بعد احتشاد أحمد عرابي ورجاله أمام قصر عابدين في سبتمبر من عام 1881، رضخ الخديوي توفيق لمطالب الأمة التي حملها العرابيون، فاستقالت وزراة رياض باشا، وكُلف شريف باشا بتأليف وزارة جديدة تعمل على إصلاح ما فسد.
تردد شريف باشا في بادئ الأمر في قبول التكليف، «كان قلقا من تدخل عرابي في تأيف الوزارة، لأنه هو الذي توصل بقوة الجيش إلى إسقاط وزراة رياض واختياره لرئاسة الحكومة الجديدة، فضلا عن أنه كان يشعر في خاصة نفسه بخطر تدخل الجيش في السياسة، وأنه إذا استمر هذا التدخل وصار قاعدة متبعة في إدراة الشئون العامة، فأنه يؤدي إلى فساد الأداة الحكومية، ويفضي إلى إنشاء دكتاتورية عسكرية لا يؤمن معها عدل أو حرية أو دستور، لذا اجتهد في وضع حد للتدخل العسكري في شئون الحكم»، يشرح المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أسباب تردد شريف في قبول تأليف الوزارة في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي».
خلاف شريف باشا وعرابي
مخاوف شريف باشا بدأت في التحقق، حيث زاره عرابي وطلب منه اختيار محمود سامي باشا البارودي وزيرا لـ«الحربية»، ومصطفى فهمي باشا وزيرا لـ«الخارجية»، «لما يعلمه من ميلهما إلى العدل والحرية»، بحسب ما روى عرابي في مذكراته.
صارح رئيس الحكومة المكلف ضيفه أحمد باشا عرابي بأنه لا يميل إلى إشراك البارودي وفهمي في الوزارة الجديدة، لأنهما «حينما كانا معي في الوزارة الثانية التي ألفتها في عهد الخديوي توفيق تعاهدا معي على أنه إذا رفض الخديوي الموافقة على تشكيل مجلس النواب استقالت الوزارة على ألا يشترك من أعضائها أحد في الوزراة التي ستخلفها كنوع من أنواع الاحتجاج، نكثا البارودي وفهمي العهد، وقبلا بالدخول في وزراة رياض باشا التي قامت بعد وزارتنا، لذلك لا استطيع أن أشتغل معهما».
كان عرابي في المقابل حريصا على إسناد وزراة الحربية إلى البارودي، لما ثبت من ولائه للحركة العرابيةوإخلاصه للجيش، ولم ينس أنه حين تولى الوزراة أجيبت مطالب العرابيين الأولى وهي زيادة رواتب الجند والضباط وتأيف لجنة لإصلاح القوانين العسكرية، وأن الخديوي توفيق قد أقصاه من الوزراة لإخلاصه للضباط المصريين، أما مصطفى فهمي فكان عرابي يميل إلى تقليده وزراة الخارجية لما كان يتظاهر به من الإخلاص للحركة، على أنه لم يبد منه أي عمل إيجابي يدل على هذا الإخلاص.
عرض شريف على عرابي أن يتولى هو بنفسه حقيبة الحربية، «أفلا ترضون أن أكون أنا ناظرا للجهادية، فأني قد ربيت معكم في العسكرية»، لكن عرابي أصر على تولي البارودي وزراة الحربية، وقال لرئيس الحكومة المكلف: «لقد اخترناك رئيسا للوزراة، ولابد من مراعاة ميول رجال العسكرية»، فأصر شريف باشا على عدم قبول مرشحي عرابي وانتهت المقابلة الأولى على غير اتفاق، بحسب ما ذكر الرافعي في كتابه.
ظل شريف مترددا في قبول الوزراة حتى عاهده العرابيون بألا يتدخل الجيش في السياسة وأن يكون خاضعا لأوامر الحكومة المدنية، فقبل تأليف الوزراة في 14 سبتمبر عام 1881، ورضى بإسناد «الحربية» إلى البارودي و«الخارجية» إلى مصطفى فهمي.
عريضة الضباط إلى حكومة شريف
أورد الرافعي في كتابه التعهد الذي رفعه ضباط الجيش إلى شريف باشا حتى يقنعوه بقبول تأليف الوزراة، وقال الضباط في رسالتهم إلى شريف باشا:
«نحن ضباط الجيش المصري، نعتقد الاعتقاد التام في حسن صداقة وغيرة دولتكم وخلوص طويتكم، وسلامة نيتكم في خدمة الوطن العزيز، والمحافظة على حقوقه، والعمل على رفاهية أهله، ولهذا وكوننا جميعا نحب تقدم وطننا العزيز، فنلتمس من دولتكم قبول مسند رئاسة مجلس النظار، ونسترحم من دولتكم انتخاب نظار الدوواين ممن يكونون موصفين بالصفات الحسنة، والعرض عنهم للحضرة الفخيمة الخديوية للقيام بأعباء خدمة الوطن العزيز، وإعلانا لصداقتنا وانقيادنا لأوامر الحكومة التي تصدر في صالحها العمومي فقد أمضينا هذه العريضة، ونحن على يقين أن تقع لدى دولتكم موقع القبول أفندم».
وقدم كبراء البلاد وأعيانها التماسا إلى شريف باشا يقترب من عريضة الضباط في العبارة ويطابقها في المعنى، وغاياتهم إعلان ثقتهم بصداقته وميلهم جميعا إليه، وانعقاد قلوبهم عليه، وأنهم كافلون ضامنون ألا يقع في المستقبل شيء من الحوادث التي تنسب إلى رجال العسكرية، وواثقون من أمتهم ومن رجال العسكرية الذين هم أبناؤهم وإخوانهم بزوال كل خطر، وانقطاع جميع الأسباب التي توجب الخوف والاضطراب، ويسألون الله تعالى تأييد دولته وتوفيقه لإصلاح أحوال البلاد .
قبل شريف باشا تأليف الوزراة بعد أن حصل على العهود والمواثيق من ممثلي الجيش والشعب، فألفها في 14 سبتمبر سنة 1881، على النحو الآتي:
شريف باشا رئيسا للحكومة ووزيرا لـ«الداخلية»، والبارودي لـ«الحربية والبحرية»، وعلى حيدر لـ«المالية»، وإسماعيل باشا أيوب لـ«الأشغال»، ومصطفى باشا فهمي لـ«الخارجية»، ومحمد زكي باشا لـ«المعارف والأوقاف»، ومحمد قدري بك لـ«الحقانية».
وهذه الوزراة هي ثالثة الوزارات التي ألفها شريف باشا، وقد رفع إلى الخديوي توفيق كتابا يفيد بقبوله الوزراة،حدد فيه المبادئ العامة لبرنامج وزراته، متعهدا ببذل الجهد في «إزالة ما هو قائم من اضطراب ومنع وقوع نوازل كالتي ألمت بمصر في هذه الأيام». كما تعهد بالتزامه احترام نظام الرقابة الثنائية (التفتيش المالي)،وقد قصد بذلك ألا يستهدف معاداة الدول الأجنبية، خاصة بعد سقوط وزارة رياض باشا موضع ثقة تلك الدول.
رد توفيق على تعهدات شريف، بخطاب يعلنه فيه بموافقته على ما جاء في كتابه، ويطالبه فيه بإجراء إصلاحات إدراية وقضائية، وتوسيع دائرة المعارف ونطاق الأشغال العمومية والزراعة والتجارة وعقد ما يلزم من المعاهدات بشأن الجمارك والتجارة.
ابتهجت الأمة بتأليف وزارة شريف باشا واستبشرت خيرا بانبلاج عهد الحرية وزوال عهد الاسبتداد، وسرى شعور الفرح إلى كافة طبقات الشعب.
استقبال الأمة للحكومة الجديدة
المستشرق الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت يصف في كتابه «التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر» مظاهر الابتهاج في فئات الشعب المصري المختلفة ويقول:«جميع الأحزاب الوطنية وجميع سكان القاهرة اتحدوا لتحقيق الآمال القومية، ولم يكن الخديوي على ما ظهر أقل منهم شعورا بذلك، وكان قد سُر بعد انقضاء الأزمة لتخلصه من رياض والمراقبة الثنائية البغضية، وقد وثق توفيق بأن شريفا لابد أن يخلصه من العرابيين عاجلا أو آجلا، ثم إن رئيس الوزراء الجديد وزملاءه من وجهاء الأتراك الأحرار لم يكونوا كذلك أقل سرورا بعودة السيطرة إليهم، بل إن الأتراك الرجعيين أنفسهم قد سروا بما سموه انتصارا على أوروبا، ونجا العسكريون من كابوس الخطر الذي طالما هددهم، وارتاح المصلحون المدنيون للحريات التي اعتقدوا أنهم لابد حاصلون عليها، أما الذي شكوا وأساءوا الظن للنهاية، فقد اعترفوا بأن النتائج قد سوغت الالتجاء للقوة، وما كان لها من نصر لم تسفك فيه قطرة دم».
كان المسلك الذي سلكه عرابي في تلك الأثناء نحو الخديوي والوزراء الجدد مسلكا صحيحا ونبيلا، على حد قول مستر بلنت، «اجتمع عرابي عدة مرات بالخديوي، وكانت خطته ودية، كما أظهر لشريف باشا ومحمود سامي الذي عاد فتقلد وزراة الحربية، أنه وقد تم عمله ونالت البلاد حريتها يريد أن يتنحى جانبا ويترك أمر ترقيتها لأصدقائه المدنيين، وكل الخطب التي ألقها في ذلك العهد مشبعة بهذا المعنى الحكيم، وتنم عن تشبعه هو نفسه بأسمى الآراء الإنسانية التي كانت من مقومات عمله السياسي».
ويضيف بلنت: «لم يمض أسبوعان على تقلد وزراة شريف أزمة الحكم حتى صار عرابي في طليعة فرقته إلى رأس الوادي بين هتاف سكان العاصمة المعترفين له بالجميل».
كانت أولى مهام وزارة شريف هي «إعادة النظام إلى الجيش، فالثورة العرابية باعتبارها ثورة عسكرية قد أخرجت الجيش من مهمته الأصيلة، وهي حفظ النظام وجعلته أداة ساسية للسيطرة والحكم، وهنا موضع الخطر، إذ بذلك يختل النظام العسكري ويفقد الجيش روح النظام والقيام بالواجب، ويتسرب الانقسام إلى صفوفه ثم تقع الحكومة فريسة الفوضى، فبذل شريف جهده في الحيلولة بين الجيش والسياسة»، يقول الرافعي.
استقبل شريف بعد يومين من تكليفه عددا من كبار الضباط، وألقى عرابي بين يديه كلمة جاء فيها: «إننا نعلم واجباتنا والفروض التي تحتمها علينا وظائفنا العسكرية، وأعظمها حفظ البلاد ومن فيها، ولذلك فإننا نقر بأننا القوة المنفذة لما يصدر من الأوامر التي تكون إن شاء الله في خير وقاضية بإصلاح شئون البلاد».
اغتنم شريف الفرصة لينبه الضباط على واجبهم في إبعاد الجيش عن السياسة فقال: « في علمكم ما قاله الأقدمون: آفة الرياسة ضعف السياسة، ولا حكومة إلا بقوة، ولا قوة إلا بانقياد الجنود انقيادا تاما، وامتثالهم امتثالا مطلقا».
وأضاف: «كل حكومة عليها فرائض وواجبات، من أهمها صيانة الوطن وحفظ الأمن، وهذا وذاك لا يتأتيان إلا بطاعة رجالها العسكرية، فترددي في قبول الرئاسة ما كان إلا تجافيا عن تأسيس حكومة غير قوية تخيب بها الآمال ويزيد معها الإشكال، فأكون عرضة للملامة بين إخواني في الوطن.. وحيث أغاثتنا الألطاف الإلهية وحصل عندي اليقين بانقايدكم، فقد زال الاضطراب من القلوب، ورتبت الأمة الجديدة من رجال ذوي عفة واستقامة، فأوصيكم بملاحظة الدقة في الضبط والربط، لأنهما من أخص الشئون العسكرية وأساس قواها وأعرف أنكم مقلدون وظفية وطنية، فقوموا بأداء واجباتها الشريفة».
وكان عرابي بعيد النظر بانقياده هو ورفاقه إلى حكومة شريف المدنية، فقد كانت القوى الاستعمارية تخطط لاحتلال مصر بذريعة سيطرة الضباط على شئون الحكم.
استقبل شريف باشا بعد ذلك وفد الأعيان الذي قدم إليه عريضتين وقع على كل منهما 1500 من عمد البلاد وكبار الأهالي، تتضمن مطالب الأمة وعلى رأسها إنشاء مجلس النواب.
مطالب الأعيان التي عروضها على شريف باشا وقصة إنشاء أول مجلس نواب مصري له صلاحيات رقابية وتشريعية، وتراجع عرابي عن لعب أي دور سياسي خلال تلك الفترة نوردها في الحلقات المقبلة.
……………………………………………………………………………..
المراجع:
«الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» – عبد الرحمن الرافعي
«أحمد عرابي الزعيم المُفْتَرَى عليه» – محمود الخفيف
«التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر» – المستشرف الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت