منذ أن نشأت جماعة الإخوان المسلمين وحتى الآن وهي قادرة على إثارة الجدل على عدة مستويات وبشأن العديد من الموضوعات والقضايا، ومن بين هذه القضايا هي قضية التغيير ومنهجيته عند الجماعة؛ ففي حين يتم اتهامها من الكثيرين على طول تاريخها بأنها هي من أسّسَت للعنف ومارسته منذ نشأتها، فإنها تدفع عن نفسها دومًا هذه التهمة بكل قوة وتأكيد، وتدّعي دائمًا أنها جماعة إصلاحية تنتهج العمل السياسي بُغية الإصلاح وأن العنف ليس من منهجها، وأن مفهوم القوة لديها يتعلق بالعدو الخارجي والذي قاومته سابقًا في مصر زمن الاحتلال وفي فلسطين أثناء الحرب مع اليهود، وأن النظام الخاص الذي أنشأه البنا لم يكن يتعدى حدود هذا الدور.
وعلى ذلك يكون السؤال هو: هل منهج البنا وجماعة الإخوان في التغيير يعتمد على التدرج وإصلاح المجتمع بالطرق السلمية المشروعة، أم أنه يعتمد القوة كخيار أساسي يتم استخدامه وفق شروط وضوابط وفي أوقات معينة؟
وننطلق هنا من فرضية مفادها أن منهج البنا في التغيير يضع القوة كخيار رئيسي يتم اللجوء إليها في توقيت محدد وتحت ظروف معينة من أجل تحقيق أهداف الجماعة التي قامت من أجلها، وأن هذا المنهج لازال هو الحاكم للجماعة حتى اليوم.
وسوف نحاول من خلال هذا المقال التعرف على منهج التغيير كما صاغه البنا، وعلى دور القوة فيه، ثم التعرف على كيفية استخدام القوة في الواقع في زمن البنا، ثم أخيرًا على استمرارية تأثير هذا المنهج حتى اليوم على ممارسات الجماعة، وذلك من خلال ثلاث محاور رئيسية:
أولًا: منهج التغيير عند البنا:
المنهج لغةً يعني طريق واضح، ووسيلة محددة توّصل إلى غاية معينة، والمقصود بمنهج التغيير عند البنا تلك الوسائل التي يتم الانتقال بها من مربع الأفكار إلى مربع الواقع، أو التي يتم بها تنفيذ الخطط والأهداف وتحقيقها عمليًا، وقد حدد البنا هدفًا رئيسيًا وهو إقامة دولة إسلامية على كامل الوطن الإسلامي تُحكم بالشريعة، وفي سبيل ذلك وضع خطة تتكون من سبع خطوات عملية تؤدي إلى ذلك الهدف، وهي إعداد: الفرد المسلم، الأسرة المسلمة، المجتمع المسلم، الحكومة المسلمة، تحرير الأوطان، الخلافة الإسلامية، ثم أستاذية العالم.
وقد قام البنا بتحديد ثلاث مراحل رئيسية يتم من خلالها تنفيذ تلك الخطوات، وهي:
1- مرحلة التعريف: وتعني نشر فكر ودعوة الإخوان المسلمين في المجتمع وتعريف الناس بها من خلال العديد من الأنشطة العامة كالرحلات واللقاءات الرياضية وحلقات التلاوة والاعتكاف وإصدار الصحف وتوزيع الكتيبات والمطبوعات المختلفة وغيرها من الوسائل، والتي تستهدف من خلالها اختيار العناصر الصالحة التي تصلح أن تكون نواةً للجماعة.
2- مرحلة التكوين: وتعني تربية خاصة وإعداد معين يُمكّن الجماعة من القيام بدورها التي رسمته لنفسها وتحقيق أهدافها التي وضعتها، وذلك على عكس ما يفسره البعض من أن مرحلة التكوين المقصود بها اختيار العناصر الصالحة وضمها إلى الجماعة، فهذه المرحلة ليست كذلك ولكنها مرحلة التكوين الدقيق باختيار عناصر تتميز بصفات مختلفة عن عموم الإخوان حيث يتم تربيتها وإعدادها بشكل مختلف وتكون كما قال البنا “باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة في هذه المرحلة صوفي بحت من الناحية الروحية، عسكري بحت من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين دائمًا أمر وطاعة من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج”(1).
3- مرحلة التنفيذ: وهي كما عبر عنها البنا بأنها “الخطوة العملية التي تظهر بعدها الثمار الكاملة لدعوة الإخوان المسلمين”(2)، كما وصف البنا هذه المرحلة الأشد أهمية في مراحل عمل الجماعة بأنها “والدعوة في هذه المرحلة جهاد لا هوادة معه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء ولا يصبر عليه إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا كما الطاعة”(3).
وقد حدد البنا لكل مرحلة من المراحل السابقة مدة عشر سنوات فقد “أعلن في عام 1938 الانتقال من مرحلة التعريف إلى مرحلة التكوين، ثم بعد مرور ما يقرب من عشر سنوات أخرى، أي خلال عامي ( 1947 / 1948 ) كَثُر حديثه عن المرحلة الثالثة وهي مرحلة التنفيذ إما بالتلميح أو بالتصريح”(4).
ومن الملاحظ على منهج التغيير الذي صاغه البنا أنه كان واضحًا في ذهنه منذ بداية التأسيس بدرجة كبيرة، إلا أنه لم يكن يفصح عن تفاصيله إلا حين يكون الوقت مناسبًا ومهيئًا لذلك؛ ويرجع ذلك إلى سببين؛ الأول هو تفرّد البنا بمهمة التفكير والتخطيط للجماعة وتربية أفراد الجماعة على أن يكونوا تابعين منفذين فقط، والثاني هو أن البنا كان يجمع بين مهمتي الفكر والحركة، فهو يصيغ الأفكار ويضع الأهداف ويقوم بتطبيق هذه الأفكار على أرض الواقع بهدف تغييره وتحقيق الأهداف التي وضعها، ومن ثم فإنه يتحرك بخطوات محسوبة تفاديًا للعقبات وتجنبًا للصدام دون استعداد، فكان يتحين الفرص وعندما يجد أن اللحظة مواتيةً للانتقال من مرحلة إلى مرحلة ومناسبة للإعلان عن ذلك التحول فإنه يقوم بالإفصاح عن ذلك، وقد أدى هذا المسلك إلى حالة من التيه أصابت الجماعة بعد موته المفاجئ حيث لم يكونوا مدركين للخطوة التالية ومعالمها وتفاصيلها، وهو بذلك يختلف عن المفكر الذي يقتصر دوره على التنظير وطرح الأفكار ومن ثم يقوم بطرح مشروعه الفكري بوضوح وبشكل متكامل على مدى زمني تكتمل فيه الرؤية لديه دون أن يجد عائقًا في ذلك.
وهنا يُثار سؤالين رئيسيين:
الأول: هل منهج التغيير عند البنا متدرج؟
والثاني: هل استخدام القوة عنصر رئيسي في هذا المنهج؟
بخصوص السؤال الأول؛ فإنه تبدو تلك المراحل أو الخطوات السبع التي وضعها البنا كأهداف مرحلية للوصول للهدف الرئيسي والتي ذكرناها آنفًا وكأنها تسير بشكل متدرج يسبق بعضها بعضًا، ويترتب بعضها على بعض؛ لكن المتأمل لممارسات الجماعة وتحركاتها على الأرض يجد أن الخطوات الخمس الأولى كانت تسير بشكل متوازٍ خاصة في السنوات العشر التالية للتأسيس، ففي حين كان النشاط الدعوي والتعريفي للجماعة يزداد يومًا بعد يوم ويتنشر انتشار النار في الهشيم حتى بلغ كامل القطر المصري وتخطاه إلى بعض الدول الأخرى التي تكونت بها شعب للإخوان المسلمين، كان في ذات الوقت يتم اختيار العناصر وضمها إلى الجماعة وتربيتها داخل المحاضن التربوية، كما كان يتم اختيار العناصر الأكثر خصوصية وتربيتها وتدريبها بشكل خاص في صورة فرق الجوالة، وكان يتم التوسع في ممارسة العمل السياسي والمشاركة في الشأن العام بكل جوانبه؛ فقد شارك الإخوان في الانتخابات النيابية مرتين في عام 1942 والتي ترشح فيها البنا وعضو آخر في الجماعة والتي تنازل فيها البنا عن الترشح بعد ذلك مقابل اتفاق مع الحكومة يكفل بعض الامتيازات للجماعة، والثانية في عام 1944 والتي تم إسقاط مرشحي الجماعة بها، وقد كانت هناك نية للمشاركة في انتخابات عام 1950 والتي قررت الهيئة التأسيسية للجماعة في اجتماع في عام 1948 المشاركة فيها، لكن لم تتم بسبب ما وقع من أحداث بعد ذلك قُتل خلالها البنا وتم حل الجماعة، كما تقدمت الجماعة في نفس الإطار الزمني بالكثير من المراسلات والمقترحات للملك والحكومة تطالبهم فيها بالإصلاح على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وذلك كبرنامج الإصلاح الذي تقدم به البنا لحكومة النحاس عام 1936 يتضمن خمسون اقتراحًا في عدة مجالات، وكذلك البرنامج الإصلاحي الذي قدمه للنحاس عام 1937 وتضمن تسع بنود مقترحة خاصة بإصلاح التشريع والتعليم والجيش، وفي الوقت ذاته كانت الجماعة تشارك فيما كانت تهدف إليه من تحرير الأوطان بالمشاركة في مقاومة الاستعمار الإنجليزي، وحرب فلسطين، كما كانت أيضًا تقوم بتكوين جهاز عسكريٍ سريٍ وهو التنظيم الخاص، كل هذه الأنشطة كانت تمثل الخطوات التي وضعها البنا كمنهج للتغير كانت تتم في ذات الوقت، وقد عبر البنا عن ذلك بقوله “وكثيرًا ما تسير هذه المراحل الثلاث – التعريف والتكوين والتنفيذ – جنبًا إلى جنب نظرًا لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينهم جميعًا”(5).
المراجع:
(1) حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، رسالة التعاليم، ص 378
(2) المصدر السابق، ص 175
(3) المصدر السابق، ص 378
(4) إبراهيم البيومي غانم،الفكر السياسي للإمام حسن البنا، ص 317
(5) حسن البنا، مجموعة الرسائل، رسالة المؤتمر الخامس، ص 175