رؤى

المسيري مفسرًا: لماذا يستمر الاغتصاب في مجتمع منفتح جنسيًا؟

سألت صديقي المصري الذي يقيم بالنمسا منذ ما يزيد على عشرين عامًا: ماذا في النمسا؟

ـ لا شيء.

ـ أقصد..

ـ أعرف ما تقصده وأؤكد لك أن ليس بالنمسا شيء اللهم إلا الإنسان النمساوي الذي عرف كيف يستثمر بلدًا صغيرًا لا تتجاوز مساحته الثمانين ألف كيلو متر مربع، ولا يزيد عدد سكانه عن تسعة ملايين نسمة، ولكن عدد زواره في الموسم السياحي الواحد يتجاوز الأربعين مليون سائح، النمسا بلد يحكمها قانون صارم يوفر مساحات عظمى من الحرية الشخصية التي تتيح لك الاستمتاع بملذات الحياة ما لم تتجاوز حدود القانون، فكل شيء هناك مباح.

ـ كل شيء مباح؟

ـ نعم، كل شيء.

طفا ذلك الحوار من قاع ذاكرتي إلى سطحها وأنا أقرأ تفاصيل حادثة وقعت في قلب النمسا، حظيت بتغطية استثنائية من المواقع الإخبارية.

يقول ملخص الحادثة: قضت محكمة نمساوية، على معلم يعمل في مدرسة إعدادية ويبلغ من العمر أربعين عامًا بالسجن ثماني سنوات وستة أشهر بعد اغتصابه لعدد من تلاميذه وإساءته الجنسية للعديد من التلاميذ الآخرين.

وكان المعلم المتهم قد صوّر سرًا أعمالًا جنسية وأرشفها على جهاز الكمبيوتر.

وأوضح المدعي العام أنه نظرًا لأن جميع الجرائم موثقة جيدا من خلال الصور وتسجيلات الفيديو، لم يتم التخطيط لاستجواب الضحايا في المحاكمة، ويقال إن المتهم قام بتركيب العديد من الكاميرات في شقته.

وعرض الجاني على طلابه الكحول والسجائر ومزايا مدرسية، لكنه هدد الطلاب أيضًا بدرجات سيئة وفضح الصور، إن لم يرضخوا لاستفزازاته.

انتهى ملخص الحادثة الذي جعلني أسأل نفسي عن مدى مصداقية كلام صديقي المقيم في تلك البلاد.

إذا كان كل شيء (يوافق القانون) مباحًا فما هذا الذي قرأت؟

كان من السهل عليّ التخلص من أعباء القصة كلها بأن أقول لنفسي: هذا يحدث في أحسن المجتمعات، أو أن أصف الجاني بأنه يعاني من خلل نفسي أو عقلي، يجعله يغتصب الذكور من تلاميذه بينما أمور الاتصال الجسدي الطبيعية أو شبه الطبيعية متاحة لا يجرمها القانون أو المجتمع.

أدهشني أن سؤال ـ لماذا تقع في بلد يعاني من فرط الشبع حادثة كهذي؟ ـ قد شغلني بل وفرض عليّ قيدًا أخلاقيًا يلزمني بالبحث عن تفسير غير تلك التفسيرات المعلبة سابقة التجهيز.

بحثت في جوانب نفسي عن تفسير فلم أجد، ولكن أين المهرب من قيد أخلاقي؟

فتح الله لي باب التذكر، فتذكرت أنني قد قرأت عرضًا قدمه الباحث الأستاذ أحمد باغديش لبعض أفكار العلامة الدكتور عبد الوهاب المسيري عن قضية الجنس في أمريكا خاصة وفي الحضارة الغربية بصفة عامة.

بعد عناء وجدت عرض الأستاذ باغديش وكتاب الدكتور المسيري (رحلتي الفكرية -في البذور والجذور والثمر) الصادر عن دار الشروق.

رحلتي الفكريية.. في البذور والجذور والثمر - المسيري
رحلتي الفكريية.. في البذور والجذور والثمر – المسيري

كوارث اللذة

قبل أن يلتقي المسيري بالغرب لقاءً مباشرًا حيًا، كان يقول كلامنا المعتاد عن الكبت والحرمان، ولكنه عندما عاش في الغرب ولم ير كبتًا ولا وصاية، وجد أن التفسير الشرقي للجنس يحتاج لإعادة نظر، فالغرب المتحرر يشغله الجنس ليل نهار.

