«كل شعب عظيم ينبغي عليه إذا أراد أن يستمر طويلا في الحياة، أن يؤمن بأن فيه، وفيه وحده، يستقر خلاص العالم، وبأنه يحيا كي يربط الشعوب جميعا حوله، ويقودهم في جماعة موحدة صوب غاية نهائية عليه أن يعهد بها إليهم جميعا» .. هكذا عبر دوستويفسكي في «يوميات كاتب» عن وعيه ورؤيته لدور شعبه في توحيد وخلاص العالم، فهل نجح حقا عبر مجمل كتاباته في أن يغوص بعمق العالم ليرسم له معالم طريق الخلاص؟
نيقولا برديائف في كتابه «رؤية دوستويفسكي للعالم» الذي نقله للعربية الدكتور فؤاد كامل يبحر بأعماق عالم دوستويفسكي المسكون بأرواح «المستذلين والمهانين» وأبطال «دار الموتى» وصراعات «الأخوة كارامازوف» وعالم «الجريمة والعقاب» في محاولة لمجابهة الشر بحثا عن مصير «الفتى الروسي» الذي طالما تحدث عنه وسعيه نحو الحرية والخلاص وصولا للحب على الطريقة الروسية «أواه، يا لها من طريقة قاتلة تلك التي بها نحب! وكأننا في العمى الذي تصيبنا به العواطف الجامحة ندمر –بأشد الطرق توكيدا- أعز الأشياء إلى قلوبنا» .. عله يتماس مع عالم«الممسوسين» بروح الثورة كخطوة أولى لسلك طريق الخلاص.
«الروح تحت الأرض»
يستهل نيقولا برديائف حديثه عن رؤية عالم دوستويفسكي بالإشارة إلى أنه كان يمتلك موهبة مميزة في إدراك تلك الحركات الصاخبة التي تموج بها النفس الإنسانية حيث جاء فنه العظيم تعبيرا عما يكمن بلاشعور الإنسان في حالات الجنون والجريمة ومناطق تعميد ثورة الروح فهو من داوم على التبشير بالثورة كخطوة أولى نحو التحقق.
يتسأل البعض هل كان دوستويفسكي واقعيا؟ .. ربما كان دوستويفسكي نفسه يحب أن ينظر إليه بوصفه واقعي وأن واقعيته هى واقعية الحياة ذاتها! .. ولكن كيف يمكن النظر لإزدواجية الروح ذلك الموضوع الأساسي الأثير لديه على أنه موضوعا ينتمي للفن الواقعي، فلديه خلف تفاصيل الحياة الواعية يتخفى عالم كامل من اللاوعي، وبعمق هذا العالم اللاواعي تكمن استشفافات رؤية البشر التي يتواصلون من خلالها فيصيروا مقيدين بعضهم لبعض بحلقات لا تنتمي لهذا العالم الدنيوي، فلا مجال بأدب دوستويفسكي للمصادفة التي تعم العالم الواقعي وإذا كان لابد من تسميته بالواقعي فلتكن «الواقعي الصوفي» وفقما أطلق عليه نيقولا برديائف.
أتت رواية «الروح تحت الأرض» لتقسم مؤلفات دوستوفيسكي إلى قسمين فعالم مؤلفته فيما قبلها يختلف كثيرا عما بعدها، كان فيما قبلها «نفسانيا» وصاحب نزعة إنسانية بذات الوقت يتعاطف مع «المساكين» و«المستذلين والمهانين» ومع أبطال «دار الموتى». غير أنه في «الروح تحت الأرض» يبدأ في خوض رحلة جديدة نحو تعقب مأساة الروح الإنسانية حتى آخر شوط لها محتفظا بروحه الإنسانية ذاتها بالطبع ولكن مضاف إليها رؤية جديدة تتخذ من المأساة الإنسانية محور لها.
«المراهق»
عبر دوستوفيسكي بمختلف أعماله عن شكوكه ومتناقضات روحه وصار مصير أبطاله في كثيرا من الأحيان تعبيرا عن مصيره ذاته، كان الإنسان ومصيره هو الشغل الشاغل له، ودائما ما كانت روايته تُبنَى حول شخصية مركزية تمثل لغزا يجتهد في كشف الحجاب عنه فعلى سبيل المثال في روايته «المراهق» تدور الرواية في مجملها حول شخصية «فرسيلوف» وكل شيىء بالرواية جاء من أجله فليس لباقي شخصيات الرواية من هدف سوى الكشف عن سر شخصيته وسر مصيره الغريب.
بذات البناء المركزي الذي يدور حول شخصية واحدة ينطلق في راويته «الممسوسين» فبطل الرواية نجم تدور حوله كل حركة فهو كالشمس يخرج منه كله شيىء وتعود إليه كل الأشياء وباقي شخصيات الرواية ما هم سوى شظايا منه والفكرة الثورية التي تستحوذ على الرواية تتمثل في مصير ذلك البطل فأساس الوجود لدى دوستويفسكي لا يمكن التعبير عنه بالظروف الثابتة الساكنة للحياة اليومية ولكنه يظهر للنور عبر تيار من النار التي تصهر كل الأشكال الدائمة وتبيد كل الأطر الإجتماعية الجامدة المتحجرة.
أبحر دوستويفسكي بعالم الأنثربولوجيا «علم دراسة الإنسان» درس الطبيعة البشرية في محاولة للكشف عن أعمق طبقاتها وأشدها احتجابا مستعينا بالفن كوسيلة لوضع الإنسان بتلك الظروف الاستثنائية مع استبعاد كافة التكوينات الخارجية مقوضا الأسس الاجتماعية المحيطة به، فما أعمال دوستويفسكي سوى محاولة للكشف عن جوهر الإنسان في جو يشوبه الوجد واللهب، فلا شيىء ساكن بعالمه، كل شيىء متدفق ينبع من الحمم الملتهبة الكامنة بأغوار النفس الغامضة والسحيقة.
الحرية تاج الإنسانية الأوحد
تناول دوستويفسكي الإنسان متحررا، متجردا من القوانين، متتبعا مصيره الحتمي الذي لا يتجلى عبر ذاك الوجود السوي المستقر على أرض راسخة وإنما يتجلى مصير الإنسان لديه بتلك اللحظة التي يقف فيها في مواجهة نظام حياته المستقر، حين ينتزع نفسه من طبيعته الساكنة ويلقي بها في جحيم المدينة بحثا عن تلك الحالة من التطهر.
لم يهتم دوستويفسكي بالإنسان إلا خلال لحظات حركته العاصفة وهو يهبط إلى تلك الهوات السحيقة المظلمة بحثا عن شعاع النور الكامن بأغوار روحه والذي لا يظهر للسطح إلا عبر تصادم قطبي النفس «الخير والشر .. النور والظلمات» أنه تمزق مأساوي ينفذ إلى أعماق حياة البشر .. ووفقا لرؤية دستوفيسكي لن ينقذ العالم سوى الجمال فلا شيىء عنده يعلو على الجمال ويتجلى الجمال لديه في روح الإنسان ذاته.
بلغت الحرية الثائرة لدى أبطال دوستويفسكي أقصى درجات التوتر فهم يجسدون المصير الإنساني كله ولا سبيل لفكرة الانسجام الشامل لديه دون تصور حرية الشر والخطئية حيث عارض كل انسجام أساسه القهر الاجتماعي، فالحرية كما تصورها توجد باستمرار محمولة داخل حركة تكشف متناقضات الباطن.
ترتبط أزمة الحرية لدى دوستويفسكي بمشكلة الشر والجريمة فلا تفسير للشر بدون حرية فالشر يظهر على دروب الحرية وكذلك الخير يوجد أيضا على دروب الحرية، غير أن الخير النابع من الحرية يعدسر الحياة جميعا، وبذلك تمتلك الحرية القدرة على خلق الخير والشر في آن واحد.
عالج دوستويفسكي الشر على نحو يتسم بالمقارنة ورفض تناوله من وجهة نظر القانون فالشر لديه هو الشر وطبيعته «جوانية وميتافيزيقية وليست برانية اجتماعية» غير أن ما يميز الشر لديه أنه بمثابة طريق ينبغي للإنسان أن يسكله في طريق رحلته نحو الصعود لمستوى إنساني أسمى فهو يرى أن الإنسان حين يستنفذ الشر الكامن بروحه ويستهلكه فإنه بذلك يتخلص من «قدره من الشر» وبذلك يمكنه أن ينطلق نحو طريق النور.
«هل كل شيىء مباح؟»
«هل كل شيىء مباح؟» .. كان هذا هو التساؤل الذي طالما أرق دوستويفسكي ودفعه نحو خوض غمار روايتي «الجريمة والعقاب» و«الأخوة كارامازوف» وفيهما يتعرض لمحنة علاقة الإنسان بسلك طريق الحرية، وطريقة تعامله حين يجد نفسه أمام «ورطة .. هل توجد حدود أخلاقية لطبيعته؟ .. أم أنه يستطيع المجازفة بفعل كل شيىء؟» .. هنا يجد الإنسان نفسه على المحك في اختبار قواه وحدود سطانه!
ما من أحد غاص بصنوف العذاب والندم التي يتعرض لها ضمير الإنسان حين يقع في براثن الجريمة مثلما فعل دوستويفسكي فعبر غوصه بأقصى أعماق النفس الإنسانية تمكن من التعبير عن مختلف صنوف القلق التي تصيب الضمير الإنساني فالرأى العام وقانون الدولة لا يعادلا شيئا أمام ضمير الإنسان وقلقه، هنا يصبح ضمير الإنسان أشد قسوة من القانون المدني بكل صرامته وجديته.
دين الحب
تناول دوستويفسكي الحب وطرح أزمة الشهوانية إلى أقصى مدى لها واستطاع من خلال ثنائية «الحب والشهوانية» أن يطرح قضية الخير والشر، لينتهي من رحلته إلى التوصل بأن الحب الحقيقي هو ذاك الحب الذي نشعر به تجاه الآخر، إنما «الفجور» بعينه فهويتجسد في حب الذات.
المسيحية لدى دوستويفسكي هى «دين الحب» حيث يرى أن المسيح الروسي هو أولا وقبل أي شيء رسول الحب اللامتناهي غير أنه ما لبس أن طرح في روايته «أسطورة المفتش الأكبر» قضية «الحب الملحد» وهو الحب المضاد للمسيحية ويقصد به إنكار الإله تحت دعوى نزعة سعادة البشر التي نادت بضرورة اتحاد الحب بالحرية.
الثورة لدى دوستويفسكي هى المصير المحتوم للإنسان فنمو الطغيان لا يعقبه إلا الثورة، والثورة وليدة الطغيان والظلم الاجتماعي وفي راويته «أسطورة المفتش الكبير» يستطيع القارىء أن يقف على معالم ذاك الصراع الدامي بين «الحرية والقهر» وكيف يكمن أن تمتد روح الثورة لأجيال ممتدة عبر استمرار أفكارها على أيدي قلة من الثوريين.
بظهور دوستويفسكي خلال القرن التاسع عشر نبتت بروسيا روحا جديدة لم تعرفها من قبل وها نحن بالعالم العربي مازلنا نقرأ أعماله كي نستشف منها شعاع النور الذي يقودنا نحو سلك طريق الثورة بحثا عن الخلاص.