ثقافة

في رثاء زوجتي.. كان العلم رحمًا بيننا.. تعلمت منها الكثير 

(إن العين لتدمع  وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إيمان لمحزونون  ولا نقول إلا ما يًرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون )

سيبدو العنوان غريبا وربما مثيرا لبعض الاستغراب ،، نعم كانت إيمان القدوسي ( 17 أغسطس 1957 – 30يوليو 2021)  مدرسة في التجسيد الحي  للقيم الإسلامية والإنسانية ، فقد تعلمت منها الصبر والثبات والتضحية ، حين واجهت حكما بالسجن عام 1984 لعشرة سنوات كامله  وكانت لا زالت بعد لم تبلغ السابعة  والعشرين ، ولكنها ضحت لأجل طفلينا في ذلك الوقت اللذين كان عمر أكبرهما ثلاث سنوات وعمر الذي يليه سنتان ، كان يمكنها أن تغادر ولكنها ظلت صامدة متمسكة بحمايتي وأسرتي من التمزق ، وظلت متمسكة بصبرها وكفاحها وتضحيتها حتي خرجت من السجن .

وبعد السجن ظلت تكافح معي في حدود إمكانياتنا  البسيطة  ، وأذكر أنني عانيت معاناة قاسية تقلبا في الحياة والمعاش  حين خرجت من السجن فقد صار أولادي  أربعة من الذكور حينها عام 1991 م   ، ثم تعرضت  للاعتقال عام 1993 بعد خروجي من السجن بسنتين لمدة خمسين يوما بلاظوغلي ،  وقد ساءت حالتها الصحية وقتذاك وكانت حاملا قاربت الوضع ، وحين خرجت في رمضان وقتها ولدت بنتنا  التي كنت أنوي تسميتها ” انتصار ” ميتة ،  فقد كان لديها ثقب في القلب واستبدلت اسمها في شهادة الميلاد باستشهاد وظلت هي  صامدة صابرة ولله الحمد رغم  أن الولادة كانت تمثل خطرا علي حياتها .

ثم أنجبت من بعد طفلين أي أنها ولدت سبع مرات عاش لنا ست من الأولاد وماتت واحدة رحمها الله رحمة واسعة .

الراحلة إيمان القدوسي
الراحلة إيمان القدوسي

تحملت مشاكل المراقبه التي امتدت لخمس  سنوات وقد كانت الدوريات الشرطيه تمر علي بيتنا عدة مرات في الليله للتأكد من وجودي بالمنزل ، وتعرض بيتنا للاقتحام الغاشم  عدة مرات ورغم ذلك لم تتأفف ولم تبد تبرما أو ضيقا أو غضبا أو  لوما أو عتابا أو  حزنا بل كانت صابرة راضية مرضيه محتسبة تسلم أمرها ومقاديرها إلي خالقها  .

طافت بالسجون جميعا في المرج وفي  أبي زعبل وفي الاستقبال وفي ليمان طره وفي التجربة  والتأديب ، وكم كنت أتعرض لمشاكل داخل السجن فتمنع ا لزيارات  ويأتي الأهل أمام السجن و يعودون وينتظرون ،  وكانت منتظمة في المجئ للزيارات تأتي بالإذن بها من  القضاء العالي ومن مصلحة السجون فلم تتبرم أبدا ولم تتسخط ولم تشك  ولم تكفر بالعشير أبدا .

تعلمت من إيمان القدوسي الاهتمام بالأدب وبالذكاء العاطفي وبالاهتمام بالوجدان وعالم النفس والروح ، فقد كان اهتمامها الرئيسي بتربية النفس وعلومها  وتهذيبها وإصلاح ما انكسر أو انخدش فيها وكانت وفية للأسره وتماسكها والصبر علي ما ينوبها من مشاكل دون الانجراف إلي وسواس الشيطان وتسويله بالانفصال سواء من جانب المرأه أو الرجل .

 ورغم اتصالها بالحداثة والعلوم الجديدة وعلوم النفس واتجاهاتها وتطبيقاتها   فقد كانت تأخذ منها الأصاله والعمق فيها والقيم الأصيله ذات الطابع الإنساني فيها المتقاطع مع روحنا العربية الإسلاميه ،   فقد عرفتني علي كتاب ” الذكاء العاطفي ” لدانييل جولمان ” والذي يركز فيه علي المشاعر وعلي العاطفه والوجدان وعلي الروح وحياتها والنفس وعللها وكيف أن ذلك سبيل مهم لحماية الأسره  من تعرضها لخطر التفكك والانهيار ، واعتبرت الذكاء العاطفي فرض عين ، وعرفتني علي الدكتورة ” جين آن كريج ” في كتابها ” ليس المهم مقدار ذكائك بل كيف تستخدمه ” .

الذكاء العاطفيوعرفتني علي الكاتبه الأمريكية ” إليزابيث جيلبرت ” التي كتبت كتاب ” طعام   حب   صلاة ” وكيف أن هذه العناصر متمثلة  في الإيمان والحب والنجاح وذلك بالعمل المستمر علي بقاء روح هذه العناصر حية في وجدان المرأه حتي لا تتحول إلي مجرد لافتات  بلا قيمه ، وعرفتني علي الكاتبه الأمريكيه ” مارجريت ميتشل ” وروايتها الرائعه ” ذهب مع الريح ” وقد قرأتها باستمتاع وشاهدتها كفيلم حصل علي الأوسكار فقد كنت أشاهد معها أفلام الأوسكار الغربيه حين كانت تأتي بانتظام علي الشاشه .

وعرفتني بعائشه عبد الرحمن ” بنت الشاطئ ” في سيرتها الذاتيه علي الجسر وفي كتابها الضخم ” نساء بيت النبوه ” ، وقرأت من بعد لبنت الشاطئ تفسيرها البياني وعرفت كثيرا من سيرتها وأفكارها عن طريق ” إيمان القدوسي ” التي كانت تتمتع بحسن الحكاية وتبسيط الأفكار وإدخالها إلي النفس والروح  والعقل بسلاسه واقتدار .

عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ
عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ

وعرفتني علي الأديب الهندي ” أرفينجا أديجا ” في روايته النمر الأبيض وكتبت عنها مقالا بعنوان ” رجل نصف مخبوز ” وهي تناقش الديموقراطيه الهنديه وكيف أنها ديموقراطيه شكليه لا تحقق التقدم المرجو للمجتمع فلا هي حققت الديموقراطيه كما يجب ولا حققت التقدم كما يؤمل  هي نصف مخبوزه لم يكتمل خبزها .

وعرفتني بالباحثة الأمريكية في الأنثربولوجي  ” هيلين فيشر ” في كتابها المهم ” لماذا نحب ” وضرورة القبول بالاختلاف بين الزوج والزوجه ومن يشاركوننا العيش بعيدا عن العدسه الورديه التي تركز علي نوع من الحب الخاص الرومانسي الذي لا يستمر طويلا،  بينما العيش المشترك عبر الرفقه والتجارب المشتركه والنضال الحميمي  بعيدا عن الأثره وحب الامتلاك  والأنانيه والتي عبر عنها القرآن الكريم بالسكن والموده والرحمه – هي السبيل لمقاومة ما تواجهه الحياة الزوجيه  والأسريه من مشكلات .

لماذا نحبوعرفتني بالصديق العزيز الدكتور “شاكر عبد الحميد ” رحمه الله  قبل أن ألتقيه  وتتوطد صداقتي به وحضورنا لمؤتمر معا قبل أن ينتقل إلي ربه في مدينة الدمام ،  واهتمت بشكل خاص بكتابه ” الغرابه  ،، المفهوم وتجلياته في الأدب ” ، وعرفتني  ب نبويه موسي ” التي وصفتها بالمعلمه الأولي وكان كتابها الضخم ” تاريخي بقلمي ” يرقد بسلام قريبا علي الكوميدينو المجاور للسرير فتقرأ وتحكي لي وتمدني بزاد رائع عن تاريخ أم التربيه والتعليم في مصر ، كما كتبت عن دريه شفيق ” أيضا ، وكتبت عن ” قوت القلوب الدمرداشيه ” وعن  روايتها ” رمزه ابنة الحريم  ” .

كانت ” إيمان القدوسي ” تكتب بدمع القلب والتجربه والحياه ، وقد عرف موهبتها مكتشف اللآلئ الفكريه الحاج ” حسين عاشور ” رحمه الله صاحب امتياز المختار الإسلامي التي كان يصدر معها ملحقا للنساء باسم ” هاجر ”  والأطفال باسم ” زمزم ” ، وقد كانت هي من  تحررعامة الملحقين كل عدد وكم استفاد من إبداعها الأدبي والقصصي  أجيال متعاقبه  من النساء والأطفال .

تعلمت من ” إيمان القدوسي ” التسامح والسلام النفسي والطيبه والتماس العذر للآخرين ودفع الإساءة بالإحسان ورعاية الصداقه وزرع الأمل والتماس الجوانب الخيره في النفس الإنسانيه ،،  والصفح الجميل ، ، وقبول التنوع والاختلاف ، لقد هذبت فيَّ كثيرا مما كانت نفسي تموج به من الغضب والاندفاع والتسرع حتي استوت علي سوقها ، وكانت هي الوعاء الكبير للنقاش معي في أفكاري أخذا وعطاء وإصلاحا  وكانت هي النافذة التي أطل بها علي  نفسي من فضاء آمن أناقش فيه ما لم ينضج بعد مما أفكر فيه  .

تركت إيمان بصمتها علي أجيال متعاقبه  من الفتيات والأخوات اللاتي تأثرن بمنهجها في التفكير والتربيه والتهذيب والإصلاح ، واتسمت كتابتها بالعمق والأصاله والمعاناه في الجمع بين أجوبة لمشكلات العصر وبين الحفاظ علي روح الشريعة الإسلامية وقيم الحضارة العربية الإسلامية

 لم تشك من أمي رحمها الله أبدا ،  وصبرت عليها حتي أصبحت حبيبة لها وكانت تودها وتزورها بانتظام ،كما كانت أسرتها والدتها وأبوها وأخواتها عونا لي ودعما بلا تردد أو التفات أو تأخر  كانت هي قارب النجاة لي ولأسرتي ولأولادي  ،، أعطت فما استبقت شيئا .

رحمها  الله رحمة واسعة وأبقي أثرها في الخالدين

والحمد لله رب العالمين

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock