ثقافة

قراءة في رواية “نادي الأربعين”

سن الأربعين، مرحلة الحياة حين تصل الضغوط الوظيفية والمالية والنفسية إلى ذروتها، توقعك الوصول إلى أعلى مستويات مهنتك، زواجك، إنجازك الشخصي، بينما لا يزال أمامك الكثير لتحلم به وتقلق بشأنه، القلق بصفة عامة لا يعني “التوتر قليلا” بشأن تلك الأشياء، القلق يتعارض مع قدرتك على القيام بالأشياء التي عادة ما تفعلها.

 في أحد مشاهد رواية “نادي الأربعين” الصادرة عن دار إشراقة للنشر، يتخلى “حازم أمين”  الشخصية الرئيسة في الرواية عن حياته العملية الناجحة وزواجه المثالي؛ لينعزل مبتعدا عن أي تفاعل اجتماعي، ورغم أنَّ هذا الفعل يبدو للقارئ غريب، يمكن تأويله إلا أنَّ المؤلف أراد بهذا الانعزال الإشارة للخلاص الذى آثره لنفسه المنهكة بعد بلوغه هذا العمر. تحليل إيثار التخلي على هذا النحو، يفسر لنا ملامح شخصية البطل التي تتأرجح بين الثقة الشديدة في النفس وانعدام تقدير الذات -صفة المبدعين- التي جعلت “حازم أمين” يرى في التخلي.. الطريق الذي يشعره بذاته، حين يظن أنَّه على وشك أن يفقدها؛ لذلك أسرع بترك حياته المعتادة قبل أن تتركه.

هذا الارتباك لم يظهر لديه فجأة، لكن كان يكبر معه، وبلغ ذروته في عيده الأربعين، خوفه من الغد، تساؤلاته الوجودية المشروعة، حيرته بالرغم من سعادة محيطه العائلي والاجتماعي، هو في حالة قلق مستمر عبَّر عنها الكاتب بفكرة “الهجرة” التي تتحمل تأويلين هجرة من مرحلة إلى أخرى، والهجرة التي عبَّر عنها بقرار الانعزال عن الناس، ويمكن اعتبار هذه الفكرة نقطة قوة كبيرة في السرد، فرغم أنَّ الرواية تبدو رواية اجتماعية، بدءًا من اسمها الذي يتحدث عن تجارب سن الأربعين، وحتي مأزق البطل الذي يعتبر تجربة اجتماعية مرّ بها الكثيرون، إلا أنَّ التفاصيل الصغيرة التي طعّم بها المؤلف مسار الرواية تجعل القارئ يذهب بتفكيره إلى أبعادٍ أعمق بكثير.. هو يقترب من الناس، يجعلهم يشعرون أنَّهم الأبطال، هذه المخاوف هي مخاوفهم، هذه التساؤلات عن المعنى والهدف تخصهم، هذا القلق قلقهم، الأحلام التي تأتيهم ويتمنوا لو يعيشوا بداخلها فقط،  ففي الأربعين لا يهم شكل الحلم، المهم أنَّه يتحقق، وبالمثل قد تتحقق أحلام في حياة أحدهم ..الأحلام الأقرب لروحهم؛ يقابلون بها من يشاءون مثلما كان “حازم” يقابل “هالة” التي ردت أحاديثُه معها روحه إليه.

عمرو دنقل
عمرو دنقل

حتى زوجة البطل التي تبدو شخصية اعتيادية، نراها في لحظة صورة الزوجة المعتادة، وفي لحظة أخرى تمثيل للأنثى الحكيمة، فيشعر القارئ أنَّ الشخصية أعمق من مجرد زوجة مدللة، إنَّها أنثى تجيد الاحتواء وإدارة القلق، حقيقة الأمر أنَّ التيمة الرئيسة للرواية هي “القلق” –سمة العصر– لدرجة تُشعر القارئ أنَّ قلق سن الأربعين سيطارده شخصيا، المؤلف -سواء عن قصد أو بدونه- يزج بالقارئ ليجعله جزءًا من السرد، يفرح لفرح الشخصيات ويحزن لحزنها ويستجيب لقلقها، يتسرب مصطلح “القلق” في المحادثات البينية لشخصيات الرواية بطريقة جعلت معناه أكثر حضورا، وعلى الرغم من ذلك، ما يجعل القلق مختلفا هنا هو تحوُّله لمصباح إضاءة (كشّاف ضوء) يواجه الأشخاص الذين يعانون منه صعوبة في إيقاف تشغيله حتى عندما تسير الأمور على ما يرام.

على الأغلب يشعر المرء بحنينٍ أثناء قراءة الرواية، ولا يشترط أن تكون في سن الأربعين لتلتقط هذا التحوُّل في حياة أي رجل، التحوُّل المصاحب لتجربة العمر والصدام مع سُنَّة الحياة، حين يدرك المرء أنَّ التحول والقلق جزءٌ أصيلٌ وطبيعيٌ من لعبة الحياة إن أراد النضج والتطور ذهنيا وروحيا، بالإضافة إلى ذلك –تقريبا– بمتوسط كل خمس صفحات في الرواية نصادف جُملا من نوعية “قدّ من قُبل”، “عندما يكون بصرك حديدا”، “أخذت الأرض زخرفها وأزّينت”، “همت به وهم بها”، ” انقلب البصر خاسئًا وهو حسير”، حيث تمازجت لغة السرد بين الفصحى والتأثر اللغوي القرآني الذي لا ينقطع من بداية الرواية إلى نهايتها، ومنه نعلم أنَّ الراوي يستحضر جانبا صوفيا، وعلاقة تدور في ذهنه بينه وبين الشيخ السبعيني يعود معها الكاتب إلى الأعمال القصصية لـ”عبد الله النديم” في بدايات القرن العشرين، وهو تناصٌ يتجلَّى في أجزاءٍ متعددةٍ من الرواية، وينعكس بالتالي على مستويات اللغة، فهناك الاستعارات والتورية والكلمات المفرطة في بنيتها الكلاسيكية، والتي تجبرك على فتح المعجم أو البحث عن أصلها ومعناها، وأحيانا تحمل –في ثناياها– وشائج مع أعمال شعرية، وجمل موغلة في القدم، ثم “تتكعبل” في تعبيرات بسيطة، وهي تُعبِّر عن لغة أبطال الرواية المحيطين بالشخصية الرئيسة.. ينتج هذا الخليط اللغوي لغةً حيويةً جذّابة.

لاحظت أنَّ هناك شخصيات كان يمكن للمؤلف “فرش” خلفياتها بشكل أكتر تفصيلا، خاصَّة عندما لمّح لأبعاد اجتماعية وسياسية، قد تكون انعكاساتٍ لتحولاتٍ قيمية في تفاصيل الشخصيات؛ ليستفيد أكثر من نقده الاجتماعي في الفترة الزمنية التي دارت بها أحداث الرواية، وكسر الإيهام بينه وبين القارئ وإشراكه معه في نقده للأحداث؛ بل ومخاطبة ظنونه وإحباطاته الاجتماعية، خاصَّة وأنَّه قدَّم “كوكتيلا” متعدد الجذور والانتماءات، لكنَّ القاعدة العامة في الأدب تقول أنَّه ليس من الضروري تبني نفس الاختيارات الفنية لـ”نجيب محفوظ” أو “يحيى حقي” بالتالي فالاختيار الفني للمؤلف أولا وأخيرا.

 كما أختلف معه في الحكم المطلق على رواية “1984” لـ”جورج أورويل” من حيث صدق خياله وعدم صدق توقعاته؛ أين ذهبت فضيحة “ووترجيت”.. احتلال العراق.. وأكاذيب جورج بوش بشأن أسلحة الدمار الشامل، صعود الشعبوية اليمينية المتطرفة، والقومية الاستبدادية وتراجع الثقة في الديموقراطية الليبرالية، والأخبار المزيفة وفضيحة التنصت، الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء وسبل المراقبة عن بعد.. إلى آخره، ووفقا لـ”أورويل” فإنَّ العالم يتحرك إلى ما وراء عالم الدولة الديموقراطية المتماسكة، قد يرجع هذا لأنَّنا اعتدنا على التفكير في السلطة من منظور ثنائي: إمَّا أن نمتلكها أو لا نملكها، لكن بحسب “أورويل” نحتاج إلى إعادة التفكير لأنَّ هناك شيئا ما بينهما.

أخيرا.. في سنوات العشرينات والنصف الأول من الثلاثينات يكون المرء مشغولا بفكرة تحقيق النجاح وتعريف النجاح، ومع عبور الأربعين، يبدأ في رؤية النجاح والفشل كأمور نسبية وأنَّ الأهم هو الوصول للرضا والسعادة، وبالتالي الحياة سواء في سن الأربعين أو ما قبلها وما بعدها سلسة من التجارب يحاول فيها المرء عدم فقد الحماس لشيء. في النهاية.. على القارئ أن يتذكر هذا الاقتباس من ملحمة الحرافيش “لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock