في ليلة لا تقل إثارة عن أي فيلم “هوليوودي” لأفلام الحركة والكوارث مثل أفلام (رولاند إميريش) White House Down، لم يكن من المتصور عمليًا أن يتم إطلاق المشاغبين لتسلق جدران قدس أقداس الديموقراطية الأمريكية (مبنى الكونجرس الأمريكي) _حيث تُعرف قبة الكابيتول في جميع أنحاء العالم كرمز سياسي أمريكي_في محاولة لترويع الكونجرس ووقف التداول السلمي للسلطة،اقتحمت حشود مسلحة وعنيفة مؤيدة لترامب، لمنع المشرعين من التصديق على انتخاب منافسه جو بايدن، كان الحدث صادمًا، ونهاية مروعة لكنها مناسبة لرئاسة دونالد ترامب “كرف الديكتاتورية وكشط قعر حلة الجمهوريين”، ومع ذلك، إذا فاجأك هذا فأنت لم تنتبه عزيزي القاريء ، ف”مذبحة” يوم الأربعاء 6 يناير وجهت ضربة قوية لسمعة أمريكا كمثال للديمقراطية الليبرالية.
تم تحطم التصور الحتمي بأن “هذا لا يمكن أن يحدث في أمريكا” في دلالة على السقوط قليلاً في اتجاه الدولة الهشة قبل 20 يناير، كان أعضاء مجموعة الغوغاء في واشنطن فخورين بما فيه الكفاية بأفعالهم لنشر صور سيلفي وبث فيديو مباشر للتعدي الإجرامي على الكابيتول، لكن الثمن كان باهظًا.. أربعة قتلى، وجرح 14 شرطيًا، ونهب المكاتب، وتحطيم النوافذ، واحتلال أرض الكونجرس، وبنادق مسحوبة وغاز مسيل للدموع داخل مبنى الكابيتول “المدنس”، وإلحاق ضرر عميق بسمعة دولة تفتخر بتقاليدها في التداول السلمي للسلطة.
سيكون هناك الكثير لتحليله خلال الأيام القادمة، سيتم طرح تساؤلات عدة حول عدم استعداد الشرطة وعدم قدرتها على حماية الكونغرس، لماذا كان الأشخاص المسؤولون عن تأمين مبنى الكابيتول مرتبكين؟ أو بالأحرى مقارنة التناقض الصارخ والتباين في طرق الاستجابة التي لقيها المتظاهرون في الأشهر الأخيرة من منظمة حياة السود مهمة والتمييز ضد مسلمين أو غيرهم من الجماعات غير البيضاء وغير المسيحية، فهل تعتقد حقًا أن هؤلاء الغوغائيين كانوا سيصلون إلى مبنى الكابيتول لو كانوا أمريكيين من أصل أفريقي أو مسلمين؟، هل ينبغي لنائب الرئيس (مايك بنس) ومجلس الوزراء استدعاء التعديل الخامس والعشرين وإقالة ترامب من منصبه قبل 20 يناير؟ والتساؤل الأهم هل الديموقراطية كنظرية تضمن بشكل حتمي عدم ظهور حالات من الشطط والغُشم والتطرف؟.
بالطبع هناك تناقض صارخ نراه مع الأمن المكثف والمعاملة العدوانية التي استقبلت المتظاهرين السلميين من حركة BLM أو مع حركة Black Lives Matter تبرز الانقسامات العميقة في المجتمع الأمريكي وحتى في مؤسساته، وتعكس المزيد من تدهور الأعراف والتقاليد السياسية الأمريكية، هناك حاجة إلى رؤية متعمقة لمدى الفشل في حماية مبنى الكابيتول، عندما تحدث المتطرفون علانية عن مثل هذه الخطة، بل واعتقاد عشرات الملايين من الأمريكيين إلى الآن أن الانتخابات مسروقة_ يشير أحد التقارير إلى أن ربع الجمهوريين فقط يثقون بالنتيجة_ عززت وسائل الإعلام اليمينية الأكاذيب، وسمحت وسائل التواصل الاجتماعي للناس بالعيش في عوالم سياسية وفقاعات افتراضية بديلة، أدت مزاعم ترامب المتكررة بشأن تزوير الانتخابات إلى اتخاذ إجراءات تنفيذية غير مسبوقة من قبل شركات التواصل الاجتماعي، أغلق موقعي تويتر وفيسبوك ترامب من حساباته، وأزال المنصتان عدة منشورات من الرئيس تشكك في نتائج الانتخابات والتي أشادت بفعل مؤيديه، إلا أن المذبحة الأمريكية ليلة الأربعاء كانت لحظة غير عادية في تاريخ الولايات المتحدة، حيث استخدم (بايدن) الرئيس المنتخب نبرة مختلفة للغاية في تصريحاته عن الاعتداء: “في هذه الساعة … تتعرض ديمقراطيتنا لهجوم غير مسبوق، على عكس أي شيء رأيناه في العصر الحديث … مشاهد الفوضى في الكابيتول لا تمثل أمريكا الحقيقية، ولا تمثل من نحن… ما نراه ليس معارضة..إنها فوضى، إنها فوضى تقترب من الفتنة ويجب أن تنتهي الآن..أدعو الرئيس ترامب إلى الظهور على شاشة التلفزيون الوطني الآن للوفاء بيمينه والدفاع عن الدستور والمطالبة بإنهاء هذا الحصار… إنه ليس احتجاجًا إنه تمرد”. .
بعد إشعال تلك النيران السياسية، وجه ترامب نداءً متأخرًا للهدوء لكنه كرر الكذبة القائلة بأن الانتخابات تم تزويرها: “أنا أعرف ألمك… أعلم أنك مجروح.. كانت لدينا انتخابات سُرقت منا، لكن عليك العودة إلى المنزل الآن..يجب أن ننعم بالسلام يجب أن يكون لدينا القانون والنظام، علينا أن نحترم شعبنا العظيم في القانون والنظام.. لا نريد أن يصاب أحد.. نحن نحبك”..
لم تكن حادثة الأربعاء نسخة يمينية من احتجاجات “حياة السود مهمة” التي حدثت الصيف الماضي ضد العنصرية النظامية الواقعية للغاية والتي لا تزال متأصلة في النسيج الاجتماعي لأمريكا، بل كان عرضًا مناهضًا للديمقراطية من قبل عصابات سياسية ردًا على خسارة الانتخابات من خلال حصار مقر القوة الأمريكية، لا يوجد شيء آخر في الحياة السياسية الأمريكية يمكن مقارنته بهذا الحدث عدا الحرب الأهلية التي استمرت 4 سنوات.
خطاب “الضحية الأبيض”:
في العقود الماضية، قام السياسيون والمحللون اليمينيون بإخضاع الناخبين اليمينيين بشكل انتهازي من خلال تعريفهم على أنهم “الشعب الحقيقي” وإعلان هذه الأقلية الصاخبة على أنها أغلبية صامتة يُزعم أنها ضحية، في حين أن هذه العملية قد لُعِبت بقوة في الولايات المتحدة، حيث تم تضخيمها من خلال شبكة إعلامية “محافظة” على نطاق واسع، وممارسة الحرب النفسية واستخدام أدواتها (ترويج شائعات، نشر معلومات غير صحيحة) بغرض التلاعب بعقول الناس، من الإذاعة الحوارية إلى فوكس نيوز، فضلا عن البنية التحتية الهائلة لليمين الديني، لقد كان ناجحًا للغاية لدرجة أنه قبل فوز “رأسمالي برامج التوك شو بالرئاسة والنسرالبرتقالي للحزب الجمهوري ترامب”، اعتقدت غالبية الإنجيليين البيض أن “التمييز ضد البيض لا يقل أهمية عن التمييز ضد غير البيض”!! ده مش بس اليمين طلع متطرف لا ده متطرف وغبي كمان، بعد عام، أظهر استطلاع للرأي أن غالبية الإنجيليين البيض يعتقدون أنهم يتعرضون للتمييز أكثر من المسلمين في الولايات المتحدة( شوف التجويد يا أخي).
ومع ذلك، لم يعد خطاب “الضحية الأبيض” ظاهرة يمينية بحتة، عندما تفاجئ نجاحات اليمين المتطرف وسائل الإعلام والسياسة السائدة، فإنها تتحول من شجب أو تجاهل “العنصريين” إلى الدفاع عنهم أو حتى تمجيدهم، لسنوات حتى الآن، كان الصحفيون والسياسيون يقللون من أهمية العنصرية ويدفعون بسرد “القلق الاقتصادي” ..ده فيض من غيص بس.
وكأغبى قرار سياسي ربما يكون ترامب قد قلب الميزان من خلال استدعاء المؤيدين السياسيين(البهاليين) إلى واشنطن لمظاهرة “أنقذوا أمريكا” يوم الأربعاء ضد تصديق الكونجرس على (جو بايدن) كفائز في الانتخابات، لقد رأينا عواقب القرار في حشود الغوغائيين داخل أنحاء مبنى الكابيتول عندما شقوا طريقهم داخل المباني، محطمين النوافذ مرتكبين أعمال تخريبية أخرى.
كان تويتر محقًا في تكميم صوت ترامب يوم الأربعاء، ووقف حسابه – بالطريقة التي “ينفخ” بها أيضًا في آذان عصاباته لمدة 12 ساعة، وبالنظر إلى كيفية استخدامه للمنصة للتحريض على العنف، يجب حظره تمامًا من جميع منصات التواصل الاجتماعي، لم يخف ترامب أبدًا ازدرائه للديمقراطية، لمدة شهرين رفض التنازل لبايدن، وضغط بشكل خاص على وزير خارجية جورجيا “لإيجاد” أصوات لإلغاء الانتخابات لقد ادعى علنًا، على الرغم من الافتقار التام للأدلة، أن التزوير الهائل في الناخبين هو ما منع إعادة انتخابه، لكن المشكلة أعمق بكثير منه، ترامب وحده لم يقوض الديمقراطية؛ بالفعل أظهرت فترة رئاسته مستوى من الخلل الوظيفي الذي يتجاوز بشكل صادم أعمال العنف في مبنى الكابيتول الأمريكي والعديد من التحذيرات حول هشاشة الديمقراطية الأمريكية، فلم تكن أعمال الشغب والأحداث المروعة بسبب ترامب فقط بل نتيجة لتقويض الجمهوريين للديمقراطية الأمريكية، بل أصبح الحزب الجمهوري عدو الديمقراطية، حيث أيد العديد من القادة الجمهوريين مزاعم ترامب التي لا أساس لها من تزوير انتخابات 2020 ؛ إن مشهد المشرعين “الفارين” من الغوغاء المؤيدين لترامب الذين انتهكوا حاجز المبنى يوضح تمامًا وحش “فرانكشتاين” وهو ينقلب على منشئه.
هجوم أخير بائس أم تمرد لحركة شعبية؟
يبقى الدرس المستفاد لنا أن نوضح حقيقة الإفرازات الفكرية المناهضة للديموقراطية والأصوات التي تعالت لتخلط “الديموقراطية” ب” البيعة بصندوق” الذي لا يصدر إلاّ من شخليلة مواطنين الكوكب وليس من شعب وأفراد واعيين بمعنى الديموقراطية، فأي نشاط بشري لابد أن يبنى على اتفاق بين أطرافه، وإلاّ سيتحول النشاط إلى “خناقة” وبالقياس على هذا، لكي تبني دولة لابد أن يحدث اتفاق بين مكونات المجتمع (عقد اجتماعي)، مدى جودة العقد الاجتماعي هو ما يحدد شكل الدولة وصحتها السياسية والاجتماعية، ده ماحصلش مع دول كتير اتحولت ل”عربخانات”، خاصة أن أغلب الدول وخصوصًا في مناطق الشرق الأوسط قامت على السلاح و”الشبحنة”، لذلك فهي من يومها الأول بتتحرك في دايرة من الحياة في الحضيض..معاناة..هزيمة ..خيبة…وكسة..نكبة..إلى نهاية السقوط المروع، الرادع الوحيد لحدوث ذلك هو الديموقراطية، وبالتالي فحكمنا على أحداث الأربعاء أنها محاولة واعية للاستيلاء على السلطة أو محاولة “انقلاب”، كما وصفها كثير من المعلقين غير دقيق، لقد كان الأمر أكثر من مجرد أعمال شغب “متعثرة” تحولت إلى موجة تخريب كان هذا هو الاضطراب لنظام محتضر في طريقه إلى الخروج، وليس تعبيرا عن تمرد لحركة شعبية لم يكن بإمكانها أبدًا أن تتخطى هدفها المباشر المتمثل في إحباط التصويت، وفي النهاية تم تأخيرها فقط، العالم كله وليس أمريكا فقط ليسوا في حاجة لتأسيس المجتمع من أول وجديد، وإقناع قطعان الهمج ومهافيف وسفهاء الكوكب اللي هايمين بلا هدف في أحراش القرن الواحد والعشرين بأن ممارسة العنف وعرقلة الديموقراطية جرائم، الأفكار والآراء نتفق حولها أو نختلف عليها، لكن تذكّروا حجتكم للترويج للديموقراطية على أنها بتفرز “سقوط نظرية التطور” لا يعني أن الشمولية والديكتاتورية هي الحل.
هناك أيضًا درس أكثر إيجابية من تلك الحادثة، فعندما يتم تعبئة الديمقراطية بالكامل، لا يمكن لأعدائها الانتصار، استمر عمل المؤسسات لوضعها في نصابها الصحيح، لقد تم احترام إرادة الشعب الأمريكي، قام الكونجرس بواجبه الدستوري للمصادقة على أصوات الهيئات الانتخابية مما يؤكد حقيقة انتخاب جو بايدن وكامالا هاريس كرئيس ونائب رئيس على التوالي، سنرى انتقال السلطة من الرئيس ترامب والحزب الجمهوري “المنكمش” في البيت الأبيض ومجلس الشيوخ، بعد انتخابات فرعية مذهلة في جورجيا للديمقراطيين فازوا بأغلبية فعالة، ثم ماذا…تم رفع الحصار، وتم تطهير ممرات الكابيتول من الغوغاء.