في سورة البقرة٫ يسرد الخطاب القرآني قصة ذات دلالة تبدأ بسؤال يطرحه خليل الرحمن ونبيه إبراهيم على الخالق تعالى٫ حيث يسأله أن يريه كيف يبعث الموتى عقب رحيلهم وتحلل أجسادهم.
حيث يقول النبي إبراهيم : “رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى”.
واللافت هنا أن السؤال لم يثر غضب الخالق تعالى أو سخطه على نبيه٫ بل إن الرحمن يتقبل منطق النبي إبراهيم البسيط وهو أنه يطرح هذا السؤال لكي “يطمئن قلبه” أي بحثا عن اليقين المدعوم بدليل مادي تدركه العين المجردة والتجربة المباشرة.
“قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي”
وهو أمر ليس بمستغرب على شخصية إبراهيم كما يرسم ملامحها الخطاب القرآني٫ فهو باحث دائم عن الحقيقة٫ أبت نفسه القلقة أن تتقبل عبادة الأوثان لمجرد أن أباه وقومه وأسلافه عاكفون على عبادتها٫ فرفض التقليد وانطلق يبحث عن الحقيقة في الكون من خلال التأمل وطرح الأسئلة حتى أتاه وحي الله تعالى.
https://www.youtube.com/watch?v=GCdki1AaU58
يأمر الله نبيه إبراهيم بأن يأخذ أربعة من الطير – أي أربعة أنواع مختلفة من الطيور وفقا لبعض التفاسير- ويوجههم إليه ثم أن يذبحهم ويوزع أجزائهم على جبال شتى ثم تتجلى قدرة الخالق فتتجمع الأجزاء المتناثرة حين يدعوها إبراهيم الخليل.
لقد أدرك الخالق تعالى حاجة نبيه إلى دليل مادي على البعث فوجهه إلى تجربة عملية تثبت له ما انتابه الشك بصدده٫ أي أن الشك في حد ذاته لم يكن أمرا مشينا كما يحاول البعض أن يصوره الآن يستوجب غضب الخالق أوعقابه.
“قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (البقرة 260)
ويروي الخطاب القرآني قصة مشابهة في فحواها في سورة الأعراف٫ إلا أن بطلها هذه المرة هو كليم الله موسى.
يذهب النبي موسى هذه المرة في طلبه إلى ما هو أبعد من طلب سلفه النبي إبراهيم٫ حيث يساله الله تعالى أن يراه جهرة “وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيك”
https://www.youtube.com/watch?v=ml-SXb80vec
إلا أن الخالق هنا أيضا لا يغضب من طلب نبيه بل يوجهه بأن ينظر إلى الجبل المجاور له “قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي”.(الأعراف١٤٣)
وبطبيعة الحال فإن الجبل الذي تجلى عليه الخالق تعالى ينهار بمجرد أن يتجلى نوره سبحانه وتعالى ٫ وينهار معه النبي موسى مغشيا عليه٫ ليدرك لاحقا بعد إفاقته أن أحدا من الخلق لن ينال ما طلب٫ أي رؤية الخالق تعالى جهرة قبل يوم البعث.
في كلا القصتين نحن بصدد بشر اختارهم الله تعالى لتبليغ رسالته لقومهم٫ ومع ذلك فإنهم لا يجدون حرجا في أن يطرحوا على الخالق أسئلة تدور في خلدهم حول ذاته تعالى وقدرته.
وفي كلا القصتين يتقبل الخالق أسئلة رسله ويدرك ما وراءها وأنها ليس تشكيكا في ذاته تعالى وإنما هي سبيل البشر لإدراك الحقيقة٫ ويمن على السائلين في كلا المرتين بإجابة سؤالهم عبر تجربة حسية.
يبدو جوهر كلا القصتين اللتين تضمنهما كتاب الله تعالى الخاتم أبعد ما يكون عن خطاب ديني تحفل به المنابر حاليا والقنوات التلفزيونية المسماة بالدعوية.
حيث يستنكر معظم ال”دعاة” الحاليين طرح البشر لأية أسئلة ويصادرون حق العباد في التفكير المستقل ويعتبرون الشك خطيئة ما بعدها خطيئة في الوقت ذاته الذي يعلون فيه من شأن قبول كل ما وصل إليه الأسلاف باعتباره الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.
يبدو هؤلاء “الدعاة” في عصرنا الحالي أشبه ما يكونون بقوم نبي الله إبراهيم الذين استنكروا على النبي الشاب رفضه لما يؤمنون به منطلقين من فكرة مفادها أن على المرء أن يتبع ما وجد عليه آباؤه وأجداده وإلا كان خارجا عن الناموس.
لكن منطق التشكيك والتساؤل الذي اتبعه إبراهيم الخليل والذي يحتفي به الخطاب القراني هو ما أوصله لذات الخالق تعالى٫ ولذا فإن عقلية قمع الأسئلة المسيطرة على الخطاب الديني الراهن تخالف في حقيقة الأمر سنة إلهية وتوجيها نبويا واضحا يتجلى في قول النبي الكريم الذي رواه الصحابي أبو هريرة ” نحن أحق بالشك من إبراهيم , قال : رب أرني كيف تحيي الموتى , قال أولم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي “.