«هذا الكتاب يسعى لسحب البساط من تحت قدمي المؤلف ويقدمه هدية –غير مستحقة- للممثل» .. هكذا همس نعمان عاشور لأصدقائه وحوارييه معلنا عن احتجاجه على صدور الطبعة الأولى من كتاب «الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري» لمؤرخ فن المسرح المصري الدكتور علي الراعي الذي قاد الحركة المسرحية المصرية بأزهى حقبها خلال توليه مسئولية مؤسسة المسرح بالفترة ما بين عامي 1959 وعام 1967.
شارك نعمان عاشور في احتجاجه على الكتاب كلا من توفيق الحكيم والدكتور لويس عوض وعدد غير قليل من المهتمين بفن المسرح وقلائل هم من رأوا في الكتاب محاولة لإفساح المجال أمام الفن المسرحي كي يفرج عن الطاقات الحبيسة للممثل ودفعه نحو التعلم وإتقان وسائل أخرى للتعبير غير الأداء باللفظ والصوت، وسائل مثل الأداء بالجسد كله إلى جانب المشاركة الفعالة في بناء النص المسرحي نفسه وذلك عبر عقد جلسات جماعية يشارك فيها فريق التمثيل والمخرج والكاتب المسرحي ذاته.
لم يقتصر كتاب «الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري» لراعي فن المسرح الدكتور علي الراعي على طرح قضية دور الارتجال في بناء النص المسرحي وإنما سعى إضافة لذلك إلى إعطاء فناني الارتجال القدامى حقهم الذي طال إنكاره لما قدموه من دور عميق في تأسيس فن الكوميديا في مصر والتي انتقل بفضلها المسرح المصري من مرحلة التعبير عن طريق الدمى وخيال الظل إلى مرحلة المسرح المصري المكتوب كما عهدناه.
من القراقوز والدمى إلى التمثيل بالبشر
استهل دكتور علي الراعي تناوله لفن الارتجال وطبيعة الدور الذي قام به كمرحلة انتقالية نحو التأسيس لفن المسرح المكتوب بالإشارة إلى ذلك الدور الذي لعبه فنان الارتجال السوري «جورج دخول» بوصفه أول من حول مشاهد «القراقوز» إلى التمثيل بالبشر وهو ما أثر بشكل مباشر في التأليف الكوميدي الشعبي منه والرسمي على حد سواء، وقد طال هذا التأثير كوميديا نجيب الريحاني وعلي الكسار كما أثر على كوميديا إبراهيم رمزي ومحمد تيمور وتوفيق الحكيم ذاته الذي شارك في نقد كتاب «الكوميديا المرتجلة».
اسشتهد الراعي بكتاب «سندباد مصري» للدكتور حسين فوزي الذي وثق فيها أحد عروض المخايل المصري التي تم فيها تجسيد تلك الواقعة التي ظفر فيها السفاح التركي سليم شاه بطوبان باي بعد أن أمر بشنقه على باب زويلة .. «على الشاشة تصاوير من الورق، تمثل رحبة باب زويلة، تحيط بها جنود غرباء، يخرج من البوابة رجل يركب أكديشا وربما جملًا، وينزل مرفوع الرأس، طويل اللحية .. يتسلمه المشاعلية ويضعون الحبل في عنقه، ثم يشدون الحبل فينقطع مرة، فيعاود المشاعلية وضعه حول عنق طومان باي، وينقطع الحبل مرة ثانية، وفي المرة الثالثة يتدلى الرجل وتستدير لحيته إلى أعلى، وتلعب ساقاه في الهواء برهة، ثم تسكن حركته» .. استعرض الراعي ذاك المشهد من هذا العرض ليدلل على أن فن الارتجال قد قام على انتهاز كافة أحداث الواقع الاجتماعي لتصبح على الفور موضوعا له.
الجمهور شريك أصيل بفن الارتجال
يورد يعقوب صنوع في وصف طبيعة العلاقة بين مسرحه وجمهور هذا المسرح العديد من الأحداث المفاجئة التي كانت تدعو للضحك أحيانا وتبث روح اليأس بأهل المسرح بأحيان أخرى وكيف كان الجمهور يتمسك بضرورة تضمين تلك الأحداث على اختلافها بالعرض المسرحي في لياليه التالية.
من تلك الأحداث الضاحكة البائسة في آن واحد أن يغيب ملقن العرض المسرحي بإحدى ليالي العرض ما جعل صنوع أن يعهد بمهمة التلقين لأحد الممثلين الغير متخصصين بمجال التلقين، ومن ثم أخذ الممثل/الملقن يتابع الممثل الواقف على خشبة المسرح فيما يقول بدلا من أن يسبقه في التلقين وحين زجر صنوع الممثل/الملقن فما كان منه إلا أن توجه بالخطاب للممثل على خشبة المسرح قائلا: «لماذا تلقي دورك مسرعا هكذا؟ إن العجلة من الشيطان، دعني ألقنك أولا، ثم تردد ما أقول بعد ذلك» .. ضج الجمهور بالضحك وأخرج صنوع الممثل/الملقن من المسرح، فما لبث أن عاد ملقيا بنسخة المسرحية بوجه الممثل على خشبة المسرح ومن ثم نشب شجار بين الممثل والملقن فتدخل صنوع لفض المشاجرة .. كل تلك الأحداث وسط ضحك وضجيج الجمهور الذي ازداد إعجابه بالمسرحية وطالب باستعادتها بليالي العرض التالية بوصفها باتت أحداث متضمنة بصميم العرض المسرحي وأحد أسرار نجاحه.
بتلك الروح التي توافق فيها الجمهور وفناني المسرح تطور فن الارتجال المسرحي فيعقوب صنوع الذي درس المسرح بأوروبا والذي وصف تلك الحادثة بأنها إذا ما كانت قد وقعت بأحد مسارح أوروبا لباتت فضيحة لصناع العمل المسرحي ومع ذلك لم يأنف صنوع عن أن يضم الواقعة المؤسفة المضحكة بنسيج عمله المسرحي استجابة لرغبة جمهوره الذي تعامل معه بوصفه شريك أصيل في تأسيس مسرحه.
يختتم صنوع حديثه عن مفأجات العروض المسرحية بالإشارة إلى أنه كان هناك دائما من المتفرجين من يخاطبون الممثل أو الممثلة على المسرح، «سنرى إذا كنت ستدعه يخطف حبيبتك .. إنك تخطئين في تفضيل هذا العايق المغفل على ذلك الشاب الغني العاقل الذي يموت في غرامك» .. كان صنوع من مكمنه بالكواليس يلقن الممثلين ردودهم وأحيانا ما كان يطول الجدل وتجاذب أطراف الحديث بين منصة المسرح والجمهور ومع نهاية كل عرض مسرحي كان الجمهور يستدعي صنوع الذي كان لابد له من أن يختتم الليلة بأشياء مضحكة وجديدة.
عناصر مسرح الارتجال وتقاليده
على خشبة مسرح يعقوب صنوع الذي أغلق عام 1872 نبتت بذور مسرح الارتجال وأصبحت عناصره تتشكل من نص مسرحي مكتوب قابل دائما وأبدا للتغيير والتطوير وممثلون على الخشبة مهيئون نفسيا لتقبل أي تغيير طارىء ومؤلف مرن مستعد للكمون خلف الكواليس ومؤهب للتفاعل مع تعليقات جمهور عرضه، ذاك الجمهور اليقظ الذي يعي أن دوره ليس السكون وتلقي ما يطرح عليه دون جدال بل إن دوره اليقظة والمشاركة في الجدل الدائر على خشبة المسرح.
القدرة الذكية على التقاط الحادث الاجتماعي الذي يشغل الرأى العام تعد من عناصر مسرح الارتجال الناجحة حيث تجذب تلك الأحداث جمهور العرض ومن ثم يتم تحويل جزء من اهتمام الجمهور من مجريات الحدث ذاته إلى مجريات العرض المسرحي.
الفنان «محمد سلامة» الشهير «بسلامة القط» يعد أحد فناني الارتجال المشهود لهم بخفة الدم والصنعة، كان سلامة يقدم عروضة على مسرحين شعبيين بحي السيدة زينب هما «دار السلام» و«الكلوب المصري» .. ظل سلامة لأكثر من عشر سنوات يقدم فاصله المسرحي المضحك في أعقاب المسرحية الأدبية الجادة، كانت مسرحياته تقوم على شخصيات ثابتة هى «الملك والوزير والسياف والخادم جمعة» حيث يقوم سلامة بدور الخادم.
أحداث مسرحيات سلامة القط كانت تقوم على المفارقة ما بين عالم الخادم جمعة واحتياجاته التي قد تبدو تافهة في مقابل عالم الملك وترفعه عن هموم الخادم البسيطة، وكان الضحك ينبع من تلك المفارقة التي يصر فيها الخادم على جعل الملك يترك عليا مكانته ليبحث في عالم هموم الخادم من جهة وعلى أن الملوك ليسوا فوق مستوى شبهات الوقوع في براثن السرقات حتى التافة منها كسرقة قميص الخادم.
من تقاليد مسرح الارتجال التقط كل من الفنان السوري جورج دخول ومصطفى عزام وأحمد المسيري وعلي الكسار فكرة الشخصية الفكاهية التي يعتمد مصدر الضحك فيها على عرض لهجتها الغريبة وأحوالها غير المألوفة بالقياس لحياة المتفرج المصري العادي، التقط جورج دخول اللهجة السورية واعتمد عليها كواحد من مصادر الضحك في مسرحه الارتجالي، أما عزام والمسيري والكسار فكانوا يقدمون شخصية البربري.
لم يقتصر مسرح الارتجال على النص المرن القابل للتغيير فقط وإنما اعتمد كذلك على المسرح البسيط الخالي من التعقيدات ركيزته الأساسية تقوم على الإيحاء بالمهمات المسرحية البسيطة «كالموائد والمناديل والمقاطف وملابس محمولة أو ترتديها الشخصيات» وقد اتخذ مسرح الارتجال من النص المسرحي المكتوب موقفا مزدوجا حيث اعتبر النص المكتوب مصدرا لموضوعاته الجاد منها والهزلي إلى جانب جعله هدفا للمحاكاة الهزلية والسخرية.
لعل أبرز مثال على التقاء مسرح الارتجال بالمسرح الجاد ما نجده من مسرحية «عفيفة» التي كتبها أحمد أبو خليل القباني كمسرحية أدبية شعرية غنائية تمتلىء بالأحداث الفاجعة، غير أنها تنتهي نهاية سعيدة تتوافق مع ذوق الجمهور العام المحب للنهايات السعيدة. كانت أحداث المسرحية تدور حول ذلك الصراع ما بين «عفة» بطلة العرض المسرحي و«خسة وشهوانية» الأمير سليم الذي أراد استغلال خروج الأمير علي للحرب للحصول على زوجته.
جدية مسرحية «عفيفة» التي كتبها القباني حين استولى فناني الارتجال على نصها المتدال تحولت على أيديهم إلى مسرحية هزلية مشوقة، المثير في الأمر أن عرض فناني الارتجال كان أكثر تشويقا ووصولا للجمهور العام من العرض الأدبي الذي قام بكتابته وتقديمه القباني.
فنان الارتجال بهذه المسرحية لم يكتفي بتحويل النص من الجدية إلى الهزل عبر إدخال العديد من التعديلات والتحسينات بما يحقق غرض العرض الهزلي ولكن الفنان إضافة لذلك يسخر سخرية واضحة من المسرح الجاد ويحاكيه محاكاة هزلية ذلك أن السخرية من المسرح الجاد كانت قد باتت جزء لا يتجزأ من تقاليد المسرح الساخر.
المؤسف حقا بشأن فناني مسرح الارتجال أنهم بمرور الوقت قد ذابوا داخل منظومة المسرح المكتوب فهذا علي الكسار الذي نشأ بحي السيدة زينب ممثلا مرتجلا على مسرح مرتجل ينكمش جهده في الارتجال فيصبح ارتجاله مجرد نكته يتبادلها مع أحد المتفرجين بشكل عفوي تلقائي حينا أو بشكل متفق عليه بشكل مسبق ما بين الكسار وأحد الممثلين الذي يقوم بدور المتفرج في محاولة لتعبير عن حالة التواصل ما بين الجمهور وخشبة المسرح دون أن تتعرض المسرحية المعروضة لخطر الارتجال الحقيقي.
بظهور مسرح نجيب الريحاني كانت مصر قد دخلت مرحلة المسرح النظامي التي كانت قد بدأت مع وصول جورج أبيض عام 1910 كأول فنان عربي يتلقى تدريبا نظامي في فن التمثيل وقد تلاه عزيز عيد كأول مخرج يرى أن عمله كمخرج يعد فن قائم بذاته وتتوالى الرحلة وصولا لأن تصبح أي محاولة من قبل الممثل للابتكار أو الارتجال خلال العرض بمثابة جريمة كبرى قد يعاقب عليها الفنان وأطلق عليها … «الخروج على النص».
الدكتور الراحل علي الراعي مؤرخ فن المسرح المصري عبر كتابه «الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري» .. يدعو محبي المسرح والمهتمين بشأنه إلى العودة للمسرح المرتجل بوصفه مغنما كبيرا للمسرح المصري بفنانيه على اختلافهم ما بين ممثلين ومخرجين ومؤلفين .. توفى الدكتور علي الراعي عام 1999 ومازالت دعوته باقية كحل سحري لكل ما يعانيه المسرح المصري من تراجع علها تجد من يتلقفها ويدعمها.