فن

أحمد فؤاد سليم.. مرآة التشخيص حين تجلو البصائر

أحمد فؤاد سليم فنان لا نقف على حدود واضحة لمحيط إبداعه المتجدد، جذوته الفنية لا تخفت ولا تنطفئ.. يستطيع استيلاد الأداء المتفرد من أبسط الأدوار وأكثرها نمطية، وللأسف لم تتح له الفرصة كاملة؛ لتفجير طاقاته الإبداعية على النحو المأمول.

نحتفل مع هذا الفنان الحقيقي اليوم بعيد ميلاده الخامس والسبعين؛ راجين له ألا يتوقف عن إبهارنا بأدواره العميقة الهادئة، وألا ينحسر نهر عطائه في تعليم الأجيال الجديدة فنون الأداء، من خلال الورش التي يحرص على تنظيمها منذ فترة.

العشرون الأولى من العمر المديد، مرت في نعيمٍ وترفٍ وعدمِ انشغالٍ بما يجري من أحداث.. لكن فؤاد يستيقظ من هذا الحلم على وقع النكسة المزلزل؛ ليجد فؤاده يحترق بألم لا يحتمل.. وتساؤلات مُمِضّة عن أسباب السقوط بعد توهج الحلم لعقد ونصف.. يتبصر سليم سبيل الخلاص من هذه الحيرة المؤرقة بأن يكون جزءا من الإجابة؛ بدلا من الاكتفاء بالتحسر على حافة لُجّة سحيقة تموج بالأسئلة؛ فيكون قراره بالانضمام للقوات المسلحة؛ لخوض حرب التحرير واستعادة الكرامة.

أحمد فؤاد سليم

حدثته نفسه بأن سبيل النجاة لا يكون إلا بنهوض كل منا بنصيبه من المسئولية؛ سيهوِّن ذلك أمر الانكسار على الكل، لِتعبِّر هذه الجموع عن لوعتها بصورة مغايرة، لتذوب في أنشودة البقاء، فلا تنسحق تحت وطأة القهر.. قال: أرجئ ذاتك فإن الأحلام لا تتحقق في وطن ينزف.. إذا تراجعت أنت وأمثالك من شباب الوطن؛ فمن يرفو الجُرح؟

أحمد فؤاد سليم.. جندي مجند بقوات الدفاع الجوي يشارك ضمن وحدته في العمل في حائط الصواريخ الذي تعتمد عليه قواتنا في غلق الأجواء أمام الطيران الصهيوني بعمق عشرة كيلومترات.. على مدى عامين اختلطت فيهما دماء الجنود والعمال في فترة بناء القواعد على امتداد خط المواجهة.. عند اكتمال الأعمال أتت النتائج مبشِّرة على امتداد الأسبوع الأول من يوليو 1970، حيث استطاعت قواتنا إسقاط 24 طائرة من طرازي “فانتوم” و”سكاي هوك” وأسر ثلاثة طيارين.. من ينسى أسبوع سقوط الفانتوم الذي أحدث شرخا عميقا في جدار الثقة بجيش الدفاع في دويلة الكيان، ولدى أكثر الداعمين لها في أوروبا والولايات المتحدة.

ست سنوات كاملة بين الجنود في مواقع القتال، يتحقق النصر ويسترد المقاتل شارته المفقودة، ليخرج للحياة المدنية مطلع عام 1974، تحمل ذاكرته كل التفاصيل عن تلك الوجوه الحبيبة التي صنعت المعجزة بتضحيات هائلة.. لم يحمل فؤاد ملامح الشهداء في ذاكرته فقط، بل طبعها كالبصمة على جدار روحه، تلك التي تشكلت على نحو آخر يسمح بأن تستمر حيوات هؤلاء الأبطال في حياته وفنه وإبداعه؛ على نحو يتيح له استحضارهم، واستلهامهم بكل صدق ليمثلوا في حضور غير اعتيادي يليق بالمقام الرفيع.

أحمد فؤاد سليم

كانت القاهرة التي غادرها أواخر الستينيات، غير قاهرة منتصف السبعينيات التي استقبلته عائدا من الجبهة.. شيء ما يبعث على الأمل.. أشياءَ أخرى تشي بالوجل. بين النهايات والبدايات تغيب وجوه وتطفو أخرى؛ محاولةً التجمل حد الزيف في لهاث محموم لركوب الموجة الجديدة.

هذا منادٍ يتردد صوته في أبهاء الروح.. أن اعتصم بالفن، لا صدق دون معرفة متبصرة، فالتشخيص حالة فرز حقيقي تكشف عما هو أصيل فينا وتُعَرِّي التصنع والرداءة.. لا انفصال إذن بين الدور الرسالي للفن، وما يجب أن يكون عليه من تنوع وإبداع، ومقدرة على إعادة صياغة الأشياء وفق ما ينبغي أن تكون.. أو نحو ذلك، في رحلة نُشْدَان الخلاص.. لا بحثا عن مغنم.. فليس الهدف هنا تحقيق الذات من خلال الفن، بل تحقيق الفن لتبصُّر الذات، وهذا هو المعنى الذي طارده مبدعنا بدأب منذ اختارته الأقدار ليكون من “رجال الله” الذين تحل فيهم آيات القدرة، وتتجلى عليهم سيماء الإعجاز، وهو يكشف لنا عن ذلك طوال الوقت لنراه بوضوح، وقت أن تنداح الحجب.

سيذكر فؤاد سليم تلك الليلة، وستظل ماثلة في أذهان وقلوب من اختصوا بحضورها أثناء عرض “رجال الله” الذي جسّد فيه فؤاد، دور “أبي الحسن الشاذلي”.. في الإسكندرية في ساحة مسجد سيدي أبي العباس المرسي. حين بدأ العرض بعد العشاء بقليل.. كان الفنان ساعتها في رحاب مسجد أبي العباس قمن قبل صلاة المغرب.. يقضي الوقت في التبتل والدعاء والذكر.. ينتهي من صلاة العشاء ويخرج إلى العرض مباشرة.. يسقط حاجز الزمن عندما يُمثل “الشاذلي” من وراء الحجب باستدعاء كامل، رآه سليم رأي العين، فغاب مُفْسِحا لذلك الحضور الجليل مكانه.

أحمد فؤاد سليم

أما الناس فما استطاعوا صبرا، وقد تجلّى الشاذلي.. وما كان لهم أن يُفلتوا تلك اللحظة، فهُرعوا إليه يقبلون ما تصل إليه شفاههم من الوجه الشريف.. يتمسحون بردائه الذي شخُص فيه على وجه الحقيقة.. وينحسر الكشف رويدا بتلك الرهبة التي تستحضر الوعي، فيسمع “ويحك كاد الناس أن يفتتنوا” فينتبه.

ينهمك سليم يعد ذلك في عمل متواصل من خلال مسارح الدولة وما تيسَّر من أدوار قليلة في السينما والدراما التليفزيونية؛ ليجد أن خمسة عشر عاما كاملة قد انفرطت من سبحة العمر؛ لم تكن المحصلة لترضيه.. شعور ما بعدم الارتياح أحدثته حالة المراوحة تلك؛ وصلت به إلى اقتلاع الجذور، والسفر للعمل بالتدريس المسرحي في “بلاد الحرمين”.

تجربة جديدة تمتحنه بالبعد وبالقرب أيضا.. هو في جوار الحبيب مشرق الروح بأنواره العلية.. مثله لا يَمَلَّ ذلك الرِّي الذي يغمر النفس بالنعم.. لكنه منذور ليعطي لا لينهل ويذوق ويستنيم للدعة.

وتكون البشارة لـ”المهاجر” ليعود في الوقت تماما، أتى على قدرٍ، وقد شارف عامه الخمسين، مدركا أن حساب الزمن لا يكون بتلك السنوات التي تسرع بالتصرُّم.. فنلهث خلفها باللوعة والتحسر.. عاش لحظات كأنها الدهر، ومرت به أعوام كأنها لم تبرح، أما من كان مَقْصُوده استكناه الحقيقة فلا يلتفت لشيء من ذلك.

أحمد فؤاد سليم

الشيخ رياض في “مصير” يوسف شاهين يطرح علينا طوال الوقت تساؤلات تتعلق بمساحات الشر المهجورة في ذواتنا. كيف تزدهر بالتبرير وتتمدد بالغيّ والتضليل؛ حين تستلب العقول لحساب القداسة. يصارحنا الشيخ رياض بحقيقة صادمة عن مآلات الغرور التي تصل بالإنسان إلى التردي في مستنقع الخيانة. هل كانت نقمته على ابن رشد مبعثها قرب الأخير من الخليفة؟ أم لأنه كان وحيد زمانه في علوم عصره؟ أم لأنه كان يقف بآرائه وأفكاره حجر عثرة في طريق آمال الشيخ وطموحاته؟

من خلال التحريض على القتل، والزج بالشباب في أتون المحرقة دون وازع من ضمير، وتعريض البلاد للدمار، لا يحسم لنا فؤاد سليم أمر الشيخ رياض؛ لأنه يراه رغم تجبره أسيرا لنوازعه التي أتت في سياقها، كما أن ذلك القطع أداة أساسية في الصراع المشتعل مع مدرسة العقل. وهو ما يعني أن الشيخ رياض لو صادف بعض التشكك لأراح واستراح. وهو ما وصل إليه الفنان في ذروة أدائه في مشهد انكشاف خيانته أمام الخليفة المنصور.

رحلة أحمد فؤاد مع يوسف شاهين استمرت لسنوات منذ 1994، حتى آخر أعماله قبيل وفاته. ثمانية أفلام استطاع المخرج العالمي فيها أن يُفجِّر الطاقات الإبداعية لصاحب الموهبة الفذة للدرجة التي جعلته يُصرِّح ذات مرة دون مواربة: “سليم هو الوحيد الذي يعوض غياب المليجي”.

بإحساس مخالف ينطوي على الشراسة الناتجة عن الشعور بجرح الكرامة أطلّ علينا سليم من خلال شخصية عبد الظاهر ملك الصعيد وحاكمه في “الخواجة عبد القادر” في ثوب من الحيرة؛ فكيف له أن يفهم تلك العلاقة التي ربطت بين أخته والخواجة عبد القادر؟ لا يمكنه فهم تلك الآصرة، ومن يطلب منه ذلك يظلمه ويحمله ما لا يطيق.

لا يرى الفنان شخصية عبد الظاهر كشخصية شريرة يُغري المشاهدين بكراهيتها. بل يراها أقرب إلى نموذج الكبرياء المهدرة بغشم العاطفة، والانقياد بدوافع خفية نحو المجهول. ربما انطلق سليم في أدائه المبهر لـ “عبد الظاهر” من أن الإنسان عدو ما يجهل. لكن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.

في أكثر من عمل قدَّم سليم دور رجل الشرطة؛ لكنه في كل مرة كان يقدمه بطريقة مختلفة مستدعيا مخزون تفاصيل شخصيات تعامل معها خلال سنوات تجنيده، مع شاهين في “هي فوضى” يجسد شخصية مأمور القسم الذي لا يريد أن يسمع إلا “كله تمام” وأن العمل تحت إمرته يسير على أفضل ما يكون، دون الحاجة إلى الاستغراق في التفاصيل أو مناقشة حلول لما يطرأ من مشكلات.

أحمد فؤاد سليم

وبسبب هذا المسلك “يخرب بيت المهمل قبل بيت الظالم” كما في المثل الشعبي، ويدفع الوطن ثمن وصول مثل هذا الضابط إلى منصب قيادي. ضابط “أبو علي” يمنحنا قدراً من الأمل حينما يقف في مواجهة الضابط الفاسد في صف المواطن المقهور، أما في “عائلة ميكي” فنرى الضابط التقليدي، رب الأسرة الذي يهتم بالتفاصيل ويغفل أصول المشكلات، ما يؤدي إلى انهيار وشيك للأسرة. ثم بأداء مختلف تماما لدور مأمور السجن المحال إلى التقاعد في “سوق المتعة” يضيف فؤاد أبعادا أخرى للشخصية تقترب بها من حافة الكوميديا.

في دور الأب تبرز ثلاثة أعمال بالغة الروعة لـ “سليم”. والد الدكتورة “علا” في المسلسل الكوميدي “عايزة أتجوز” بأداء كوميدي مختلف يخلق الضحكات من المفارقة التي تنتج عن الشعور العام بالخوف الذي يعيشه جميع أفراد الأسرة بسبب اقتراب الابنة “الدكتورة الصيدلانية” من سن الثلاثين دون أن ترتبط مع وجود الصراع التقليدي بين الزوجة والحماة.

وفي مسلسل “المواطن إكس” الذي جسّد فيه دور والد الشاب الذي قُتل “سحلا” على يد مجموعة من ضباط الشرطة قبيل ثورة يناير؛ يقدم مشهدا أسطوريا حين يشاهد المقطع المصور لمقتل ابنه. وأخيرا تجسيده لدور والد الشهيد “المنسي” في مسلسل “الاختيار“.

يؤكد أحمد فؤاد سليم دائما أن فن التمثيل هو فن تجسيد الحقيقة، وكشف الزيف. ولذلك وبالرغم من أن مبدعنا شارك في نحو من مئة وخمسين عملا فنيا تنوعت بين المسرح والإذاعة والسينما والدراما التليفزيونية والتعليق الصوتي؛ إلا أنه ما زال قادرا على إبهارنا بما يشارك فيه من أعمال يستطيع من خلال مشاهد قليلة فيها أن يترك أثرا لا يُمحى بإبداع لا نظير له.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock