رؤى

حوار المصلحين والمستشرقين

مما لاشك فيه أن الاستعمار الغربي في سعيه الحثيث إلى السيطرة على العالم الإسلامي كان يواجه بعقبة كؤود وهى الإسلام، فقد كانت التيارات الدينية تقف ضد مطامع الاستعمار الغربي ، ولهذا كان سعى المستعمر إلى إنتاج صورة عن الإسلام والمسلمين من خلال الاستشراق تتسم بالسلبية ولعل محاورات (رينان/الأفغاني) و(هانوتو/عبده) تكشف لنا علاقة خطاب الإصلاح بالغرب المستعمر المستشرق .

ففي محاضرة قصيرة لرينان عن (الإسلام والعلم) كيل فيها للإسلام وللمسلمين العرب العديد من الاتهامات منها أن الإسلام يرضع أطفاله التعصب، وازدراء الأديان الأخرى وذهب إلى أن”لدى المسلمين احتقارا شديدا للعلوم والمعارف، وهذا الأثر رسخته العقيدة الإسلامية”، ويستثنى رينان من ذلك الفرس لأنهم عرفوا كيف يحتفظوا بعبقريتهم الخاصة، ويتهم رينان “الإسلام بأنه دين جاء بالحكم المطلق دون أي فصل ممكن بين الروحي والزمني، حكم قهر وعقاب لمن لا يقيم العبادات ، فالإسلام هو الوحدة غير المنفصلة بين الروحي والزمني إنه حكم الدوغما، إنه السلسلة شديدة الغلظة التي لم تتقيد بها الإنسانية أبدا من قبل” .

رينان الإسلام والعلم

ورأى رينان أن معظم التراث العلمي والفلسفي في الحضارة الإسلامية قد قام على أجناس غيرعربية، وأن هذا التراث تكمن أهميته في نقله التراث اليوناني للأوربيين، وهو بهذا يحاول سلب الإسلام أي ميزة، بل رأى أنه ” اضطهد الفكر الحر” .

وقد اتسم رد الأفغاني على رينان بالضعف فرأى في بداية رده أن الأمم في بدايتها لم تكن قادرة على الانقياد بالعقل المحض، ولهذا كانت محتاجة إلى الأديان، ويرى الأفغاني أنه ” إذا كان صحيحا أن الإسلام يقف في وجه تطور العلوم فهل يختلف الإسلام في هذه النقطة عن الأديان الأخرى؟ فكل الأديان متعصبة كل منها على طريقته، وإذا كان المجتمع الغربي قد تحرر من هذه القيود فإني آمل أن يصل المجتمع المحمدي ذات يوم في أن يحطم قيوده، ويتقدم بتصميم على غرار المجتمع الغربي” .

إن أعلام الإصلاح حين كانوا يردون على المستشرقين كان الأمر أشبه بالفعل من جانب المستشرقين ، ورد الفعل من جانب المصلحين، ورد الفعل كان ضعيفا قياسا بالفعل القائم على التشكيك لأن الواقع الحضاري للمصلحين كان متخلفا، ومع ذلك لم يجد دعاة الإصلاح بدا من ضرورة الدفاع -رد الفعل- فكان الأفغاني يستدعى التاريخ في الرد فيذهب إلى أن الحضارة الإسلامية حققت إنجازات رائعة في كافة المجالات المعرفية ويتساءل الأفغاني “أليس هذا مؤشرا ودليلا على حبهم الطبيعي للعلوم، صحيح أن العرب أخذوا فلسفتهم من اليونان، كما سلبوا من الفرس سر شهرتهم في سابق الزمان، إلا أن هذه العلوم التي اغتصبوها بحق الفتح قاموا بتطويرها، ونشرها، وشرحها، والوصول إلى الكمال” ، وإذا كان رينان يتهم الإسلام باضطهاد العلم فإن الأفغاني يرد عليه بأن المسيحية ليست بأفضل من الإسلام، فلم تعامل الكنيسة الكاثوليكية جاليليو بأفضل مما عامل به الإسلام ابن رشد”.

تمثال ابن رشد في قرطبة
تمثال ابن رشد في قرطبة

وعلى الرغم من الضعف الواضح في رد الأفغاني على رينان إلا أن رينان أعاد الرد عليه وأبدى احترامه له، وأشاد به باعتباره من الأجناس الآرية التي تحمل تحت قشرة الإسلام روح مغايرة له، وانتهى رينان إلى أن بعض الدول الإسلامية بفعل التطور الزمني سوف تجرى نوعا من القطيعة بشكل ما مع ديانة القرآن، وهو يشك في أن تتحقق حركة نهضة بالاعتماد على الإسلام الرسمي ، ويرى أن الأديان سوف تتغير ، وتتحول بشكل كامل عندما يتم ردها إلى حالة ظواهر التعبير الفردي الحر مثل الآداب والفنون ، وهنا نلاحظ أن رينان يريد تمييع وضعية الإسلام في عالمه مثلما تم تمييع وضعية المسيحية في أوروبا حتى لا يجد المستعمر أية تركة ثقافية تقف حجر عثرة في سبيل السيطرة على العالم الإسلامي .

وفى محاورة (هانوتو/محمد عبده) نجد الاتهامات نفسها التي قال بها رينان تعاد مرة أخرى على يد هانوتو،- والذي كان وزيرا للمستعمرات الفرنسية في الجزائر – حيث كتب مقالا عن الإسلام يقدم فيها رؤية سلبية تجاه الإسلام، فيرى أن فرنسا استطاعت السيطرة على بلاد الإسلام بعد إخفاقات متعددة ويرى أن “فرنسا صارت بكل مكان فى صلة مع الإسلام، بل صارت في صدر الإسلام وكبده، حيث فتحت أراضيه، وأخضعت لسطوتها شعوبه” ولهذا يسعى هانوتو إلى محاولة فهم المسلمين والإسلام، ولكنه حين يكتب فهو يرفع من شأن حضارته وديانته على حساب الإسلام وحضارته فيقول “إن الديانة المسيحية الوارثة بلا واسطة آثار الآريين والمقطوعة الصلات بالمرة مع مذهب الساميين، وإن كانت مشتقة منه، وغصنا من دوحته ومن شأن هذه الديانة ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية وهى الإسلام المشوبة بتأثير مذهب السامية تحط الإنسان إلى أسفل الدرك وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له”، واتهم الإسلام بأنه دين قدري يتسم بالسلبية .

محمد عبده وهانوتو
محمد عبده وهانوتو

وقد انتقد هانوتو -كما فعل رينان- اتصال السلطة الدينية بالسلطة المدنية في الإسلام ورأى أنها أحد أسباب تخلف المسلمين، في حين “أن السلطة المدنية أهم وأشد من الرابطة الدينية، وهى التي كانت قاعدة أوروبا الأولى في سياستها، وبها تقدمت وتمدنت” .

وبقدر ما كان رد الأفغاني على رينان ضعيفا بقدر ما كان رد الإمام على هانوتو قويا حاسما، فرأى الإمام أن هانوتو يثير عزائم الفرنسيين إلى حرب المسلمين، ورأى الإمام أن ما أخذه الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما أخذه الشرق المضمحل عن الغرب المستقل، ورأى الإمام أن نهضة أوروبا يعود الفضل في جانب كبير منها إلى الحضارة الإسلامية” وأن  أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحضارة كانت تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوؤها في الأندلس على ما جاورها” .

وينتقد الإمام محمد عبده رفع هانوتو من شأن المسيحية على الإسلام ذاهبا إلى أن المسيحية كديانة تدعو إلى الانسحاب من العالم والزهد فيه، والفناء في الأب، والانقطاع عن هذا العالم، ولهذا لادخل للإنجيل في المدنية الفرنسية، في حين يدعوالإسلام إلى الجهاد والقوة، ويحض على العلم والمدنية ، ويدفع الإمام عن الإسلام اتهام هانوتو بالقدرية، والنزوع السلبي، حيث ميز الإمام بين الجبرية والقدرية، فالإسلام يرفض الجبرية، في حين أن عقيدة الإيمان بالقدر تحرر الإنسان من كل صنوف العبودية، ولهذا فحقيقة الإسلام تحض على القوة، ولهذا “لو رجع المسلمون إلى الحقيقة من دينهم لأدوا فروضهم، واستنبتوا الأرض، واستغزروا من الثروة، وأعدوا لفرنسا ما استطاعوا من قوة، واعتمدوا في نجاح أعمالهم على معرفة القدر”.

ونتيجة لأن واقع المسلمين لا يساعد الإمام فيرده على هانوتو فقد حمل الإمام على هذا الواقع ، واتهم المسلمين بأن حالة الانحطاط والتخلف التي يعيشون فيها سببها ابتداع المسلمين في دينهم ، وجهلهم بالإسلام الحقيقي، ورأى أن دعوى الفصلبين السلطة الدينية والمدنية التي يرددها هانوتو إنما هي نتيجة لسوء فهم بعض مسيحيي الشرق ، وانعكاس ذلك في أذهان سياسيي الغرب، ورفض الإمام اتهام الإسلام بالجمع بين السلطة الدينية والمدنية “فلم يعرف المسلمون في أي عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحية عندما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقرر الضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية، وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقا للحاكم الأعلى وهو الخليفة أو السلطان فليست له سلطة دينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية والمدافع عنها بالحرب والسياسة” .

ومن جانب آخر فإن الإمام لا يتردد في الكشف عن الوجه الاستعماري لفرنسا فى الجزائر ، ويتهمهم بأنهم يسعون إلى هلاك المسلمين فيقول”إن العدل، ورعاية الحقوق، واحترام المعتقدات بعد معرفة أصولها هي التي تخفف على المغلوب سلطة الغالب، وتدنو منه، وتهون عليه الرضا عنه، ولكن هانوتو وأترابه من ساسة الفرنساويين لا يعرفون شيئا من هذه الأركان الثلاثة” .

ومن خلال محاورات (الأفغاني – رينان) و(عبده- هانوتو) نلاحظ أن هناك حوارا بين المستشرقين والمصلحين، ولكنه حوار غير متكافئ، لأنه حوار بين حضارة غازية تريد الاستعمار وتوظف سلطة العلم لإدراك واقع العالم الإسلامي المشوه ، وبين مصلحين لا يسعفهم واقعهم الحضاري في الدفاع عنه، لأنه واقع متخلف ، ولهذا كانت ردود المصلحين هي عبارة عن ردود الفعل ضد الغرب المستعمر ، والمهيمن بآلته العسكرية ، وأدواته المعرفية .

الاستشراق

إن الغرب وظف الاستشراق – والذي كان أشد حدة وضراوة في الحقبة الاستعمارية- حيث سعى الاستشراق إلى ترسيخ العجز في البلاد المستعمرة، وبناء صورة مشوهة له ، وقد حاول دعاة الإصلاح التحاور مع المستشرقين رافضين مقولاتهم الظالمة عن الإسلام والمسلمين، ومحاولين الكشف عن الوجه المضيء للإسلام والحضارة الإسلامية، ولكن الحوار كان غير متكافئ، لأن اللحظة التاريخية ليست في صالح العرب والمسلمين، ومن ناحية أخرى فقد تصدى خطاب الإصلاح ليس فقط بالحوار مع الغرب المستعمر المستشرق، ولكنه سعى إلى مواجهته ، وفضح الأغراض الاستعمارية لخطاب الاستشراق حول الإسلام ووضعية المسلمين.

د. أحمد سالم

أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock