ثقافة

وداعاً رفعت سلام.. المسافر إلى النهار

“يطرق البحر نافذتى
فى الصباح المفاجئ
لم أكن بعد قتيلا
كنت أشرب ما تبقى
أرصد الأشياء،
أعطيها ملامحها الأخيرة
حين دق البحر نافذتى
وغادرنى قتيلا”.

عندما قررت الهيئة العامة للكتاب إصدار سلسلة مبسطة حول بعض القضايا والمعارف وحملت عنوان “ما” وقع الإختيار عليه كى يكتب “ما الشعر”. إنه رفعت سلام الذى رحل بعد صراع طويل مع مرض السرطان هادئا وديعا، رحل فى سلام كما عاش حياة لا تعرف سوى العطاء والتصالح مع الذات .

خاض كل معاركه مع القصيدة ومن أجلها، لم يحد يوما عن هدفه وحلمه فى صناعة نص مغاير ومختلف، وكتابة رؤية جديدة وترجمة أبداع لا نعرفه.

رحل الشاعر والمترجم “رفعت سلام ” عن 69 عاما قضى معظمها فى وسط كتبه وبين أوراقه فى انتظار بيتا جديدا لحلما جديدا.

وبعد أن قدم للمكتبة العربية تسع مجموعات شعرية وعددا كبير من الدراسات النقدية إضافة إلى إسهامه المميز فى مجال الترجمة.

ولد “رفعت سلام فى 16 نوفمبر 1951 بمدينة منيا القمح في محافظة الشرقية وفي عام 1955 عاد مع أسرته إلى مدينته الأصلية منية شبين في محافظة القليوبية عام 195٥.

التحق بجامعة القاهرة عام 1969 كانت الجامعة المصرية حين ذاك تموج بالحراك الفكرى والسياسي وبالطبع الأدبى.

وتعرف خلال دراسته على رفاق المسيرة الشعرية ومن بينهم الشاعر الراحل “حلمي سالم ” الذى ولد فى نفس العام مع رفعت سلام 1951 والتحق بالجامعة ودرس معه نفس التخصص وهو الصحافة فى كلية الآداب بجامعة القاهرة.

كانت الجامعه فضاء يتسع لأحلام بلا حدود، وكان هذا الجيل الذى شارك فى مظاهرات الطلبة سنوات ما قبل العبور للمطالبة بالحسم يغنى غنوته الخالدة بمفرداتها الخاصة، يهيمون بحثا عن صوتهم المميز والخاص جدا وكانت القصيدة الجديدة التى بشر بها “صلاح عبد الصبور” و”عبد المعطى حجازى ” تملأ الأفق وتكسب أرضا جديدة فى دروب الشعر كل يوم وكانت الحرب تحمل أوزارها والقصيدة تصنع صوتها يوما بعد يوم .

صلاح عبد الصبور وعبد المعطى حجازى
صلاح عبد الصبور وعبد المعطى حجازى

إضاءة وكتابات:

تخرج “سلام ” من الجامعة عام 1973 قبيل العبور العظيم وعمل بالصحافة ومن جديد يلتقى برفاق المسيرة الشعرية “حلمي سالم – حسن طلب – جمال القصاص – أمجد ريان – محمود نسيم ” إنهم شركاء واحدة من أهم التجارب الشعرية فى النصف الأخير من القرن العشرين، هى جماعة “إضاءة 77 ” التى أصدرت في يوليو من نفس العام أول أعداد مجلة تحمل نفس الاسم، ولم تكن مجرد جماعة أو مجلة أدبية بل كانت تأسيسا لرؤية جديدة للقصيدة العربية المعاصرة، تلك الرؤية صاغت إطارا نظريا متكاملا ووضعت تصورا نقديا لحركتها الشعرية وساهمت بقدر كبير جدا فى تطور الشعر العربي المعاصر رغم الإنقادات التى وجهت إليها.

لم تدم علاقة “رفعت سلام” بجماعة إضاءة، وفى 1979 أسس مجلة “كتابات” الأدبية، التي نُشرت على صفحاتها للمرة الأولى مصطلح “جيل السبعينات” وصدر منها ثمانية أعداد، وتعثرت بسبب معوقات النشر والطباعة التى لم تكن متاحة فى ذلك الحين، وربما كان هذا هو السبب الذى توقفت بسببه مجلة “إضاءة ” حيث كانت تتم الطباعة المتواضعة للمجلات الأدبية الخاصة بطريقة “الماستر” ويتحمل صناعها تكلفتها من قروشهم القليلة.

ولأن النشر كان من المصاعب الكبرى نجد أن معظم أبناء هذا الجيل لم تصدر لهم مجموعات شعرية سوى فى منتصف الثمانينيات رغم تحققهم الكبير عبرنشرهم قصائد متفرقة فى درويات ومجلات أدبية، وهذا ما حدث مع رفعت سلام الذى نشر أولى مجموعاته عام 1987 “وردة الفوضى الجميلة” ثم صدر له فى عام 1992 ديوان “اشراقات” وفى عام 1993 ” إنها تُومئ لي ” ثم ديوان ” هكذا قُلتُ للهاوية ” عام 1995 وديوان “إلى النهار الماضى “عام 1998 ” وكأنها نهاية الأرض ” 1999 و”حجر يطفو على الماء “عام 2008 ثم “أرعى الشياه عى المياه ” كما صدر له “على خاصرة الأرض ” مختارات شعرية، الهيئة العامة لقصور الثقافة و”كرغوةٍ علَى جسدِي، مختارات شعرية، دار عائدون، عمَّان.

ويذكر أن كل مجموعات رفعت سلام الشعرية – بإستثناء ديوانه الأول – كانت عبارة عن حالة متصلة على غير المعتاد فى المجموعات الشعرية أنها تجمع عدد من القصائد فى كتاب واحد.

ديوان رفعت سلام
ديوان رفعت سلام

سلام مترجما:

يمثل الإسهام الكبير الذى قدمه “رفعت سلام ” فى الترجمة نقطة مضيئة في مسيرته فقد فتح آفاقا جديدة للقارئ العربي، من خلال ترجمة أعمال هامة من لغات مختلفه مثل الإنجليزية والفرنسية فقد أضاف “سلام ” للمكتبة العربية ثروة هائلة بتلك الترجمات وحول علاقته بالترجمة قال سلام:
“نعم لم أكن أقصد وأنا أترجم أشعار بوشكين، في السبعينيات- أن أنشرها في كتاب؛ بل كنت أترجمها لنفسي، لأتعمق أكثر في تجربة مؤسس الحداثة الشعرية الروسية؛ وخاصةً أن المكتبة العربية كانت خاوية من أية ترجمة لشعره. وبعدها، انزلقت خطوةً خطوةً، دون أن أدري، إلى الترجمة؛ فقررت بيني وبين نفسي أن أقتصر على ترجمة الشعر، على وجه الحصر، وهو ما حدث، عدا حالة استثنائية واحدة كتاب “الإبداع القصصي عند يوسف إدريس “

وقد ترجم “سلام ” الغجر وقصائد أخرى ” لبوشكين و”غيمة فى بنطلون وقصائد أخرى ” لماياكوفسكى و” الشيطان.. وقصائد أخرى” ليرمونتوف و وليانيس ريتسوس: اللذة الأولى- مختارات شعرية – و”هذه اللحظة الرهيبة ” قصائد من كرواتيا 1997
وليانيس ريتسوس” البعيـد، مختارات شعرية شاملة”، ولسوزان برنار” قصيدة النثر من بودلير حتَّى الآن، وجريجوري جوزدانيس” شعـرية كفافي”، دراجو شتامبوك ” نجومٌ منطفئةٌ على المنضدة”، و”شارل بودلير” الأعمال الشعرية الكاملة
و”قسطنطين كفافي” الأعمال الشعرية الكاملة، و”أوديسيوس إيليتِس ” له المجـد” وليانيس ريتسوس” سوناتا ضوء القمر..

الغجر واعمال أخرى
الغجر واعمال أخرى

على الرغم من هذا العطاء فى الشعر والترجمة فقد كان إسهام “رفعت سلام ” مميزا فى النقد ولعل تجربة جيله من الشعراء التى تميزت بإسهامات معظمهم النقدية على عكس من سبقوهم من الرواد الذين لم يكن لهم هذا الدور بشكل كبير، وهذا ما يفسره “حسن طلب ” حين قال ” جماعات الشعر في السبعينات اهتمت بالنقد أكثر من الشعر أو بالتنظير أكثر من الابداع، والسبب أن السنوات العشر الأولى منذ تأسيس جماعة (إضاءة) أي منذ عام 1977 حتى 1987 كانت فترة قحط نقدي لم يكن هناك عمل نقدي جيد، ومسؤول يقوم بتعريف الناس بتجربة شعراء السبعينات ولكن ما تم من تقديم جاء بعد ذلك لهذا وقع على كاهل شعراء السبعينات تقديم اجتهادات نقدية ونظرية للتعريف بالتجربة وسبر أغوارها. قصيدة النثر والنقد “

لكن رفعت سلام الذى أخلص للشعر تماما وخاض معارك نصوصه وأبياته بحثا عن تطور القصيدة لكنه ترك اسهاما فكريا ونقديا رغم قلة عدده بالمقارنة بالترجمة لكنه كان مؤثرا وشديد العمق خاصة دراسته الهامة ”بحثا عن التراث العربي: نظرة نقدية منهجية” إضافة إلى “المسرح الشعري العربي” وهى واحدة من أهم الدراسات التى كتبت فى مسرحنا الشعري وكذلك قدم “سلام رؤيته للشعر فى ”بحثا عن الشعر” و”ما الشعر؟” وتمسك ” سلام ” دائما بأن الشاعر مسئول عن الخروج عن النمط، ولا يجب أن يظل أسيرا لما تم اكتشافه من قبل ولا يستسلم لكتابة ترقد فى نفس السرير الذى رقدت عليه أبيات من قبل – على حد قوله

https://www.youtube.com/watch?v=P-5YgaSLj5E

النهار الآتى

فى عام 2018 أصدر الشاعر والمسرحي أحمد سراج كتابه “النهار الآتي : قراءات نقدية للتجربة الشعرية لرفعت سلام” عن دار الأدهم للطباعة والنشر وقدمه الدكتور محمد عبدالمطلب

وضم الكتاب 28 مادة من نخبة نقاد الوطن العربي وشعرائه تحاور منجز رفعت سلام الشعري من بين هؤلاء كتبوا دراسات نقدية وشهادات عن تجربة ” رفعت سلام الراحل الكبير ” محمود أمين العالم ” وصلاح أبو سريف وعبد الدائم السلامي واعتدال عثمان وعبد الله السمطي ومحمد مفتاح ورمضان بسطاويسي وشريف الجيار وغيرهم وشهادات للروائي علاء الديب والشعراء أمجد ريان وعزمي عبد الوهاب ولطفي السيد منصور، ومحمد رياض، ومسعود شومان
رحل “رفعت سلام ” إلى النهار الذي يريده بعد أن قضى عمره يبحث عن نهار يجيء..

ظل “سلام ” دوما مخلصا لفجر قد يأتى به، لم يتردد لحظة فى إعلان رفضة لكل أشكال التردى وكانت صرخته الأخيرة ” لقد استعاد النظام حظيرته الثقافية، وأعاد ترميمها، واستعاد غالبية المثقفين مواقعهم فيها، كأن شيئًا لم يحدث ”
رحل “سلام ” فى سلام تاركا تراثا ثمينا ومواقف لا تعرف المناطق الرمادية.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock