- في مقاله «مصر للمصريين» كتب الصحفي وصاحب جريدة «القطر المصري» أحمد أفندي حلمي (جد الفنان الراحل صلاح جاهين) يندد بتلك الإمتيازات التي تتمتع بها عائلة محمد علي باشا ومطالبًا بحق المصريين في التمتع بدستور عادل يحتكمون إليه فما كان من أولي الأمر أن وجهوا إليه عددا من التهم تنص على: «تجاريه بالتطاول على مسند الخديوية المصرية والطعن في نظام حقوق الوراثة فيها وفي حقوق الحضرة الفخيمة الخديوية والعيب في حق ذات ولي الأمر» .. نجم عن هذه الإتهامات أن حكم عليه بالسجن، فقضى ستة عشر شهرا بسجون مصر، خرج منها فكتب ستة عشر مقالا تم نشرها بجريدة «العلم» الناطقة بلسان حال الحزب الوطني.
ذاع صيت أحمد أفندي حلمي بعد نشر تجربته في السجون المصرية وطُلِبَ منه أن يجمع تلك المقالات في كتاب فكان كتابه «السجون المصرية في عهد الإحتلال الإنجليزي» الصادر عام 1911 والذي يصف فيه حال السجون المصرية تحت الإحتلال البريطاني وحال السجون بعدد من دول العالم من بينهم إنجلترا وفرنسا وأمريكيا.
مصر للمصريين
بعد صدور الحكم بالسجن على الصحفي أحمد أفندي حلمي إلى جانب وقف صدور جريدته «القطر المصري» بكى بعض الحضور فخطب فيهم أحمد أفندي «أيها الإخوان الكرام .. لا تبكوا ولا تجزعوا وإياكم أن تخافوا أو تفزعوا وثقوا بأن كل الخطوب والاحكام لا تغير لي ضميرا ولا تبدل لي اعتقادا فمهما فعلوا فإنني لا أتزحزح عن مركزي ولا أفرط في مبدأ خدمته عشر سنوات الا وهو (مصر للمصريين) فاستودعكم الله».
نُقِلَ أحمد أفندي حلمي إلى غرفة التنفيذ حيث وجد نفسه محاطا بنحو أربع وعشرين سجينا ذو ملابس قذرة أخذوا جميعا يواسونه بكلمات تنم عن التعاطف مع قضيته ومع منتصف اليوم تم نقله إلى سجن مصر العمومي الذي يعد بمثابة المثال الذي استمدت منه جميع رسوم السجون المصرية مع تعديلات قليلة هنا أو هناك.
يروي أحمد أفندي عن اللحظات الأولى له بالسجن وكيف تعاطف معه مأمور السجن وحال بينه وبين تلك الإجراءات الصعبة التي كان يتعرض لها السجناء عند دخولهم السجن لأول مرة والمتمثلة في التفتيش الذاتي المهين وحلق الشعر بشكل تام والاستحمام وإرتداء ملابس بالية قذرة يتوقف لونها «كاكي أو أزرق أو أسود» على مدة الحكم فمن حكم عليه بأقل من سنة يرتدي اللون الكاكي ومن حكم عليه بأكثر من سنة يرتدي الزي الأزرق أما من أرتادوا السجون لأكثر من مرة فإنهم يرتدون الزي الأسود.
أكرم مأمور السجن أحمد أفندي بأن منحه ملابس زرقاء جديدة لم يرتديها أحد من قبل وكان من نصيبه أن أقام بزنزانة رقم خمسة تلك التي كانت مأوى سابق للمرحوم منشاوي باشا وأوصى المأمور حارس السجن «درويش» على السجين الجديد مشيرا له «أنني أحضرت هذا الأفندي إلى هنا لأنني أعرف أنك عاقل فيجب عليك أن تنفذ النظام بلا إهانة ولا شتم ولا أي شيىء من المعتاد وأحضر له طعاما كاملا وفراشا نظيفا وكوزا جديدا».
كانت الزنزانة عبارة عن غرفة طولها 13 شبر وعرضها 9 أشبار وارتفاعها نحو ثلاثة أمتار ونصف وبها نافذة صغيرة وضع عليها قضبان الحديد وهى مفتوحة صيفًا وشتاءًا ويحتوي باب الزنزانةعلى فتحة صغيرة بها قضبان مقابلة للنافذة، أما فراش الزنزانة فكان عبارة عن حصيرة وثلاث بطاطين من الصوف الخفيف وكوز مياه للشرب ووعاء للتبول وهى بتلك المواصفات تعد الزنزانة المميزة التي أكرم بها مأمور السجن الصحفي صاحب مقال «مصر للمصريين».
يوميات سجين القلم
بعد ساعة من وصول السجين الصحفي أحمد أفندي حلمي إلى زنزانته أحضر له الحارس «درويش» الطعام وكان عبارة عن رغيف من الخبز ووعاء به بعض الطعام لم يدرك السجين فحواه.
قضى أحمد أفندي ليلته الأولى بالسجن يعاني من الأرق ومع شروق شمس أول يوم وكان يوم جمعة فتح الحارس باب الزنزانة فخرج السجين إلى دورة المياه ليجد جموع السجناء يقضون حاجتهم على مرأى من الجميع فكان ذلك المشهد أشد عنفا على نفسه من وقع الحكم بالسجن ذاته.
أتي وقت التريض فخرج السجين إلى ساحة السجن ليجد غيره من السجناء مقسمين إلى مجموعات مكونة من ست أفراد يدورن في شكل بيضاوي رسم على الأرض خصيصا لهذا الغرض ويحظر عليهم الحديث فيما بينهم أو الإلتفات ذات اليمين أو اليسار، يستمرون في الدوران حول ذلك الشكل البيضاوي لمدة نصف ساعة ثم يذهب كل منهم إلى محبسه.
بعد مرور الأسبوع الأول على أحمد أفندي بالسجن تم إلحاقه بورشة صناعة السجاد وذات يوم خلال عمله بالورشة وكان السرالدون غورست قد أصدر تقريره عن الأحوال المصرية في سنة 1908 وتم تسريب نسخة من هذا التقرير إليه وبعد أن قرأ نحو 15 صفحة منه ذهب أحد الجواسيس وأخبر الوكيل الإنجليزي بالسجن فحضر إلى الورشة وعاقب أحمد أفندي بالحبس الإنفرادي مدة ثلاثة أيام يعيش خلالها على طعام مكون من الخبز والماء.
رفاق السجن
رافق أحمد أفندي حلمي بالسجن عدد من مشاهير السجناء كان من بينهم «جيل جولدستين» وهو أحد رجال البوليس السري بمحافظة القاهرة وسجن لإطلاقه الرصاص على هارفي باشا حكمدار العاصمة وقد تم سجنه بالقسم المخصص للأجانب حتى تم نقله إلى سجن «برسلاو» في ألمانيا حيث حوكم هناك.
كما رافق أحمد أفندي بالسجن إبراهيم ناصف الورداني الذي أطلق الرصاص على بطرس غالي باشا رئيس النظار بنظارة الحقانية في شهر فبراير سنة 1910 وحكم عليه بالإعدام، إضافة إلى الشيخ عبد العزيز جاويش محرر جريدة «العلم» حيث حكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر بتهمة كتبت على تذكرة زنزانته جاء فيها «تحسين كتاب وطنيتي».
العنف والمرض داخل السجون
عانى أحمد أفندي أكثر ما عانى من منعه من الكتابة والقراءة غير أن ذلك لا يقارن بمدى العنف الشديد الذي كان يتعرض له الغالبية العظمى من السجناء بصفة منتظمة في صورة ضرب بالنعال فوق الرأس والتعذيب المستمر حتى أن الممرضين بمستشفى السجن أنفسهم قد قاموا بضرب أحد السجناء ضربا أفضى إلى موته.
روى أحمد أفندي عن الكيفية التي كان يستغل بها مسئولي السجن السجناء في القيام بكل أعمال السجن حتى أنهم كانوا يربطون بعض السجناء في ساقية يديرونها كالثيران تحت لفح الشمس المحرقة صيفا أو زمهرير البرد القارس شتاءًا ليرفعوا من قاعها المياه القذرة التي يستخدمها السجناء في قضاء حاجتهم.
لا يقتصر الأمر على الضرب والتعذيب وإمتهان الكرامة الإنسانية للسجناء بل أنه بالإضافة إلى ذلك عاني السجناء من تفشي العديد من الأمراض كالروماتزم وأمراض الصدر وفقر الدم وضعف البصر وهى في مجملها أمراض نجمت عن سوء المعاملة التي يتعرضون لها داخل السجون.
لفت أحمد أفندي النظر إلى قضية هامة تتعلق بتعرض المتهمين الذين مازالوا «تحت التحقيق» إلى ذات المعاملة القاسية التي لا تفرق بأي حال من الأحوال عن المعاملة التي يلقاها باقي السجناء المحكوم عليهم بشكل نهائي وقد بلغ عددهم عام 1909 نحو «2054» متهم تم تبراءة نسبة 38 بالمائة منهم، والأمر الأكثر خسه كان يتمثل في منع السجناء من طلاب المدارس من مطالعة كتبهم الدراسية إلى جانب حبس العديد من الشباب صغار السن من المراهقين مع الرجال السجناء معتادي الإجرام.
التمييز بين السجناء المصريين والأجانب كان تمييزا صارخًا داخل السجون المصرية بعهد الإحتلال الإنجليزي حتى أن القنصليات الأجنبية كانت تتحرى المواسم والأعياد فتتوسع في تقديم الدعم إلى رعاياها، هذا إلى جانب السعي لإصدار العفو عن المحكوم عليهم نهائيا في جزء من المدة.
على العكس من ذلك كان السجناء المصريين يتعرضون على يد الوكيل الإنجليزي إلى التضييق الشديد بالمواسم والأعياد ويروي أحمد أفندي واقعة تعرض فيها سجين للسجن الإنفرادي لتلاوته القرآن بأحد الأعياد، حيث سمعه الوكيل الإنجليزي فأصدر أمرا بحبسه حبسا إنفراديا وحين رد عليه المسجون بأن ما يتلوه هو القرآن الخاص بالمسلمين رد عليه الوكيل الإنجليزي «أنت والقرآن في الإنفراد» .. كان هذا هو حال السجون المصرية بعهد الإحتلال الإنجليزي فهل تغير حالها الآن؟! .. ربما!