قال المسيري (سأنقل عنه بتصرف يسير) عن الشذوذ:”أعتقد أن الشذوذ هو النتيجة المنطقية والترجمة الوحيدة الأمينة لمبدأ اللذة النفعي، فالإنسان الشاذ يمكنه أن ينشئ علاقة مع شخص آخر من جنسه فيتغلب على اغترابه بشكل مؤقت ثم يعود مرة أخرى لحياته الاستهلاكية البسيطة.

هو يتغلب على اغترابه دون أن يدخل في علاقات ذات آثار اجتماعية تضطره للدخول في علاقة حقيقية مع الآخرين ومع الواقع، إن العلاقة مع شخص من نفس الجنس هي أقل العلاقات الإنسانية جدلية.

لقد انفلتت الرغبات الجنسية، وبدلًا من أن تحرر الإنسان، استعبدته، فانتشرت الإباحية وتم تطبيعها، فبعض الأعمال الإباحية الحديثة تنظر للجسد لا باعتباره شيئًا يثير الشهوة وإنما باعتباره شيئًا يُنظر إليه بشكل معملي، شبه محايد. فكأن الهدف من الإباحية هنا ليس إرضاء الشهوات وإنما اختزال الإنسان إلى جسد، ثم تشريح أو تفكيك هذا الإنسان وتحويله إلى مادة استعمالية، فالتعرية تبدأ بالجسد وتنتهي بتعرية الإنسان من تركيبه وإنسانيته. لكل هذا يُنظر للجنس بطريقة محايدة للغاية وكأنه نشاط بيولوجي منفصل عن القيمة”.

ما سبق كان ملخصًا لرؤية المسيري للشذوذ، فكيف هى رؤيته لمجمل قضية الجنس؟

يقول المسيري: كانت إحدى الصور النمطية الشائعة في عقولنا والنموذج التفسيري الكامن فيه أن الجنس طاقة مادية إن فُرِّغت بطريقة عادية فإن الفرد يصبح عاديًا وطبيعيًا وسويًا، أما إن كُبتت فإنها تصبح قوة مدمرة. وهي معادلة بسيطة ومعقولة لأول وهلة على الأقل، ولذا كان من المفهوم أن ينشغل الشرقيون بالجنس، فهم مكبوتون قُمعت رغباتهم الجنسية في طفولتهم ومراهقتهم، ولذا طاقتهم الجنسية كلها مخزونة، وهو ما أدّى إلى تشوههم النفسي الكامل، وتحولوا إلى مراهقين أزليين. هذا ما تعلمناه؛ كما تعلمنا أيضًا أن الأمور مختلفة تمامًا في الغرب، فهم يتصرفون بشكل طبيعي إذ أنهم يسربون الطاقة الجنسية بلا قمع ولا كبت.

لاحظ أن هذا كان كلام المسيري قبل أن يقيم في الغرب حيث لا كبت ولا مراهقة أزلية وحيث كل شيء متاح وفق القانون، ولكن بعد الإقامة والعمل في الغرب أصبحت للرجل رؤية جديدة.

يقول المسيري:” حينما وصلت إلى الولايات الأمريكية وجدت أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأن المعادلة البسيطة التي آمنت بها لا تفسِّر الأمور، إذ لاحظت إقبال الأمريكيين النهم وانشغالهم المتطرف وأحيانًا المرضي بالجنس، بينما مجال الإشباع الجنسي متاح أمامهم بشكل ديموقراطي مذهل”.

من أين ينبع النهم والمادة لا تنفد؟ كيف يكون الأمر متطرفًا بل ومرضيًا ولا كبت هناك؟

يجيب المسيري:” القصة تعود إلى رؤيتهم المادية للجنس، إنهم يرونه أمرًا ماديًا، مسألة غدد وعضلات مثل تناول الطعام، وكثيرًا ما سمعتهم يقولون: إن الجنس مثل الطعام تمامًا. ولعل محاولة تطبيع الجنس تفسر رغبتهم العارمة في ممارسة الجنس في العلن، بلا إحساس بالحرج أو الخصوصية أو الفردية، خاصة بعد انكماش رقعة الحياة الخاصة. ومحاولة تطبيع الجنس تظهر في أن المجتمع الأمريكي يُظهر عدم الاكتراث بعلاقة الجنس بالمجتمع، أو كما يقولون: لا يهم سلوك الإنسان في السرير، المهم هو سلوكه أمام شباك التذاكر

وعدم الاكتراث هذا هو نتيجة لتبسيط الإنسان واختزال دوافعه. ولهذا لم يدرك كثيرون أن الجنس مسألة إنسانية مركبة خاصة وفردية وأنها مرتبطة برؤية الإنسان للكون وهويته الفردية. وعدم إدراكهم لهذه المسألة، هو أحد أسباب عدم الارتواء الجنسي، فهم يمارسون الجنس في إطار مادي، يترك كيانهم الإنساني بلا إشباع”.

نعرف أن الممارسة الجنسية هى ثنائية بالضرورة، تكون طبيعية (لا نتحدث عن المشروعية) عندما تتم بين ذكر وأنثى، وتكون شاذة عندما تتم بين متماثلين، ورغم تلك الثنائية فهل هى ذات أثر فاعل على المجتمع ككل؟

يقول المسيري:” إن الباحث عن اللذة هو إنسان فرد مكتف بذاته لا يطيق أي حدود أو قيود، أو مسؤولية، ولهذا فهو غير قادر على إرجاء تحقيق رغباته، فهو يود أن يحققها في التو، وخاصة أن هذا الفرد يعيش في مجتمع نفعي مادي، لا يعرف المثاليات التي تساعده على تجاوز ذاته الضيقة. وفي تصوري أنه لا يمكن إرجاء إشباع الرغبات إلا من خلال الإيمان بمَثل أعلى يتجاوز حدود الفرد وحيزه”.

الجنس تحت الأشجار

تعد الجملة الأخيرة هى أخطر جمل المسيري، لأنها مربط الفرس، إنه يتحدث عن الإيمان بمثل أعلى، وذلك الإيمان أصبح غائبًا أو شبه غائب عن عموم حضارة قائمة على النفعية وعلى الذاتية، وفي فصل آخر من فصول الكتاب يعترف المسيري بأنه ذهب إلى الغرب وهو صاحب نزعة اشتراكية، ثم عندما شاهدهم بعينيه يمارسون الجنس على حشائش الجامعة وفي ممراتها وتحت أشجارها، فزع أولًا ثم هدأ وراح ينظر للأمر من مختلف زواياه، وذلك النظر قاده إلى المرجعية الإسلامية، لأن هؤلاء الذين يفرطون في تلك الممارسات لا يجدون بين جوانحهم ما يردعهم ولا ما يجعلهم يحلمون بحياة ثانية خالدة، هى حياة دنيا يعكفون على ملذاتها ثم سيصبحون عظامًا نخرة تذروها الرياح!

يواصل المسيري بسط رؤيته فيقول:”الفرد المكتفي بذاته لا يمكنه أن يقبل مؤسسة الأسرة، فهي مؤسسة تُلقي على كاهله مسئوليات اجتماعية شتى، وتفرض حدودًا وقيودًا، عليه أن يقبلها، وهو من الصعب عليه أن يفعل، فهو يعيش لنفسه ولمتعته وفائدته ولذته، ولذا تَضْمُر مؤسسة الأسرة تمامًا. ولعله لهذا يزداد العزوف عن النسل أو الزواج، مع ازدياد الإحساس بأن الأسرة عبء لا يُطاق وأن مسؤولية تنشئة الأطفال تفوق طاقة البشر، لكن تحطم الأسرة بدوره يزيد من السعار الجنسي، إذ إن الأسرة هي المؤسسة الوحيدة التي يمكن داخلها تنظيم الرغبات الجنسية دون أن تتم عملية قمع كاملة لها”.

انتهى كلام العلامة المسيري رحمه الله، الذي أرى أنه قد حل لي ـ على الأقل ـ لغز ذلك الشره المرضي الذي يضرب بنيان حضارة تعاني من التخمة وفرط الرفاهية

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock