رؤى

“10 سنوات يناير”.. كيف كان “الشيخ إمام” أول الحاضرين

فى رواية للشاعر الكبير” زين العابدين فؤاد ” يقول إنه حين التقى بالشارع الراحل ” أحمد فؤاد نجم ” فى ميدان التحرير خلال الأيام الأولى لثورة 25 يناير قال له نجم :” يعنى إمام يموت قبل ما يشوف اللحظة دى ” فرد عليه “زين العابدين قائلا :” سامع إمام بيرد عليك يقول إيه ؟ .. أنا هنا من قبلكم “

هكذا يمكن أن تخزل تلك الرواية حجم الحضور الكبير للفنان الذى رحل قبل ستة عشر عاما من الثورة التي طالما حلم بها وتغنى أملا فيها ومهد الوجدان لاستقبالها

مشروع فني ونضالي

لم يكن الشيخ إمام مجرد مغنٍ وملحنٍ، ولم تكن تجربته تقف عند حدود الموسيقى؛ بل كان رمزًا للرفض والثورة، وأيقونة للثوار، وملاذًا لكل الباحثين عن العدل والحرية في عالمنا العربي.

ولد “إمام محمد أحمد عيسى” في 2 يوليو 1918 بقرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة، لأسرة فقيرة؛ حيث كان والده يقتات من بيع زجاجات لمبات “الجاز”، التي كانت منتشرة في مصر في ذلك الحين، قبل أن تعرف قرى مصر ومدنها مصابيح الكهرباء، وكان الأب يحمل “قفص” الزجاجات على رأسه، ويجوب به القرى المجاورة سعيا للرزق، وكان “إمام” أول من يعيش له من الذكور – حيث مات منهم قبله سبعة – ثم تلاه أخٌ وأختٌ، أصيب بالرمد الحبيبي وفقد بصره في سن مبكرة جدا، بسبب الجهل واستعمال الوصفات البلدية في علاج عينه،

كغيره من المصريين زلزلت هزيمة حرب يونيو 1967 إمام، وسادت نغمة السخرية والانهزامية بعض أغانيها مثل: “الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا – يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار”، و”يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش – تعارف يخلى التحالف يعيش”، و”وقعت م الجوع ومن الراحة – البقرة السمرا النطاحة”، وسرعان ما اختفت هذه النغمة الساخرة الانهزامية وحلت مكانها نغمة أخرى مليئة بالصحوة والاعتزاز بمصر مثل: “مصر يا أمة يا بهية – يا ام طرحة وجلابية “

وقد تميز الثنائي” إمام ” بقدر كبير من الجرأة والمواجهة والحدة في تناول القضايا، ربما لارتباط مشروعه الفني بتيار سياسي كان يمثل دعما فكريا وإعلاميا لهما؛ وهو اليسار المصري الذي تبنى الثنائي وتعامل معه باعتباره صوت المقاومة، ونبض الشعب المصري الذي يحمل خطابا يساريا، ويتجلى ذلك في كلمات أحمد فؤاد نجم وكل الشعراء الذين تغنى بكلماتهم مثل بينهم فؤاد قاعود حيث قدم له ١٤ أغنية أهمها: “العزيق- وهبت عمرى للأمل- البياع لبان دكر- أحزان القرد- لكل فعل رد- الماريونيت – امسك يا بوليس- حي على الكفاح- الشجرة بتخضر- بنات الأنفوشي- شايفة القمر يا خضرة- الحمام الحر- حبيبتي بنت أرض- دردشة- على الربابة”، وأبو الحسن سلام والذي قدم له الشيخ أغنية “بنادي على كل واحد في مصر”، كما قدم من كلمات بيرم التونسي أغنيتي “صوت العرب” و”موال بالحق بالعقل” كما غنى للشاعر زين العابدين فؤاد عدد كبير من الأغنيات منها “اتجمعوا العشاق” و” الفلاحـين” و “يا شمس يا للي هلة” و “أنا الشعب”، وسيد حجاب الذي قدم له أغنية “حطة يا بطة”، وعبد الرحمن الأبنودي الذي قدم له أغنية وحيدة هي “صحيت مدينتنا “

https://www.youtube.com/watch?v=afqG8Z8l5UM

الغناء للإنسانية

يتسم مشروع إمام الفنى بوجود قوى لحس الطبقات الفقيرة وأيضا يتسم بوطنيةٍ وشعورٍ قوميٍّ واضحٍ؛ فنجده يغني لفلسطين ولبنان والجزائر، وينعي موت جيفارا، ويصرخ من وجع نكسة يونيو، ويتباكى بسخرية موجعة على جنودنا بالجبهة، ويصرخ في وجه الانفتاح وأمريكا وزيارة نيكسون وتجار البوتيكات، ويسخر من الحكام ويوجه لهم نقدا لاذعا، ليتحول صوت إمام عيسى وكلمات أحمد فؤاد نجم إلى سوطٍ على ظهرِ كل نظامٍ وطلقاتٍ دائمةٍ وموجعةٍ لا تتوقف أمام الاعتقال والسجن والمطاردة، ويتلقفه طلاب الجامعات والنقابات العمالية والمهنية وتجمعات المثقفين الوطنيين وينطلق صوت الشيخ إمام إلى عواصم عربية عديدة؛ ليتحول من مجرد مطرب وملحن إلى أيقونة للنضال والمقاومة في كل مكان، ورغم رحيله إلا أنه يزداد حضورا يوما بعد يومٍ، ربما لأن تجربته هي الأكثر تميزا في مسار أغنية المقاومة، ولأنها امتلكت مشروعا متكاملا تجاوز مجرد مقاومة نظام حكمٍ بعينه إلى مقاومة سلبيات وإخفاقات في عصور وأنظمة حكم مختلفة ومتباينة، وتبقى تجربة “إمام – نجم” التجربة الأبرز حتى الآن رغم وجود تجارب أخرى عديدة في تاريخ الأغنية الوطنية

في منتصف التسعينيات آثر الشيخ “إمام” – الذي تجاوز السبعين من عمره – العزلة والاعتكاف في حجرته المتواضعة بحي الغورية، ولم يعد يظهر في الكثير من المناسبات حتى توفي في هدوء في 7 يونيو 1995، تاركا تراثا فنيا ونضاليا عظيما يستدعيه الوجدان الشعبي في لحظات المِحَن وأوقات الثورة، ويعاد اكتشافه يوما بعد يوم، وتعاد تقديم أعماله بتوزيع مختلف وحديث وبعدة أصوات.

https://www.youtube.com/watch?v=YeHxFBv58PQ

الشيخ فى ميدان التحرير

كانت أغنيات الشيخ إمام الأكثر حضورا فى ميادين التحرير وكان صوته الأعلى بين الجميع  . فقد غزل الثوار من موسيقاه نشيدا للتمرد ومن كلمات أغنياته جسرا للوصول لكل الغاضبين والحالمين بالعدل والحرية والكرامة والتفت حلقات الشباب خلال أمسيات الاعتصام حول أغنيات الشيخ يرددونها بحماس منقطع النظير .

قبيل اندلاع الثورة بعقد من الزمان ظهرت على الساحة الفنية فرقة “اسكندريلا ” التى أسسها العازف والملحن “حازم شاهين واعتمدت بشكل كبير على تقديم أغنيات الشيخ إمام بتوزيع جديد أكثر عصرية وحققت نجاحا كبيرا فى أوساط الشباب وكانت مدخلا مهما لتعريف أجيال جديدة بأغنيات الملحن والمغنى الراحل.

لكن الفرقة التى بدأت فى مدينة الإسكندرية سرعان ما توقفت لتعاود نشاطها مجددا عام 2005 فى أجواء كانت الفرق الموسيقية المستقلة تستعيد وجودها الذى توقف منذ بدايات تسعينيات القرن العشرين

وبعد أن صنعت انتشارا واضحا خلال تقديمها لأغنيات الشيخ إمام قدمت الفرقة عدد من الأغنيات الخاصة بها والتى كتبها عدد من الشعراء من بينهم أمين حداد

ومع انطلاق ثورة يناير كانت “اسكندريلا ” حاضرة منذ اللحظة الأولى ليس فقط باعتبارها فريق موسيقى لكن الأهم باعتبارهم ثوار يغنون على أرصفة الميادين فيتجمع المئات يرددون معهم ” حاحا ” و” كل ما تهل البشاير” و”اتجمعوا العشاق ” وغيرها من أغنيات الشيخ إمام التى رددها خلال مسيرته ومازالت صالحة للغناء وقادرة على التعبير عن لحظة الثورة العارمة .

وما أشبه يناير “1977 ”  بيناير “2011 ” كلاهما يؤكد معنى “كل ما تهل البشاير من يناير كل عام …. يدخل النور الزنازن يطرد الخوف والظلام “

عزة بلبع وأحمد إسماعيل

سيطرت موسيقى “إمام عيسي ” وأغنياته على منصات ميادين التحرير فقد كان حضوره قبيل اندلاع الثورة من خلال ما قدمته الفنانة الكبيرة ” عزة بلبع “من حفلات طوال العقد الأخير من القرن العشرين حيث قدمت عشرات الحفلات وشدت بكل تراث “إمام عيسى ” ومنحته روحا جديدة بوصتها الساحر القوى

ومع اندلاع الثورة كانت “عزة بلبع ” تتغني كل يوم على منصات التحرير ويردد عشرات الآف معها أغنيات إمام عن ظهر قلب ويملأ الحضور الاستثنائى مصر كلها فى لحظة الثورة  وتعبر “بلبع ” أحد أكثر الفانين المصرين الذين تواجدوا طوال مدة اعتصام ميدان التحرير

فى الوقت نفسه فقد كان الفنان المبدع والملحن المميز “أحمد إسماعيل ” أحد الذين حملوا تراث الشيخ إمام طوال العقود الأخيرة حاملا عوده وصوته العذب إلى كل ربوع مصر يغنى للشيخ ويمنح لموسيقاه من روحه المتجددة ألقاء جديدا وعندما جاءت لحظة الثورة كان “إسماعيل ” من أوائل من لبوا نداء الثورة وانطلق صوته فى الميدان بأغنيات “مصر يا أمة يا بهية ” و”حاحا ” وغيرها من روائع إمام عيسي .

جلس “إسماعيل ” خلال 18 يوم هى عمر الاعتصام الشهير فى ميدان التحرير يغنى للثوار ويستلهم روح الشيخ إمام التى حلقت فى الميادين بقوة .

هكذا يمثل الفن الحقيقي الذى لا يغيبه الزمن بل يظل حاضرا ومتجددا خاصة ذلك الفن الذى قدمه “إمام عيسى ” الذى عبر بصدق عن حلم التغيير وتمرد على كل ما هو قبيح وظالم واختيار الإنحياز للغالبية من البسطاء والتعبير عن أحلامهم … لهذا وأكثر كان “إمام ” أول الحاضرين إلى الثورة التى طالما حلم بها وبشر بحدوثها وسيظل حاضرا مع كل حراك ثورى يسعى إلى الأفضل وينشد قيم العدل والحرية التى دفع من أجلها ” إمام ” سنوات من عمره مطاردا وسجينا وفقيرا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock