مقدمة:
جملة أو مقولة أو مصطلح لا حكم إلا لله أو أن الحاكمية لله جملة براقة وفي نفس الوقت خادعة لا يستطيع أحد أن يعارضها أو يقومها أو يناقضها، بل الجميع يقع تحت سحرها الذي يأخذ بالألباب و يستولي على مجامع القلوب، خاصة في ظل وجود خلاف سياسي أو تيار متطرف أو اتجاه عنيف يريد أن يفرض أفكاره بالقوة. فلا يستطيع أحد أن يناقش مثل هذا القول أو يفند ما ورائه من مغالطات . ولقد صدق الإمام علي بن أبي طالب أن هذا القول الحق لا يراد به إلا باطل، ولا يستعمل إلا كشعار سياسي يعرض عن الحق و يشيح عن المنطق و يجنح إلى التلاعب بالألفاظ و يرمي إلى التماحك بالكلمات، وهذا بعينه هو أسلوب الطغاة و المستبدين منذ فجر التاريخ وحتى أيامنا هذه. إن الحكم لله أبدا، الحاكمية لله دوما و باستمرار، ولكن ليس بالفهم الأعوج و المنطق الأعرج الذي يدعيه الخوارج منذ ظهور تلك اللفظة في الصراع بين علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان، وعندما مالت كفة الترجيح نحو علي و جيشه، ورفع أنصار معاوية المصاحف على أسنة الرماح، طالبين بذلك تحكيم كتاب الله فيما شجر بينهم من خلاف. ولقد قبل علي بن أبي طالب التحكيم على مضض نزولا على رغبة بعض أنصاره، ولقد عارضه في ذلك جماعة خرجت عليه و على جماعة المسلمين و هي التي تعرف باسم الخوارج. ولقد كانت تلك الجماعة يقولون في وجه علي كلما دخل المسجد (لا حكم إلا لله) يقصدون بذلك لجوءه إلى التحكيم الذي من وجهة نظرهم ضد إرادة الله. ومن هنا قال علي أن هذه المقولة قولة حق يراد بها باطل. لأن هذا الأسلوب و ذلك المنطق يسقط التكليف الإلهي، ويلغي الإرادة البشرية، ويجعل عقاب البغاة والظالمين عبثا لا طائل من وراءه، كما يجعل من حساب الآخرة لغوا. وفي هذا السياق أن بحسب كل مجرم أن يعتصم بمقولة لا حكم إلا لله فيدعي أنه لم يقتل وإنما قتل الله. أن هذا الفهم السقيم جزء من فهم أكثر اعتلالا، وهو ما يسمى في الفكر الديني بقضية الجبر والاختيار أو القضاء والقدر. كما أن سوء الفهم في تأويل تلك المقولة كان من أجل أهداف سياسية أراد بها الحكام على مر التاريخ انتزاع السلطان، وتبريره بوسائل دينية أي صبغه بصبغة دينية من أجل إضفاء الشرعية عليه. ومحاولة تحقيق منجزات سياسية فقط لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد. ومن هنا نريد الإشارة إلى أن الحاكمية ليست مفهوما أصوليا وإنما أحدثه الخوارج اعتراضا على واقعة التحكيم ثم أعاد إحيائه في العصر الحديث أبو الأعلى المودودي في كتابه(الحكومة الإسلامية) و لقد روج لهذا المفهوم عربيا سيد قطب في مؤلفاته المتأخرة مثل معالم في الطريق، وتفسيره في ظلال القرآن. و استغلته فيما بعد كل جماعات العنف و التطرف من أجل تحقيق مكاسب سياسية يتم تبريرها من فهم خاطئ للدين.
أولا معنى حكم الله: أن كل عاقل يعي تماما بما لا يدع مجالا للشك أو التردد أن وراء إرادته إرادة أعلى هي إرادة الله عز وجل، وأن فوق قوته قوة أسمى و هي قوة الله سبحانه و تعالى، كما يعي الإنسان العاقل أن إرادة الله لا تلغي إرادته الشخصية، وأن فعل الله لا يجب فعله، وأن عناية الله لا تحول دون حريته، وأن هذه الإرادة وهذا الفعل الإنساني هو مناط التكليف ومناط المسؤولية. فالإنسان مسئول عن فعله ومحاسب على اختياراته. فالحكم لله أوحاكمية الله تكون بالقضاء و المشيئة، ولكن في الواقع الحكم للناس. ومن هنا فقد رفع شعار(إن الحكم إلا لله) في مجال الخصومات السياسية والصراعات على الحكم، من أجل تحقيق مآرب سياسية مصبوغة بصبغة دينية. وهذا هو نهج الطغاة والمستبدين في كل العصور والأزمان. فهو شعار سياسي و حزبي متعصب وأسلوب مراوغ وطريقة في الوصول إلى الحكم.
ثانيا: تاريخ فكرة حاكمية الله : إن مقولة إن الحكم إلا لله وأن الحاكمية لله وحده بالصورة السياسية التي ترفع بها، وبالمنطق الأعوج الذي تقال به، وبالفهم الأعرج الذي تشاع على أساسه، هي مقولة غير إسلامية، لا يعرفها القرآن الكريم ولا السنة النبوية . بل هي فكرة في جذورها نشأت في مصر القديمة، ثم انتشرت في العصور الوسطى. ففي مصر القديمة كان الفرعون(الحاكم) في اعتقادهم ظل الله على الأرض يحكم بأمر الله، وكانت المحاكم عندما تصدر حكما بالإعدام ترفعه إلى الفرعون الذي كان وحده و بصفته الإلهية أو اللاهوتية صاحب الحق في سلب الحياة من أي فرد من رعاياه. ومن هنا عندما كان الفرعون يصدق على الحكم، كان هذا الحكم بالمعنى الحرفي يعتبر حكم الله و يعد تنفيذه تنفيذا لحكم الله. ولأنه كانت للفرعون في الاعتقاد المصري القديم صبغة دينية، من هنا كانت أحكامه القضائية و السياسية على حد سواء تعد أحكام الله بالمعنى الحرفي.وكانت الشرعية الدينية والقانونية أن تكون الحاكمية لله وحده دون سواه باعتبارها حاكمية لله. ولقد تلقف أنصار الإسلام السياسي تلك الفكرة و رفعوا هذا الشعار من أجل مكاسب سياسية، ويعتبرون مقولة الحاكمية لله من أعظم مفاخر الإسلام ومآثره وهو قول حق، لكنهم ينحرفون في التفسير عن جادة الصواب و يخلطون ما هو سياسي بما هو ديني. ومن هنا ينحدرون بالأسلوب ليطلبوا من أتباعهم و أشياعهم أن يسلموا أمرهم لهم وحدهم، وان يتبعوهم وحدهم، وأن يأتمروا بأمرهم هم وحدهم، وأن يتخذوا مرشدهم أو أمرائهم مرشدا لهم دون غيرهم. وهنا ينحرف الفهم و يجعلوا من الناس عبيدا لغير الله .
ثانيا: الحاكمية و أثرها في الفكر السياسي الإسلامي: لعلنا نشير هنا إلى أن مقولة الحاكمية لله كان لها تأثير عميق في الفكر السياسي الإسلامي و خاصة في العصر الأموي و العباسي. فقد تلقفها هولاء من الخوارج ورددوها و عملوا على نشرها و الترويج لها لتصبح جزءا من العقل الإسلامي فتخدمهم في أغراضهم و توطد سلطانهم وتبرر مظالمهم و تحقق لهم استعباد الناس من دون الله. فلقد قال معاوية بن أبي سفيان الأرض لله و أنا خليفة الله فما أخذت فلي و ما تركته للناس فبفضل مني. وهنا نرى مغالطة في القول جاءت من اعتبار نفسه خليفة الله، لا خليفة لخليفة خليفة خليفة رسول الله، كما هو الأصل الشائع في استعمال لفظ خليفة.كما أننا نلفت الانتباه إلى أن تعبير أنا خليفة الله، هو صياغة إسلامية للنظريات الغريبة عن الإسلام معنى وروحا، والتي تتضمن أن الحاكم ظل الله في الأرض، وأن لديه حقا مقدسا في الحكم أو أن العناية الإلهية رتبت ولايته. أيضا استخدمها الخلفاء العباسيون من أجل تحقيق منجزات سياسية وتبرير ظلمهم للناس، و إضفاء صبغة دينية تبرر كل الجرائم التي ارتكبوها في حق شعوبهم. قال أبو جعفر المنصور أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة وعنكم زادة نحكمكم بحق الله الذي أولانا وسلطانه الذي أعطانا وأنا خليفة الله في أرضه حارسا على ماله. ولعلنا نشير هنا بناء على هذا القول المغلوط و الفهم العليل، إلا أن المغتصبين للحكم من جانب و المتطلعين له من جانب آخر، فيما يزعمون أو يدعون من أنهم يعملون في سبيل حكم الله أو لتحقيق حاكمية الله أو بترتيب من العناية الإلهية، إنما يفترون على الكذب و يخرجون عن الإسلام باسم الإسلام، فما يحكم إلا الناس و ما يعارض الحاكم إلا الناس، وهؤلاء وأولئك إنما يتمسحون بالشعارات ليوهموا الآخرين أنهم يحكمون بما أنزل الله. وهم في الحقيقة يظلمون و يستبدون و يقتلون تمسكا بالسلطان لا عملا بحكم الله. يريدون مأرب سياسية و طمعا في الحكم و سعيا إلى المناصب السياسية.
خلاصة القول: إن الجانب الأكثر خطورة في الحاكمية هو استغلالها السياسي لتكريس الاستبداد باسم تطبيق شرع الله، وذلك بإعطاء صفة المقدس على الحاكم البشري بخلاف المعنى المزعوم الحاكمية، ففي سؤال من يمثل حاكمية الله في الأرض، مشرعا على احتمالات عديدة راجعة في النهاية إلى فهم بشري يدعي احتكار الحقيقة الكاملة حتى بين الحركات التكفيرية ذاتها وهذا ما يمكن أن نلاحظه اليوم مثلا في تكفير كل من داعش و النصرة لبعضهم البعض باسم الحاكمية.