فن

موسيقى المهرجانات.. من النشأة إلى الانتشار 

لم يكن الفن يوما بعيدا عن واقعه الذى خرج منه ليعبر عنه من هنا فإن المقولة الشهيرة “الفن مرآة الشعوب ” تظل حاضرة بقوة عند تناول أى ظاهرة فنيه ويمثل تجاهل الظروف الموضوعية للحالة الفنية خللا لا يمكن إنكاره

فى سبعينيات القرن العشرين ظهرت موسيقى  الراب على أيدي الأمريكيين ذوى الأصول الإفريقية وهو نوع  من الموسيقى الغنائية السريعة يقوم مؤديها بترديد (وليس غناء) إيقاعي سريع لكلمات الأغنية المكونة من القوافي تعالج عدد المواضوعات والتي قد تكون شخصية أو اجتماعية أوعاطفية أوسياسية وغالبا ما تكون مثيرة للجدل ومتحررة إلى حد كبير فهناك جراة في استخدام أي لفظ بدون أي تحفظ. إن مؤدي الراب لا يغني كلمات الأغنية بل يرددها وجمال صوته يعد عاملا ثانويا

كما ظهرت موسيقى الجاز  وهى نوع من أنواع الموسيقى الراقصة، وهي من أصل زنجي أمريكي وموسيقى الجاز رغم أنها كانت بداياتها عن الزنوج الأمريكان، إلّا أنها اليوم واحدة من أهمّ أنواع الفنون والموسيقى، وقد نشأت في بداياتها في المجتمعات الإفريقية الأمريكية في مدينة نيو أورلينز في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ بدأت فرق الجاز بتقديم عروضها الموسيقية على القوارب البخارية أثناء السفر في نهر المسيسبي بغرض تسلية المسافرين

و تُشير بعض الروايات إلى أنّ موسيقى الجاز نشأت بعد اختلاط الموسيقى الأوربيّة بالألحان والإيقاعات المختلفة التي احتفظ بها الزنوج والأفارقة وتوارثوها عبر أجيالهم وكانوا يردّدونها أثناء عملهم كعبيد في حقول القطن وعملهم في ميدان الكونجو، وأصبحوا يُبرزون إيقاعات موسيقاهم بصنع الطبول الضخمة التي يُطلق عليها اسم تام تام أو بامبولاس، وبهذا اختلطت الألحان الإفريقية بالألحان الأوروبية والألحان التي كان تُردد في الكنيسة البروتستانية والكاثوليكية مع صرخات عذاب العبودية، بالإضافة إلى الروح المكتئبة لدى الزنوج، والتي تأثرت بالموسيقى الأوروبية والموسيقى الوثنية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت .

البدايات والمحيط الاجتماعى

السؤال الأهم وهو من أين تأتى الموسيقى .. ؟

بالقطع تأتى من حياة الناس وتعبيرا عنهم وتلبية لاحتياجاتهم النفسية والاجتماعية وعن ظاهرة ” أغنيات المهرجانات ” التى انتشرت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة لا يمكن أن يكون منصفا وموضوعيا دون تأصيل تلك الظاهرة اجتماعيا واقتصاديا بغض النظر عن موقفنا سواء بالرفض أو القبول لتلك الظاهرة الفنية التى تعتبر واحدة من حالات التمرد والخروج عن السائد والمألوف فى عالم الموسيقى المصرية

أول ظهور للمهرجانات

تذهب الدراسات أن أول أغنية مهرجانات في مصر ظهرت  في أواخر العام 2007، في منطقة شعبية “دار السلام”  حين قام “عمرو حاحا” بتلحين أول أغنية بمساعدة بعض أصدقائه ممن شاركوه في غنائها، وأبرزهم “السادات” و “فيفتي”، وسمّوا أغنيتهم “مهرجان السلام و تعتمد على الإيقاع السريع والرقص الاستعراضي الشعبي. ومن أشهر مَن يغني “المهرجانات” الآن  “أوكا” و “أورتيجا” و “المدفعجية”، و “اتحاد القمة”، و “فيجو”، و “فريق الأحلام”. وبدايات هذه النوعية من الأغاني كانت في الأحياء الشعبية الفقيرة في القاهرة، حيث ظهرت في الأفراح والمناسبات العامة كاستجابة للحاجة إلى إحياء حفلات رخيصة التكلفة. وبالرغم من تلك البدايات إلا أن أغاني “المهرجانات” امتدت خلال السنوات الأربع الأخيرة إلى مناسبات الطبقات الغنية واحتفالات الفنادق الشهيرة، بل وصلت إلى العالمية وعرفتهم مسارح أوروبا والولايات المتحدة الأميركية

وليست صدفة أن يكون انطلاق ذلك النوع من الموسيقى التى صارت ظاهرة تثير الجدل بقوة فى منطقة شعبية – دار السلام – وسرعان انتشرت فى كل الناطق – العشوائية – ثم تحولت إلى ظاهرة مجتمعية يرددها شباب ذوى انتماءات طبقية وخلفيات ثقافية متعددة .

في 2008 و بعد حادث سقوط صخرة الدويقة على سكان الحي الذى كان حدثا كاشفا لحجم الكارثة التى يعشيها سكان المناطق – العشوائية – جاء هذا الحدث الجلل ليؤكد ما حذر منه  الجهاز المركزى للتعبئة و الاحصاء عام 2004 حين أعلن أن 12 مليون مصرى بلا مأوى و هذا الذى جعلهم يعيشون فى المقابر و فى العشش و الجراجات

تم تأسيس صندوق تطوير العشوائيات بقرار رئاسي ليتبع الصندوق مجلس الوزراء، وتم تقسيم المناطق العشوائية إلى ثلاثة تصنيفات: مناطق خطرة وغير آمنة (وداخل هذا التصنيف تنقسم المناطق الخطرة إلى أربع درجات من الخطورة)، ومناطق غير مخططة، ومناطق غير صحية. وقد وصل عدد سكان العشوائيات إلى 15 مليون نسمة في 2008  أي أنهم 40 في المئة من سكان المدن. وتحتل محافظة الإسكندرية المركز الأول من حيث انتشار العشوائيات، حيث بلغت مساحة المناطق العشوائية فيها 20.1 ألف فدان بنسبة 12.5 في المئة من إجمالي مساحتها

وغالبية محافظات مصر تضم مناطق عشوائية بلغ عددها 24 منطقة مهددة لحياة الإنسان –خطورة من الدرجة الأولى – بينما بلغت المناطق غير الآمنة 247 منطقة – خطورة من الدرجة الثانية –  بينما بلغ عدد المناطق ذات الخطورة من الدرجة الثالثة 60 منطقة وتوجد 16 منطقة – خطورة من الدرجة الرابعة  –

-و عدد المدن التى تحتوى على مناطق عشوائية 226 مدينة مصرية من أصل 234 مدينة، أي أنه لا يوجد سوى 8 مدن خالية من العشوائيات وهنا علينا تحديد معنى ودلالة مصطلح المناطق العشوائية

ومن الناحية القانونية والسياسية هي مناطق مخالفة (غير مرخصة بالبناء) أو على أساس اقتصادي (غير رسمي ) ومن الناحية العمرانية و الاجتماعية هى عمليات البناء التي تتم خارج إطار الدولة ومؤسساتها

وتعتمد الدراسات على تعريف المناطق العشوائية بالمناطق المحرومة من الخدمة أو المناطق ذات النسيج العمراني غير المتجانس والتي تتكون من إسكان غير مرخص في مناطق محرومة من المرافق العامة والخدمات الأساسية

هذا هو الواقع السكانى والإقتصادي لمصر قبيل ظهور أغنيات المهرجانات فى ذلك الحين فملايين البشر من سكان العشوائيات كانوا صناع هذا النوع من الموسيقى وجمهوره فكيف إذن نندهش من انتشاره بتلك السرعة وذلك القدر خاصة أنه تمكن من جذب جمهور واسع من أبناء الطبقة الأرسقراطية التى وجدت فيه نوعا مغايرا من الموسيقى مع احتفاظهم بذوقهم التقليدى فى الموسيقى الغربية والإستمتاع بمغنييم المفضلين وكلماتهم الرومانسية – التقليدية الساذجة  . –

بين الأغنية الشعبية والمهرجانات

فى بدايات الألفية كانت الموسيقى  المصرية تتجه نجو مزيد من الاهتمام بسكان الساحل الشمالى والقاهرة الجديدة وأهل مدينتى والرحاب وغيرها من المناطق التى نزح إليها أغنياء العصر وقليل من الطبقة المتوسطة التى تربطها علاقات ومصالح بهؤلاء الأثرياء نزحوا هربا من زحام القاهرة وانتشار المناطق العشوائية وما تحمله من ثقافة وسلوك يومي لا يناسبهم

وكان المصريون  قد عرفوا الأغنية الشعبية منذ منيرة المهدية و محمد عبد المطلب ومحمد العزبى ومحمد رشدى حتى حسن الأسمر مرروا بأحمد عدوية الذى كان تعبيرا عن مرحلة وعن طبقة جديدة سُميت أثرياء الانفتاح وكان عدوية لسنوات طويلة هو المعادل الموضوعي لتراجع الذوق العام

ووصل حال الغناء الشعبي مؤخرا إلى سعد الصغير وأمينة ومحمود الليثى – رغم امتلاك بعضهم أصوات جيدة – لكنهم استهدفوا جمهور هجرته الأغنية الرسمية أو التقليدية وانشغل معظم صناعها بجمهور معظمه من الأثرياء كان صناع الموسيقى حينذاك  يتسابقون لإقامة حفلاتهم على شواطئ المتوسط صيفا وفى أحضان البحر الأحمرخريفا ولم يبق مع توقف حفلات أضواء المدينة سوى عروض دار الأوبرا المصرية وهى بالطبع غير متاحة للجميع

سعد الصغير ومحمود الليثي
سعد الصغير ومحمود الليثي

وهنا يظهر نوع جديد من الموسيقى يجعل من أحمد عدوية فنانا كلاسيكيا ومطربا شعبيا تقليديا فى نظرهم

وتزامنا مع الثورة التكنولوجية الهائلة التى صاحبت ثورات الربيع العربى وكانت أحد أدواتها الفاعلة فى الحراك الشعبى انطلق هذا النوع من الموسيقى بيزداد انتشارا وسط حالة الارتباك العام التى ترتبط بالأحداث الكبرى مثل الثورات الشعبية والكوارث الطبيعية والحروب وغيرها

ويتمكن هذا النوع من الموسيقى من الانتشار هو الذى يشبه “الراب ” لكنه يستخدم إيقاع المقسوم ويغني كلمات من حياة هؤلاء  – المؤدين – الذين لا يمتلك معظمهم أصوات جميلة أو حتى صالحة للغناء بمعاييره السائدة  ويرددون مفردات بها  بعض من الخروج عن الذوق العام كما يرى – المحافظون – ورغم صحة تلك التحفظات إلا أن دوافعهم ليست دائما هى الحفاظ على الذوق العام

وحول دوافع الهجوم القاسي والذى وصل إلى ساحات القضاء وتهديد بعض “المهرجانيون” بالسجن وتَشدد نقابة الموسيقيين والتحريض الإعلامى الدائم  من جانب المحافظون على الذوق العام

وأعتقد أن الدوافع لدي بعض صقور الرفض لهؤلاء الشباب وذلك النوع من الموسقي كان محركه إلى حد كبير هو  ازدراء طبقي واستعلاء مجتعمي تجاههم وتجاه المناطق التى أفرزت هذا النوع ومن ثم عدم الاعتراف بأى مصنف فنى لا يخرج من عبائتهم أن ينل رضاهم واعتمادهم الرسمي وكل ذلك بدعوى حماية الذوق العام دون تحديد واضح لمحددات الذوق العام من وجهة نظرهم وهل لديهم قاموس ثابت بمثابة مرجعية لهذا التوصيف الفضفاض والمعايير السائلة ؟

من هم ؟

فى عام  2014 ظهر فيلم جديد بعنوان ” المهرجان ” للمخرج حسام الجوهري حاول مخرج  الفيلم الاقتراب من عالم أغانى المهرجانات الشعبية و بدايتها و انتشارها و تطورها وشارك فى  البطولة كلا من السادات و فيفتى و قام ممثل بدور عمرو حاحا هذا الفيلم لم يكن فيلما سينمائيا بالمعنى المتعارف عليه و لكنه مجرد فيلم تعريفى للمجتمع بأغانى المهرجانات و بدايتهم و ظروفهم و هذا الفيلم أشير فيه أنه مبنى على قصص حقيقية لحياة السادات وفيفتي

كان دور السادات فى الفيلم أنه بائع مخدرات صغير فى منطقته ومطارد دائما من الشرطة و بالتالى عانى من عدم وجود استقرار مادى و كان فيفتى شاب يقوم بدور النبطشي فى الافراح و بالتالى كان ذلك غير مقبول على الإطلاق من قبل أسرته حيث أنها لم تعد مهنة محترمة مستقرة يستطيع أن يجلب منها مال بشكل ثابت و دورى  أما عمرو حاحا كان يظهر فى الفيلم أنه الأعلى إلى حد ما منهما فى المستوى الاجتماعى حيث أنه كان يستخدم الكمبيوتر و يقوم بتنزيل رنات للتليفون المحمول و يأخذ ممن يطلب هذه الأغانى مقابل مادى , كما أن ذكاؤه أتاح له القدرة على اختراق الحساب الشخصى لبعض الأفراد و الحصول على الأموال من خلال الإنترنت إذا أراد منه أحد فعل ذلك و يتقاضى مقابل ما يقوم به أجر

ولم ينكر ” السادات “ أنه قام بأعمال غير مشروعة قبل تأديته أغانى المهرجانات إلى جانب بعض المهن الأخرى حيث إنه عمل ” كسباك ” لوقت من الأوقات وهو حاصل دبلوم صنايع مما جعله  ناقم على النظام التعليمى حيث أنه يرى أنه لم ينفعه فى أى شئ و يشعر أن وقته قد ضاع هباءً. أما أورتيجا ترك تعليمه منذ الصف الثانى الإعدادى و اتجه إلى كرة القدم حيث لعب فى ناشئين نادى أنبى و كان ذلك قبل أن يتعرف على أوكا الذى لم يكمل تعليمه هو الآخر و قاموا بعد ذلك بنشر أغانى المهرجانات الشعبية

ليس من الصواب التعامل مع ظاهرة “موسيقى المهرجانات ” بمعزل عن ظروف نشأتها الموضوعية والعوامل الاجتماعية والسياسية التى هيأت لظهور مثل هذا الشكل من الغناء الذى هو قطعا خارج عن السائد والمتعارف عليه من غناء .

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker