دأبت جماعة الإخوان المسلمين وقادتها في مصر على محاولة النيل من المؤسسات الدينية الرسمية من زاويتين، الزاوية الأولي أن مشايخها كسالى لا يقدمون جهدا علميًا متميزًا فى مجالات الفقه والدين ويهتمون بالسياسية أكثر ، والزاوية الأخرى أن أحكام الإعدام على مرتكبي أعمال العنف والتي تمر على دار الإفتاء مسيسة من الأساس وتتبع نهج الدولة. ويلاحظ أن إعلام الإخوان يركز على تهمة تسييس فتاوى الإعدام في قضايا الإخوان على بعض الفضائيات، ويتولى هذه الدعوى الشيخ عصام تليمة.
حدود مسؤولية “الإفتاء” في أحكام الإعدام
فى مقالة له بعنوان “مسؤولية المفتي عن أحكام الإعدام في مصر” يساوي تليمة بين مفتي الديار المصرية وبين أى مفتٍ داعشي. كتب تليمة: ” في الحقيقة النتيجة والحكم واحد، لا فرق بينهما، الفرق أن هذا مفت مع سلطة، والآخر مفت بلا سلطة، كلاهما يجيز القتل، خارج القانون والشريعة. الفرق الوحيد: أن المفترض أن شوقي علام تخرج في الأزهر، ودرس المذاهب والفقه والشريعة، وهذا وحده كان كافيا لأن يتقي الله في قضايا الإعدام”.
يستمر المقال في محاولة تحميل المفتي ودار الإفتاء مسؤولية الإعدامات في مصر، دون دراية بالتقاليد والإجراءات المعقدة المصاحبة لحركة دخول وخروج أوراق مثل هذه القضايا إلى دار الإفتاء وخروجها لمحكمة الجنايات كمسؤولية شرعية ثم مسؤولية جنائية بعد ذلك ، كما يتجاهل حقيقة أن رأي المفتي هو رأى استشاري للمحكمة ، ويتجاهل ايضا التفريق بين الإفتاء وبين القضاء ، فالفتوى غير ملزمة ولا يستطيع المفتي أن يُلْزِم أحدا بفتواه، أما حكم القضاء فهو نافذ ملزم باعتباره “عين الحقيقة” وتجسيد لمفهوم “العدل”في الدولة المدنية الحديثة.
“الإفتاء” رفضت إعدام المرشد
استرعى انتباهي في هذا السياق تناقض اتهام الإخوان مع رفض مفتي الديار المصرية ودار الإفتاء التصديق على إعدام مرشد جماعة الإخوان المسلمين د.محمد بديع في يونيو عام 2014 في القضية المعروفةإعلاميًّا باسم “أحداث مسجد الاستقامة”، وبالتالي تمت إعادة الأوراق للمحكمة مرة أخرى قبل أن تصدرالحكم بالمؤبد في أغسطس من نفس العام. وكان تقريرفضيلة المفتي يقوم على أن المحكمة استندت إلى تحريات المباحث، وأن الأحكام الجنائية تُبني على الجزم واليقين وليس الشك والتخمين، وهو ما يتعارض مع التحريض الدائم والمستمر من الشيخ عصام تليمةعلى فضيلة المفتي واتهامه بتسيس الفتوى، وأنه المسؤول عن الإعدامات فى مصر والتصديق عليها.
“دليل الإفتاء ” لمواجهة التطرف
أما المحور الثاني في استراتيجية الإخوان لتشويه المؤسسات الدينية الرسمية والتي تقوم على نعت مشايخ الأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف بالكسل الفكري وأنهم لا يقدمون جهدا علميًا متميزًا فى مجالات الفقه والدين ويهتمون بالسياسة أكثر، فهو اتهام قد يصح على فترات سابقة، ويدل على أن الإخوان يأنفون من متابعة العديد من الجهود العلمية التي طبعت عمل المؤسسات الرسمية خلال السنوات الأخيرة، والتي كان آخرها صدور عمل علمي وهو “الدليل المرجعي لمواجهة التطرف: مدخل عام في فهم التطرف و استراتيجيات مواجهته”، والحقيقة وهوسفر مهم في التعامل مع هذه الظاهرة، فلأول مرةيخرج مثل هذا العمل المرجعي إلى النور بطريقةالعمل المؤسسي الموسوعي الجامع لرؤى الباحثين والعلماء متجاوزا الجهود الفردية في هذا المجال.
خرج الدليل المرجعي في ما يقرب من 1053 صفحة، به عدد من الأبحاث المهمة الهامة، منها على سبيل المثال فصل عن أسباب وتاريخ التطرف، وآخر عن تاريخ التطرف لدى المسلمين وغيرهم ، وجوانب التطرف في اليهودية والمسيحية، و ظواهر التطرف والتشدد في الأيديولوجيات الأخرى.
تناول الدليل دراسة أسباب التشدد ثم التطرف الذي يؤدي إلى الإرهاب والإضرار بالأفراد والمجتمعات ،ودرس – على سبيل المثال لا الحصر – أهم قضاياالإرهاب في مصر من خلال تحليل النقاشات التي دارت خلال مناظرات فكرية على شبكة الإنترنت حولالعالم، ولقاءات حية تمت مع قادة بعض هذهالتنظيمات والمنظِّرين لها، بالإضافة إلى عدد كبير من النقاشات الفكرية التي سبق أن نظمتها الدار طوالالأعوام الماضية عن طريق قاعات بحث ولجان استماعلعدد من المنشقين عن هذه الجماعات، ومطابقةأفكارهم على نخبة فكرية من علماء النفس والاجتماعبجانب علماء دار الإفتاء المصرية. ولذلك فإن هذا الدليل هو إنجاز علمي في غاية الأهمية للمتخصصين،فضلًا عن أساتذة الجامعات و أساتذة العلوم التربويةوالباحثين والصحفيين الممهتمين بفهم أبعاد ظاهرةالتطرف وتطواراتها المفاهيمية والشرعية في مجتمعاتناخلال الأعوام الأخيرة.