كلما أعود لتفحص دراسات د محمد المهدي أجد بحثا جديدا، مثلا: كتب عن شخصية الرئيس صدام حسين بطريقة فريدة ، وكتب عن العبقري الشيخ أمام عيسى ، بل وكتب دراسة مدهشة عن نجم الكرة محمد صلاح ( تحليل نفسي لحركة جسد الفتى المصري النابغ ) وهي دراسة مصورة ، ويبدو أنه فعلا مثل أساتذته الكبار وتفنن في تشخيص شخصيات مصر وعبقرياتها ، وقد مر على أروقة الأزهر فطاحل كبارفي علوم الطب والفلك والفلسفة ،ويبدو أن الدارسة الأزهرية تطبع تلاميذها بميزة البحث في الظواهر والأعلام، فمنذ وضع مولانا الجليل مرتضي الزبيدي (موسوعة تاج العروس في عام 1760ميلادية )ووضع أسس علم دراسة (الموسوعات )عبقريات الشخصيات المصرية من منظور دقيق .
والمهدي كتب هذه الدراسة في مقدمة وبابين، شرح المؤلف في المقدمة اهتمامه بموضوع “الأحلام” الذي دفعه إلى وضع كتابه “النوم والأحلام” عام 2001، ثم وقعت عينه على “أحلام فترة النقاهة” بعد أن نشرها نجيب محفوظ مسلسلة في مجلة “نصف الدنيا”.
يقول المؤلف “فتتبعتها ووجدت فيها أبعادا نفسية وجماليات أدبية وفلسفة إنسانية، عميقة وممتدة، فأغراني كل هذا بتتبع هذه ‘الأحلام’ ومحاولة فك رموزها وشفرتها، قدر الإمكان، من خلال عملية تداعي حر حول ألفاظها ومعانيها، ومن خلال عملية تفكير موازٍ تحملها الرسائل وتوصلها لمن يهمهم الأمر.
ينبه المؤلف في هذه المقدمة في كتابه ، أنه لا يقدم ” تفسيرا للأحلام بالمعنى التقليدي السائد، فالحلم نص متعدد المستويات ويصدر من طبقات مختلفة في وعي الحالم ويصل إلى طبقات مختلفة من وعي المتلقي، لذلك تتعدد التداعيات وتتعدد القراءات للحلم الواحد، وهذا شأن الأعمال الأدبية والأعمال الفنية الخالدة) إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ (دراسة نفسية للإبداع والعبقرية والحلم) ونظرة شاملة على تاريخ نجيب محفوظ الأدبي من منظور نفسي،
وعند المهدي يبقي نجيب محفوظ (شيخه المعلم المدهش) عندما يتحدث عنه ترتسم علي وجهه ابتسامة سعادة ، عندما سالته عن سر عبقرية نجيب ، تحدث نصف ساعة كاملة،يصف فيها ،منهجية قراءة قوانين النفس عند نجيب محفوظ ، وصفه بعقل جبار مبدع مدهش، والغريب في شخصية عبقري نوبل ، أنه ظل يحتفظ بالطفل داخله حتي بعد التسعين ، كيف واجه الشيخوخة وهزمها ،كيف كان يدخن ويشرب القهوة كل يوم حتي وهو في التسعينيات ، والغريب أيضا ضحكته التي لم تتغير ، منذ كان صغيرا ، حرفوش يضحك ويرفع رأسه عاليا، في قصص أحلام فترة النقاهة، عاد نجيب ليعبر الزمن، للخلف أربعين عاما، شباب بحق وهوقد أثبت أن العبقري لايشيخ حقا ويموت شابا، وهومن فسر لي حلاوة صوت أم كلثوم التي كلما تقدمت في العمر ، يصبح صوتها أجمل وأعمق وأقوي ولا تسأل كيف ، فلا تفسير طبي عندي لتلك الظواهر.
والسؤال كيف تحول الموظف العادي جدا لهذا الوهج الفكري ربما حاول نجيب محفوظ عبر تاريخه الروائي قراءة قوانين النفس البشرية مستخدما مناهج مختلفة لهذه القراءة, فبدأ بالمنهج التاريخي (التلسكوبي) في رواياته التاريخية ثم تحول للقراءة بالعين المجردة والرؤية الواقعية أو شبه الواقعية في رواياته الاجتماعية ولم يبتعد عن الرمزية طول الوقت خاصة حين كان يريد أن يقول شيئا لا يحتمله الواقع الثقافي أو الاجتماعي أو الديني أو السياسي (أولاد حارتنا وحكايات حارتنا كنماذج), ثم انتهى إلى المنهج الميكروسكوبي في أحلام فترة النقاهة.
هكذا سار بقدميه في تاريخ مصر
وربما يتواكب هذا مع مراحل التطور الفكري والجسدي معا ففي شرخ الشباب هناك استطاعة للتجوال بخطى واسعة بين مراحل التاريخ المصري كأنه مشى فيه بقدميه ورصد وحصل علي كنوز المعرفة ، ثم تحول لقراءة حركة الإنسان في أطواره الكلية الواسعة والممتدة طولا وعرضا, ثم يقدم في خريف العمر( سنا) وحين تكل العين وتضعف الأذن وتتجمد الخطوات يصبح التأمل داخل النفس (وفي الأحلام) أقرب إلى المنطق حيث لا يحتاج هذا التأمل الداخلي إلى مساعدة الحواس أو الجوارح, والهدف في النهاية واحد وهو قراءة قوانين الحياة والوصول إلى أسرار النفس كما يراها المبدع.
ويرصد د محمد المهدي في كتابه و يتتبع إنتاج محفوظ يلمح تلك الرؤية لقوانين النفس والحياة لديه وهو يرى تلك القوانين تحكم الحارة (ممثلة في الفتوات كرموز للسلطة وفي أهل الحارة والمستضعفين ثم رموز الثورة والإصلاح فيها), وتحكم الدولة بكل كياناتها ودينامياتها وصراعاتها (رواية الكرنك وغيرها), ويرى أيضا أنها تحكم الكون (كما حاول أن يصورها في رواية أولاد حارتنا) ففي رأيه (كما نفهم من كتاباته) أن الديناميات واحدة, وأن ما يحدث بين البشر في الوحدة الاجتماعية الصغيرة (أسرة سيد أحمد عبد الجواد) هو نفسه ما يحدث في الحارة (في روايات متعددة) وهو نفسه ما يحدث في المجتمع الأكبر وصولا إلى الكون الأعظم
الحلم وسيلة آمنة أفضل من كابوس القهر في الواقع
نجيب محفوظ كدارس للفلسفة كان يمكنه أن يتعامل مع الأفكار مجردة – كما هي عادة الفلاسفة – ولكنه قرر أن ينتقل إلى المستوى الأكثر تطورا وهو تحويل الأفكار إلى مشاهد وأحداث يقوم بها أشخاص تدب فيهم الحياة, وهذا التحويل هو نفس ما يحدث في الحلم حيث تتحول المشاعر والدوافع والذكريات إلى أفكار, ثم تتحول الأفكار إلى مشاهد وأحداث تجري على يد أشخاص, وهذا التحول الفني (الرمزي) يستلزم بعض العمليات مثل التكثيف والإسقاط والرمزية والتحويل, وذلك لكي يتمكن الحلم من اجتياز شروط الرقابة في الجهاز النفسي, تلك الرقابة التي يهمها المحافظة على هدوء وسلام النائم أثناء الحلم فلا تسمح بمرور الأشياء الفجة أو شديدة الصراحة والتحدي لقيم النائم ومعتقداته.
لكن كيف نبغ نجيب لدرجة أن أبداعه يسير على منطق الحلم؟
ويجيب د مهدي في كتابه …هذا بالضبط ما كان يفعله نجيب محفوظ طوال حياته وكأن أدبه كله كان يتبع قوانين الأحلام في النفس البشرية, فهو يستدعي أحداثا من التاريخ الفرعوني في رواياته المبكرة، لكي يسقط عليها أفكارا وآراء من الواقع, ويستدعي صورا من الحياة الاجتماعية في الحارة المصرية، ليكتشف قوانين العلاقة بين الحاكم والمحكوم (الفتوة وأهل الحارة أو بين القوي والضعيف) في وقت لم تكن الظروف السياسية تسمح بالتعبير المباشر عن ذلك, وليسقط ما يريد من مشاعر وأفكار على شخصياته الشعبية.ولعل سينما نجيب محفوظ وصلت القمة ، وشخصيات نجيب خرجت من الورق لتعيش معنا ، فشخصية سي السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية صارت تعيش معنا ، وتخلقت في المجتمع المصري بشحمها ولحمها ،
وحين أراد أن يوسع الرؤية ويصل إلى القوانين التي تحكم الخالق بالمخلوق وتفسر حركة النبوات والرسالات وعلاقة الدين بالعلم, كتب رواية “ أولاد حارتنا“, ولكن يبدو أن عمليات الإسقاط والتكثيف والترميز والإزاحة في هذه الرواية لم تكن كافية لذلك أثارت هذه الرواية الكثير من الغضب والقلق لأن رموزها كانت مباشرة نسبيا فكانت بالتالي أشبه بأحلام القلق التي تخرج فيها الدوافع والرغبات صريحة ومتحدية للمنظومة القيمية للنفس وتمر في غفلة من الرقيب فيستيقظ النائم فزعا ،وربما احتاج نجيب محفوظ في بداية حياته أن يركن إلى عناوين تاريخية كبيرة مثل “ كفاح طيبة“ وغيرها وذلك ليلفت نظر القارئ إلى ما يكتبه.
هذا سر مسكوت عنه في أزمة نجيب محفوظ
ويفسير د مهدي في دراسته عن سر الأزمة الكبري في حياة النجيب ، بعد أن أصبح ملء السمع والبصر فلم يعد يحتاج إلى الصوت العالي والعناوين الضخمة بل كما قال عنه أحد الكتّاب:“ ليس بحاجة إلى أكثر من أن يهمس فنسمع زعيقه, ويرمز فنفهم حديثه, ويصمت فنفسر المسكوت عنه“ .
ونجيب محفوظ كإنسان يعيش أزمة ممتدة, أظنها كانت وقود إبداعه وسر دافعيته الهائلة التي لم تنطفئ عبر السنين, هذه الأزمة تتلخص في وعيه الحاد والعميق لتفاصيل النفس البشرية وقوانين الحياة, وهو يعيش الحياة اليومية كمواطن مصري بسيط وكموظف عادي يصطدم طول الوقت بعشوائيات تلك الحياة المصرية (رغم ثرائها) وتناقضات المجتمع (رغم حسن النوايا) واضطرابات القوانين الحاكمة للناس (رغم روعة الشعارات).
ولا شك أن هذه العشوائيات وهذه التناقضات وتلك الاضطرابات تؤثر بشدة في هذه النفس الرقيقة الدقيقة الحساسة المبدعة فتدفعها إلى الحركة والاستجابة بحثا عن التغيير للأفضل كما يراه صاحب هذه النفس, وبما أن نجيب محفوظ شخصية مهذبة ” جدا“ وليس لديه توجهات صدامية صريحة وعنيفة تجاه السلطة أو تجاه الناس, لذلك لم يكن أمامه طريق غير فنيات الرواية أو القصة أو الحلم لكي يقول لنا ما يريد دون أن يقطع حبل وده معنا, وقد استمر يقول ويقول حتى بلغ الرابعة والتسعين من عمره, وأظنه مدفوعا بقوة لا يملك دفعها لأن يقول ويستمر في ” القوالة” حتى آخر لحظة في حياته.
والدليل على ذلك أنه كان يكتب أحلام فترة النقاهة بعد حادث الاعتداء عليه ولم يكن يستطيع التحكم في القلم نظرا لضعف عصب اليد, وظل يكتب حتى بعد أن ضعف بصره وأصبح لا يرى ما يكتبه وإنما يكتفي بحركة أصابعه ممسكة بالقلم ومحركة إياه فوق صفحات الورق, وهذا نموذج متفرد للإرادة الإنسانية وللدوافع التي لا تنطفئ وللإبداع الذي لا تخبو جذوته مع تقدم العمر وضعف الحواس على الرغم من أن الرجل قد أحرز شرفا هائلا بحصوله على جائزة نوبل وأصبح يتربع على جبل من الإنجازات الأدبية يغريه بالراحة والاستكانة والتفرغ لجني الثمرة, ولكن هذا ليس دأب أصحاب الرؤى (مهما اختلفنا معهم في رؤاهم) وأصحاب الهمم العالية .
والمبدع ليس لديه فضلات أو نفايات فكرية فكل شيء لديه يمكن تدويره والاستفادة منه, وهذا ما فعله نجيب محفوظ مع أحلامه (سواء كانت أحلام يقظة أم أحلام منام) فقد احتفى بها (عكس ما يفعل سائر الناس حين يعتبرونها أضغاث أحلام) وصاغها فنيا وكساها بخبرته الأدبية الرفيعة وحملها رسائل عميقة هي بمثابة الخلاصة المصفاة والمقطرة من حكمة السنين .
والحلم قدرة على مزج العقلي بالحدسي التخيلي بالاستشراقي الشفاف بالوجداني بالروحي بالغيبي, والمحصلة نصا متعدد الروافد والمستويات يتخطى الحدث العادي المسرود ( ذو الأبعاد المحدودة) إلى ما هو أبعد وأعمق وأخصب وأكثر خلودا.
وتوقف عن الكلام المباح للسرد الموجز
في جزء مهم من كتاب د مهدي كتب يقول ، في أحلام فترة النقاهة نجد أن نجيب محفوظ قد صار في غنى عن التفاصيل والحواشي والزوائد فهو يعمد إلى اللب والجوهر مباشرة ويقود المتلقي إلى الحقيقة من أقصر الدروب, وربما يناسب هذا تلك المرحلة من العمر والتي يشعر فيها الإنسان بقلة ما تبقى من الوقت في هذه الحياة لذلك يصبح الوعي بالوقت حادا وتصبح اللحظات ثمينة وعزيزة ولا يحتمل العمر رفاهية السرد المطول والتثاؤب المتراخي, لذلك جاءت أحلام فترة النقاهة كرسائل تلغرافية عميقة ونافذة, ووضعت أسسا لفن أدبي جميل.
والمشاعر في الأحلام تبدو هادئة غير مبالغ فيها (وكذلك شخصية محفوظ), وأحيانا تكون أقل بكثير من المتوقع في الموقف, وأحيانا تكون عكس المتوقع, وهذا يتفق مع ما قاله فرويد عن المشاعر في الأحلام.
وحين يقول نجيب محفوظ عن أحلامه “ هي مصدر إلهامي فيها أحلامي الحقيقية التي أراها“ فهو بهذا يؤكد ويواكب ما عرف علميا عن الأحلام (راجع دراسة في علم السيكوباثولوجي لأستاذنا الدكتور يحيي الرخاوي صديق محفوظ وأحد الحرافيش) بأنها البناء التحتي للتركيب المخي وهي أشد ما تكون لزوما لعمل البناء الفوقي ( الوعي والإرادة), وأن الأحلام والنوم يشكلان نصف الدورة المخية, وأن ثمة حالة ولاف بين اليقظة والمنام وبين الخيال والواقع وبين الحياة والموت عند المبدع, وهذا ما نلمحه في أحلام فترة النقاهة فنرى دائما ذلك التزاوج بين الحلم والحقيقة وبين الحقيقة والخيال وبين الشخصي والعام وبين الفردي والجماعي وبين الذاتي والموضوعي.
وحين يدفع إلينا نجيب محفوظ بأحلام فترة نقاهته فكأنه يستحثنا أن نحلم بعد أن مرت بنا سحابة غبية معتمة حاولت أن تقنعنا بأنه لا فائدة من الأحلام وأن علينا أن نرضخ للواقع ونسلم به.
ويلاحظ في أحلام محفوظ حملها لرسائل إيقاظ وتحفيز, وبما أنه – كما ذكرنا – رجل لطيف لا يجرح أحدا ولا ينتقد أحدا بشكل مباشر لذلك لجأ للأحلام يقول من خلالها ما يريد فليس على النائم حرج, وذلك ما فعله من قبل برناردشو حين لجأ إلى الفكاهة والدعابة وأحيانا إلى ادعاء الجنون لكي يوصل رسالاته النافذة إلى العقل الإنجليزي دون إراقة دماء ودون إثارة أحقاد أو قلاقل, وهذا أيضا ما فعله غاندي مع الاحتلال الإنجليزي (المقاومة السلمية) ومع حالة الاستبداد السائدة.
وهذا الأسلوب يمكن أن نطلق عليه ” القوة الناعمة“, وهى قوة تغير كثيرا في المجتمعات دون مواجهة جارحة, وهى تحمل الكثير من الحب والشفقة نحو المرضى المعالجين.
خدعة الهروب الكبيرإلي الأحلام
الحلم عند نجيب يعطى مساحة أكبر من الحرية – خاصة في المجتمعات التي تكثر فيها القيود والمحاذير – لأن الحلم يخترق حواجز الرقابة بغموضه ورمزيته وتحوراته وتكثيفاته وإسقاطاته وإزاحاته, وربما يكون ذلك موازيا لإبداعات أدبية تاريخية مثل كليلة ودمنة حين لجأ الكاتب لقصص عن الحيوانات والطيور يحملها ما يريد من رسائل دون أن يواجه عواقب الصراحة المباشرة والجارحة لأوضاع معوجة.
وإذا كان تعبير “فترة النقاهة” الملحق بأحلام محفوظ ينطبق على نقاهة محفوظ شخصيا إلا أنه ينطبق على مجتمعه أكثر, فنحن بالفعل في فترة نقاهة, وهى فترة بين حالة المرض وحالة السواء, ولو لم يتم زيادة مناعة الجسم وتجهيزه لحالة السواء فيمكن أن تحدث انتكاسة, ولذلك فالإنسان (والمجتمع) في حاجة إلى استعادة الوعي, والحلم أحد وسائل استعادة الوعي واستعادة العافية واستعادة الحرية واستعادة الأمل
ويرى المؤلف أن هناك عاملين مهمين لعبا دورا هاما في استمرار التدفق الإبداعي لنجيب محفوظ حتى هذه السن وهما:العامل الأول: انتظامه في لقاء أصدقائه من القدامى والمحدثين، وانتظامه في التجوال في الأحياء المصرية القديمة والحديثة، كل ذلك يعطيه الفرصة للربط بين الماضي والحاضر فضلا عن إبقاء الذاكرة ملأى بالأحداث والذكريات، والحفاظ على النفس في حالة تكامل وتواصل ونشاط واستعادة الطفولة والصبا والشباب في أثواب جديدة في كل مرحلة من مراحل العمر العقلي والإبداعي.
أما العامل الثاني: فهو الوجه الآخر لشخصية نجيب محفوظ، وهو كونه موظفا عاش حياته الوظيفية الحكومية الروتينية ملتزما بالحضور والانصراف والعمل منذ لحظة الدخول إلى لحظة الانصراف.
قصة حلم(1) وضياع العمر
أسوق دراجتي من ناحية إلى أخرى مدفوعا بالجوع باحثا عن مطعم مناسب لذوي الدخل المحدود ودائما أجدها مغلقة الأبواب، وحانت مني التفاتة إلى سلعة الميدان فرأيت أسفلها صديقي فدعاني بإشارة من يده فملت بدراجتي نحوه، وإذا به على علم بحالي فاقترح علي أن أترك دراجتي معه ليسهل على البحث فنفذت اقتراحه. واصلت البحث وجوعي يشتد وصادفني في طريقي مطعم العائلات فبدافع من الجوع واليأس اتجهت نحوه على الرغم من علمي بارتفاع أسعاره ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله أمام ستارة مسدلة فما كان منه إلا أن أزاح الستارة فبدت خرابة ملأى بالنفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام فقلت بانزعاج:
ـ ماذا جرى؟
فقال الرجل:
ـ أسرع إلى كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل أن يشطب.
ولم أضيع وقتا فرجعت إلى ساعة الميدان ولكنني لم أجد الدراجة والصديق.
ثم يفسرد المهدي تداعيات حلم( 1) فكتب :الجري وراء السراب
نتعجل الخطى في حياتنا ونلهث باحثين عن إشباع احتياجاتنا الأساسية الملحة، ولكن الظروف والأحوال المحيطة بنا لا تعطينا هذا الإشباع، وعقارب الزمن تطاردنا والعمر يمضي ولدينا الكثير نريد تحقيقه قبل أن نترك هذه الحياة ولدينا أطماع ورغبات وآمال وطموحات، قد تكون مشروعة، ولكن الحياة ليست دائما عند توقعاتنا.
قد ينصحنا البعض بتغيير طريقة التفكير وطريقة البث، وقد ينصحنا الأصدقاء بالتمهل في البحث وترك العجلة (الدراجة)، فنستجيب لنصائحهم علنا نجد ما نريد.
ويحدونا الأمل في أن نبحث عن أسرة ونكون عائلة (مطعم العائلات) ننعم فيها بالطعام الدافئ والعيش الوثير، ولكننا نكتشف في لحظة أن هذا أيضا سراب (الخرابة خلف الستار).
تعود إلينا النصيحة من آخرين بأن نحاول العودة إلى الشباب (كبابجي الشباب) علنا ندرك بعض ملذاته قبل أن يفوتنا القطار، ولكننا نكتشف أن القدرة تخوننا (قد ضاعت الدراجة) وأننا نعاني الوحدة (بعد اختفاء الصديق).