سبع سنوات مرت على رحيل “الفاجومي” أحمد فؤاد نجم ذلك الشاعر الذى يمثل حالة استثنائية فى وجدان الحركة الوطنية العربية وبالقدر نفسه الذى يمثل نقطة هامة فى تاريخ شعر العامية المصري.
عبر مشوار ممتد لأكثر من نصف قرن ظل خلالها “نجم ” شاعر الناس وخصما لكل الأنظمة وظل مع رفيقه “الشيخ إمام عيسى “ضيفان شبه دائمين على سجون كل الأنظمة السياسية، وتنوعت أسباب الاعتقال “الرسمية”، لكن السبب الحقيقي وراء ذلك كان واحدا في كل الأحوال – إنها الأغنية – القصيدة – التي أزعجت كل من جلس على كرسي الحكم وأرقت مضاجعه.
قبل نكسة يونيو 1967 لم يكن لنجم أي صلة بالسياسة أو بشئونها، ولم يكتب حرفا في همومها، ولم يغن نجم أغنية ثورية.
لكن 5 يونيو كانت قادرة على صناعة حالة فارقة؛ سواء من الانكسار الذي سببته الهزيمة، أو التمرد الذي كان دافعه أيضا ذات الهزيمة الموجعة لأقصى حد، وبعد ذلك تعددت زيارات كليهما للسجون المصرية بتهمٍ مختلفة .
والمتابع للمجموعات الشعرية التى صدرت للفاجومي لن يبذل جهدا لكي يكتشف أن معظمها ذيلت قصائدها بعبارة “كتبت فى سجن…”
فقد عرف معظم شعراء جيل التسنينيات الطريق إلى السجون فى ظل أنظمة متعاقبة وبدرجات مختلفة ولمدد متباينة منهم فؤاد حداد وسيد حجاب وزين العابدين فؤاد وسمير عبد الباقى وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم .. لكن المؤكد أن “نجم ” كان أكثرهم تعرضا للاعتقال والمطاردة حتى سنوات متقدمة من عمره
بدأت تجربة “نجم ” من السجن السياسي عقب هزيمة يونيو 1967 التي تمثل نقطة تحول فى حياة الشاعر الصعلوك الذي عرف السجن فى قضية جنائية فى سنوات الشباب
يقول الكاتب الراحل “صلاح عيسى” في كتاب “شخصيات لها العجب” ص 383 “(بعد اعتقاله بعام انتهز الزعيم الفلسطيني نايف حواتمة – رئيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين – فرصة لقاء جمع بينه وبين الرئيس جمال عبدالناصر؛ فقال إن لديه طلبا يتمنى أن يكرمه الرئيس فيحققه له، وابتسم عبدالناصر قائلا: أؤمر يا نايف، فتشجع نايف حواتمة وقال إنه علم أن هناك ثلاثة من الكتاب والأدباء معتقلين بالسجون المصرية؛ هم الشاعر “أحمد فؤاد نجم” و”إمام عيسى” وكاتب هذه السطور، وأنه يتمنى أن يستجيب الرئيس لوساطته فيفرج عنهم، فتجهم وجه الرئيس عبد الناصر، وقال بجفاء لم يفلح في إخفائه: ماتتعبش نفسك، الثلاثة دول مش هيطلعوا طول ما أنا عايش! )
انتهت رواية الراحل صلاح عيسى التي تحمل دلالة قوية عن غضب الرئيس عبدالناصر من “إمام – نجم “
في عام 1974 اقتحمت قوات الأمن غرفةً فيها الثلاثة، الشاعر “أحمد فؤاد نجم”، والفنان الشيخ “إمام عيسى”، و”محمد على” في حارة “حوش قدم” بالغورية، كانت القوة الأمنية بقيادة الرائد “ثروت القداح” أبرز ضباط قسم مكافحة الشيوعية بفرع القاهرة بمباحث أمن الدولة، وقال صلاح عيسى في كتاب “شاعر تكدير الأمن العام”: “كان الموجودون في تلك الغرفة الضيقة 18 شخصا، وبتفتيشهم لم يعثر مع أحد منهم على ممنوعات، كما عثر أسفل الكنبة التي كان بعضهم يجلس عليها على قطعة من الحشيش أنكروا جميعا علاقتهم بها،
وزعم الرائد ثروت القداح، أنه ما كاد يجدها حتى قال “نجم وإمام”: “إيه يعنى قضية مخدرات؟، فيها إيه يعنى؟.بننسجم”، كما أسفر تفتيش الغرفة المجاورة التي يقيم فيها “إمام” و”محمد علي” عن العثور على أوراق خطية، تضم قصائد لنجم ولآخرين، و12 شريط تسجيل، وأجندة لتسجيل المواعيد، يؤكد عيسى أن 15 متهما بينهم “نجم وإمام ومحمد علي” تم اقتيادهم إلى سجن القلعة، واتسع نطاق القضية ليبلغ عدد المقبوض عليهم على ذمتها 32 شخصا
شرفت يا نيكسون بابا
يؤكد صلاح عيسى أن قصيدة “شرفت يا نيكسون بابا” كانت وراء القبض عليهم، وكتبها نجم بمناسبة أول زيارة لرئيس أمريكي “نيكسون” إلى مصر يوم 12 يونيو 1974، ويضيف عيسى: “كتب نجم قصيدتين بهذه المناسبة، الأولى “حسبة برما بمناسبة زيارة ابن الهرمة”، ليفضح زيف الأرقام التي أذيعت حول عدد مستقبلي نيكسون من المصريين، والثانية “شرفت يا نيكسون بابا”، ولحنها الشيخ “إمام”، واستفزت هذه القصيدة السلطات المصرية ربما بسبب المقطع الثاني منها، الذي يخاطب فيه “نجم” الرئيس الأمريكي نيكسون، قائلا: “جواسيسك يوم تشريفك/عملوا لك دقة وزار/تتقصع فيه المومس/والقارح والمندار /والشيخ شمهورش راكب/ع الكوديا وهات يا مواكب/وبواقي الزفة عناكب/ساحبين من تحت الحيط /وأهو مولد ساير داير/شي الله يا أصحاب البيت”.
نشرت أكثر من صحيفة عربية هذه القصيدة و يبدو أنها استفزت السلطات في مصر، فبحثت وسيلة قانونية لمعاقبته، وساقت الصدفة لمباحث أمن الدولة واقعةً بدت لها مناسبة، حيث وصلها خبر من مرشدٍ لها؛ بأن “سيف الغزالي” – العضو السابق في حزب الوفد القديم – دعا “نجم” و”الشيخ إمام” لإحياء سهرة في منزله، وطبقا لتقرير كتبه النقيب “مصطفى موسى” في اليوم التالي للسهرة “6 يوليو 1974”: “حضرها عشرة أفراد بدأوا يتوافدون منذ الثامنة والنصف، وبدأت السهرة في التاسعة، وانتهت بعد منتصف الليل بنصف ساعة، من بين الأفراد العشرة: ثلاثة طلبة، وأربعة موظفين، فضلاً عن “نجم” و”إمام” و”محمد علي” الذي يقوم بثلاثة أدوار: فهو مرافق للشيخ إمام، وعازف الإيقاع، وأحد اثنين يقومان بدور الكورس في الأغاني التي تتطلب ذلك مع نجم”.
https://www.youtube.com/watch?v=IBylii5H8r4
في 10 يوليو وطبقا لعيسى، أضاف الضابط “مصطفى موسى” إلى تقريره أن “الغزالي” دأب في الفترة الأخيرة على عقد لقاءات سياسية ينتقد فيها الأوضاع السياسية، ويدعو إلى التعددية الحزبية، ويعمل على تكوين تنظيم يكون نواة لحزب سياسي وأن “نجم” و”إمام” يعاونانه على تحقيق هدفه، وأنه يتردد على سبعة منازل من بينها منزل “حوش قدم” الذي يقطنه الثلاثي “نجم” و”إمام” و”محمد علي”، أصدر رئيس نيابة أمن الدولة العليا إذنا بضبط وتفتيش قائمة تضم 16 شخصًا بينهم الذين حضروا سهرة “5 يوليو” في منزل “سيف الغزالي”، وكذلك مداهمة باقي المنازل التي يتردد عليها “الغزالي”، وكان مقررا تنفيذ أمر الضبط يوم 26 أغسطس 1974؛ لكنه تأجل بسبب أنه اليوم الأول لعرض فيلم “العصفور” إخراج يوسف شاهين، الذي قدم “نجم” و”إمام” فيه أغنية “مصر يامه يا بهية “
وقد اصطحب الفنان “علي الشريف” الفنانة اللبنانية “جلاديس أبوجودة” – وكلاهما اشترك في فيلم “العصفور” – إلى “حوش قدم”، وانضم إليهما المخرج “علي بدرخان” – مساعد “شاهين” في فيلم “العصفور” – وذهب للتباحث مع نجم حول مشروع لكتابة أغنيات أطفال تغنيها زوجته الفنانة “سعاد حسني”، وفى الثانية عشرة والنصف صباحا ألقى القبض على الجميع
وقال الشيخ إمام فى التحقيقات : “أنا أؤيد حرب أكتوبر، وأعتقد أنها بشرة خير، وعملنا في حرب أكتوبر غنوتين “دولا مين” و”عطشان يا صبايا” أحمد نجم ألفهما، وأنا لحنتهما، وهما تمجيد لحرب أكتوبر وبطولاتها، ولما حضر “المستر نيكسون” إلى مصر، أنا عملت له زفة تمرمغ به الأرض، فقد ألف أحمد فؤاد نجم قصيدتين هما “شرفت يا نيكسون بابا” والثانية “نويت أصلي”، تتضمنان هجوما على نيكسون، ولحنتهما وغنيتهما “
سأل المحقق الشيخ إمام عن صلته بالأشخاص المقبوض عليهم، وكان فيلم “العصفور” ليوسف شاهين معروضا في دور السينما منذ 26 أغسطس 1974، أي قبل عملية القبض بنحو أسبوع، وكان ضمن المقبوض عليهم من أسرة الفيلم، الممثل “علي الشريف”، و”علي بدرخان” مساعد مخرج، والفنانة اللبنانية “جلاديس أبوجودة” التي ظهرت في الفيلم باسم “حبيبة”، وأكد “صلاح عيسى” أن الشيخ إمام قال عن صلته بهذه الأسماء: “أعرف منهم “علي بدرخان” على أساس أنه مشترك في إخراج فيلم “العصفور” الذي لحنت فيه أغنية “بهية”، وهى مصر، وللعلم لم ينشر إسمي كملحن لها بالفيلم، ولا “أحمد فؤاد نجم” كمؤلف لها، وأعتقد أن الأستاذ “على بدرخان” أحبني بعدما سمع لي هذه الأغنية، وأعرف “علي الشريف”، وأساس هذه المعرفة أنه الذي يغنى أغنية بهية في الفيلم، ولم يحصل بيني وبينه أي نقاش سياسي، لأن صلتي به حديثة.
تلك بعض الوقائع التي رواها الكاتب “صلاح عيسى” من وقائع التحقيقات في القبض على “نجم – إمام “، ربما تكفي كمثالٍ على دوافع القبض ونوعية التهم التي كانت تلاحقهما خلال مسيرتهما الفنية والنضالية الممتدة، هذه “المسيرة العسيرة”
صباح الخير على الجامعة
ونتيجة معارضته الحادة لاتفاقية السلام مع إسرائيل، أصدر الرئيس “السادات” توجيهات بعدم السماح للثنائي بدخول أي جامعة مصرية؛ حتى لا يتسبب وجودهما في تحريض الطلاب ضده، وفى تلك الأثناء تلقيا دعوة من “أسرة التقدم” بكلية الهندسة جامعة عين شمس المصرية، وبالفعل قبلا الدعوة، وتم الحفل وشاركتهما بالغناء الفنانة “عزة بلبع”، وقد غنوا وسط مئات الطلاب الذين رددوا معهم أغنياتهم الشهيرة؛ فكان رد فعل “السادات” عنيفا؛ حيث قرر إحالتهما إلى محكمة عسكرية لتكون هذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر التي يحاكم فيها مغنٍ أمام محكمة عسكرية بسبب أغنياته، ويتطوع عشرات المحامين للدفاع عنهما، وعلى رأسهم المحامي الشهير “أحمد نبيل الهلالي” الذي يقول خلال مرافعته جملته الشهيرة “إن النظام الذي يخشى قلب نظامه بصوتٍ وعودٍ عليه أن يحمل عصاه ويرحل”، وكان المدهش أن توجه للشيخ “إمام” تهمة الاعتداء بالضرب على ضابط الحرس الجامعي، مما دفع المحكمة لاستدعاء الضابط؛ لتكون المفاجأة وهي نفي الضابط تلك الواقعة تماما، وتقرر المحكمة براءة الشيخ “إمام”، وتكتفي بعقوبة “أحمد فؤاد نجم” بالسجن لمدة عام .
https://www.youtube.com/watch?v=afqG8Z8l5UM
قضى “نجم ” أكثر من ربع قرن من عمره بين السجن والمطاردة ولعل فترات عمره التى قضاها وراء القضبان كانت الأغزر فى إنتاج أروع أشعاره.