عند الاقتراب من حواشي الموضوع المعقد كما هي النفس البشرية معقدة.. ذلك لإرتباط “النفس” للكاتب والقاريء معا بالنص وتفسيره والتفاعل معه، باعتباره تفسيرا منطقيا يتوافق مع سلوك الفرد والمجتمع معا. التوافق هنا لا يعنى الموافقة؛ يعنى منطقيته ومبررات حدوثه، ولا يبقي سوى التدخل للتحليل والتفسير والبحث فى العلاقات الخفية أو الظاهرة، أو ما يمكن أن نطلق عليه بداية العملية النقدية.
أظن أن الدراسات النقدية خلصت إلى اعتبار الرواية التى تعنى بالدرجة الأولى لابراز تلك الملامح النفسية بالدرجة الأولى؛ هي رواية نفسية. لعل من أشهر كتابها: مارسيل بروست ، وجيمس جويس، وفرانز كافكا، ديستوفيسكى، ستندال، باولو كويلو.. وغيرهم.
إذن تبدو الرواية النفسية وكأنها أكثر خصوصية وذاتية للشخصية الروائيةـ ويوافق النقد على هذا القدر من الوعي الظاهر القادر على تعديل الأحداث والشخصيات، والتي تتسم بزمنها الخاص. وتشير الكتابات البحثية فى علاقة علم النفس بالأدب والرواية، أن ملامحه توجد ببعض الكتابات التراثية ومنها النصوص الإغريقية.. ثم حديثا كان الرومانتيكيين.. بينما راجت الدعوة إلى التناول النفسي فى الكتابة الإبداعية والدراسات بعد شيوع نظرية عالم النفس الأول سيجموند فرويد.
الآن يمكن بقدر من الحذر التأكيد أن ما قدمته نظرية التحليل النفسى لفرويد والتجريبى منها لمن بعده، وقفت مع الإبداع الروائي وقدمت قراءة هامة لها، فبرزت واشتهرت الكثير من الشخصيات الروائية.
لقد نظر أصحاب المنهج النفسي إلى الدوافع اللاواعية نظرة أكثر تقديرا لأنها تكشف عن التعبير الرمزي وتتخذ شكلا غامضا حتى على المبدع نفسه. ومن هنا ركزت بعض مدارس التحليل النفسي وبخاصة مدرسة فرويد على الدوافع الجنسية والكبتية والعصابية وكلها حسب رأيهم دوافع لا واعية تؤثر في الإبداع وتشكله.
لعلنا فى العالم العربي لم نعط لهذا النمط من الإبداع الروائي ما تستحقه من اهتمام.. مع قلة المنجز الروائى النفسي.. ولن يغفل القاريء أشهر تلك الروايات النفسية ، رواية “السراب” ل نجيب محفوظ.. حيث الصغير كامل رؤبة يعاني نفسية، هي عقدة أوديب.. وهو ما تجلى فى مظاهر معاملة الأب بالعنف مع أمه، فكرهه الولد، وزاد من كرهه له بعد أن تم الطلاق بين والديه. زرعت تلك النزعة الشعور بالعدوانية تجاه الأب.. وهي بذرة عقدة أوديب.. وهكذا نمت الرواية وانكشف البعد النفسى.
أما إن كان هذا النمط من الروايات أصبح طاغيا أو الأكثر شيوعا أو عبر عن مجمل معطيات ونظريات علم النفس.. حتما لم يتحقق هذا الذوبان خصوصا أن الأدب قادر على بث الأفكار بل وبدايات النظريات النفسية مستقبلا ، كما أنجز بعضها فيما مضى ولعل نماذج الدراما الإغريقية مثالا ناصعا (كعب أخيل- عقدة أوديب..).. لعلنا مع ما تردد حول قصة تشيخوف ” الراهب الأسود” .. ذلك الراهب الذي يعيش الهلاوس أو الخوف المرضي وهو ما كان بداية البحث فى علم النفس ونشأة نظرية نفسية جديدة.