في مقر المجلس الأوروبي بـ “ستراسبورج” نبدأ بالتعرف على “جورجيو روزا” وهو مهندس حديث التخرج لديه نزوع شديد نحو الابتكار ويعاني من حنين ممض لقصة حب قديمة انتهت بالفراق؛ فيحاول استعادة محبوبته؛ لكن محاولته الأولى تنتهي نهاية مأساوية بعد اعتقاله هو ومعشوقته التي صحبها لتوصيلها لمنزلها في سيارة اخترعها ليجتاز بها امتحانا أكاديميا.. وبالطبع لم يكن للسيارة الكرتونية أية أوراق ثبوتية.. وهي نفس السيارة التي سيستقلها “روزا” في رحلته الطويلة من “بولونيا” إلى “ستراسبورج” في مناخ شتوي بالغ القسوة!. لنعرف بعد ذلك أن “روزا” جاء بنفسه لتقديم طلب الاعتراف بدولته المستقلة التي أقامها على منصة تشبه منصات استخراج البترول لا تتجاوز مساحتها 400مترا، خارج المياه الإقليمية الإيطالية، أمام ساحل “ريميني” مسقط رأس” فيلليني” وهذه مفارقة ذات مدلول.
تتأزم الأمور بين “جورجيو” و”جابريلا” بعد أن عرَّض برعونته مستقبلها الأكاديمي للانهيار وهي تتطلع لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الدولي.
نكتشف أثناء التحقيق أن “روزا” قد تم استيقافه قبل ذلك بتهم عديدة تتعلق باستخدامه مخترعاته بطريقة تعرض حياته وحياة الآخرين للخطر.. كقيادته طائرة من ابتكاره دون الحصول من قبل السلطات على تصريح بالطيران.
مع تزايد إحباطات “روزا” وصدامه المتكرر مع الشرطة التي تحاول كبح جماح رغبته الدائمة في مخالفة القوانين، تأتيه فكرة بناء المنصة أثناء عمله في وظيفة بسيطة تابعة لشركة سباقات للدراجات النارية، عندما يشاهد إعلانا عن بناء المنصات الخاصة باستخراج البترول.
يسارع “روزا” إلى عرض الفكرة على صديقه ” موريزيو أورلانديني” الذي مَلَّ هو الآخر من العمل مع أبيه في شركة بناء السفن برغم أنه دائم الاختلاس لأموال الشركة، واتهام العاملين بالسرقة وتهديدهم بالطرد.
ويبدأ الصديقان في التجهيز لإنشاء المنصة، عبر مشاهد كوميدية نرى فيها “موريزيو” مرتديا ملابس الضفادع البشرية، محاولا اكتساب خبرة عملية بالتلصص على عمال يقومون بأعمال اللحام في منصة لاستخراج البترول، ثم آخر أكثر هزلا يشرح له فيه “روزا” كيفية التغلب على مشكلة نقل أعمدة الفولاذ إلى الموقع بجعلها مفرغة.
بعد الانتهاء من بناء المنصة تجتذب عدة عناصر متباينة من البشر، هم “بترو برانديني” وهو لحّام منبوذ كان يعيش على متن قارب لشهور وسيصبح أول سكان الجزيرة، يليه الألماني الهارب من التجنيد عديم الجنسية ” رودي نيومان” وستلحق بهما القاصر الحامل “فرانكا”. سيشكل هؤلاء فيما بعد الحكومة التي ستدير أمور الدولة الناشئة.. وليست هذه الأمور في الحقيقة سوى استقبال السائحين وتقديم المشروبات وإدارة أعمال الترفيه بكافة أشكالها بمعزل عن أية رقابة.. وفيما بعد تلقي رسائل كثيرة تحمل رغبات أصحابها في الحصول على جنسية الدولة الوليدة!. في المقابل تتلقى الحكومة الإيطالية عددا كبيرا من طلبات إسقاط الجنسية.
مع تطور الأمر تلجأ السلطات لعدة وسائل لإنهاء هذه المهزلة حتى لا تكون سابقة تغري بالتكرار، فتبدأ بإغراء “روزا” ثم تهديده ثم التصعيد بفصل والده من المصنع الذي يعمل به، وهي إشارة مبطنة لتسريح آلاف العمال بسبب التطور التكنولوجي الهائل الذي قلَّص فرص العمل في المصانع الإيطالية خاصة مصانع السيارات في “تورينو” كما تم إغراء الآخرين الذين استجابوا أولا ثم تراجعوا لينتهي الأمر باتخاذ السلطات قرارا بتفجير الجزيرة (المنصة) بعد إجلاء من عليها.. مع إضفاء مسحة من التفاؤل والأمل بعودة “جابريلا” لـ “روزا” وانضمامها للفريق في ساعة المواجهة، ومشهد التفجير مع عبارة “جابريلا” الختامية “المهم هو تغيير العالم” وإن بدت الجملة بلا سياق مقبول.
بهذا الفيلم يعود المخرج الإيطالي “سيدني سيبليا” إلى السينما مجددا عبر أفلام نتفليكس، وللمخرج الشهير سلسلة من الأفلام الجيدة بعنوان “يمكنني الإقلاع متى أردت” لكن “جزيرة الورد” الذي بدأ عرضه في الولايات المتحدة قرب منتصف الشهر الجاري- جاء مخيبا للآمال على أكثر من صعيد، من أهمها أن الفيلم جاء بلا شخصية واضحة، وإن كان الأقرب أن يصنف كفيلم كوميدي، على الرغم من أن القصة مستوحاة من قصة حقيقية ذات أبعاد متعددة ليس من جوانبها هذا “الهزل” الذي ظهر عليه الفيلم، كما جاء الحوار في مجمله فقيرا ما أضعف أداء الممثلين الرئيسيين في أهم المشاهد، وهذ ما اعترف به بطل الفيلم ” إليو جيرمانو” حينما ذكر أن ضعف كتابة شخصية البطل “جورجيو روزا” قد منعته من أداء الدور بشكل جيد. وأضاف “ليس من الواضح لماذا يجب على المشاهد إنشاء رابط عاطفي مع شخصية تبدو غبية بشكل غامض أكثر من كونها ذكية…”.
ربما لا تكون مصادفة أن المدينة التي بنى “روزا” منصته أمام سواحلها هي “ريميني” مسقط رأس المخرج العظيم “فيدريكو فلليني” خاصة وأن “سيدني سيبليا” مخرج الفيلم خالف أبسط القواعد حتى في اختيار الممثلين، فكيف يكون “إليو جيرمانو” ابن الأربعين شابا حديث التخرج، بينما “جابريلا” التي تُدرِّس في الجامعة، تقوم بدورها فتاة في الخامسة والعشرين “ماتيلدا دي أنجيليس” وهي تبدو بهيئة أصغر من ذلك.. ربما كان ذلك مبالغة في التوجه الهزلي الذي اعتمده “سيبليا”.
وبالرغم أنه من المعروف أن الفكرة التي حركت “روزا” في الحقيقة كانت تتعلق بحقن الإسمنت تحت الماء لعمل أساسات المنصات البحرية إلا أن ذلك لم يلفت نظر المخرج الذي رأى أن يكون تفريغ أعمدة الأساسات فكرة مستقلة كحل لمشكلة نقلها إلى الموقع، وهو ما اتبعه ببعض المشاهد الهزلية بدلا من رسم مشاهد توضح الصعوبات الحقيقية التي واجهت “روزا” في مرحلة الإعداد
ويبدو أن المخرج أراد أن يضيف بفيلمه حالة تذمر إضافية للذاكرة الإيطالية تتعلق بعام 1968، عام الاضطرابات الكبيرة في إيطاليا والعديد من دول العالم والذي شهد ثورات الشباب وإضرابات العمال على نطاق واسع في أمريكا وفرنسا وإيطاليا كما شهد القمع الوحشي الذي ارتكبته القوات السوفيتية تحت رايات حلف “وارسو” لثورة التشيك التي عُرفت بـ “ربيع براج”.
من الطريف أيضا أن الحكومة الإيطالية ادعت بعد ذلك أن المنطقة التي أنشأ فيها “روزا” المنصة تقع داخل نطاق امتياز شركة “إيني” الشهيرة للتنقيب عن البترول.. كما صرح ممثل اليمين الإيطالي أن المنصة بمثابة موطئ قدم لحلف وارسو، بينما اتهم آخرون “روزا” بأنه يعمل لحساب الدكتاتور الألباني “أنور خوجا”!.
في هذا العام العصيب الذي اسماه الإيطاليون “سيسانتوتو” وبه بدأت العشرية الدامية التي عُرفت فيما بعد بـ “سنوات الرصاص” عقب وقوع العديد من الأعمال الإرهابية التي نسب معظمها لمنظمة “الألوية الحمراء” وقد تسببت هذه الأحداث المؤسفة في وقوع المئات من الضحايا.. فمن المفترض إذن أن الأحداث الحقيقية للفيلم تدور في تلك الأجواء السابق ذكرها.. فكيف تسنى للسيد “سيبليا” غض الطرف عن كل ذلك ليصنع لنا فيلما يشبه أفلام الصيف المصرية في عقد السبعينيات.. من الممكن أن يرد على ذلك بأنه لا يجب تحميل الأمور بأكثر مما تحتمل، كما لا يجب فرض رؤية على المخرج تناقض رؤيته بالكلية لكن الحقيقة تقتضي القول أن بطل العمل نفسه له نفس الرأي حيث قال: “بدا الأمر عبثيا ودون جدوى، بينما كان الواقع بمثابة حرب من أجل التغيير”.
فقد حاول المخرج “سيبليا” –شارك في الكتابة أيضا مع الكاتبة “فرانشيسكا ماريني”- منذ البداية رسم شخصية “جورجيو روزا” لتبدو لنا مزيجا من الخيال المريض والاستهتار الشديد دون دوافع حقيقية أو توجه أيديولوجي؛ ربما ليشير من بعيد إلى عشوائية وحمق هذا الجيل الذي أشعل العالم بالحراك الطلابي والعمالي بعد سُبات عميق جاوز الربع قرن منذ وضعت الحرب الثانية أوزارها.. في إيطاليا تحديدا كان الحزب الديمقراطي المسيحي قد أمضى في السلطة نحوا من عشرين سنة تكلس خلالها كل شيء حتى صارت الحكومة الإيطالية –برغم الائتلاف مع بعض الأحزاب اليسارية- أشبه ما تكون بمجلس “كرادلة”.
لا يصح أن تنتهي هذه المراجعة دون الإشارة إلى أن “سيبليا” نجح في استدعاء روح نهاية الستينيات بشكل جيد من خلال الملابس والإكسسوار وكادرات التصوير والأثاث المنزلي وكذلك الأجهزة.. مع الموسيقى المتدفقة بحرفية شديدة للرائع “ميشيل براجا”.. كما تفوق بعض الممثلين في أداء أدوارهم خاصة “لوكا زينغاريتي” في دور “جيوفاني ليون” رئيس الحكومة، و” فابريزيو بنتيفوجليو” في دور ” فرانكو ريستيفو” وزير الداخلية، حيث قدما كوميديا حقيقية دون افتعال.. كما بدا “توم ويل شيها” مقنعا في دور الألماني “نيومان”.
لا يخفى على المتابعين أن هناك اتجاه قوي في “إيطاليا” يعمل على إزالة الأسطورة من خلال الزراية بها بأدوات عديدة منها الفنون؛ ومن خلال وصم كثير من الأحداث بالتفاهة والعشوائية.. من العسير إذن أن نستبعد أن يكون هذا الفيلم للمخرج الشاب “سيدني سيبليا” بمعزل عن ذلك المنحى العبثي؛ لأن الفيلم إذا قورن بالأعمال السابقة للمخرج سيبدو هشا جدا وضعيفا للغاية، وملفقا إلى حد النفاق.. وهذا هو التفسير الوحيد المقبول للقصة “المذهلة” التي لم تدهش أحدا عن جزيرة الورد “جمهورية الإسبيرانتو” الغارقة في الأدرياتيك.