بقلم: شادي لويس – نقلًا عن صفحته على الفيسبوك
في ليلة 27 كانون الثاني/يناير 2011، اجتمع القس فوزي خليل، مع العشرات من شباب كنيسته الإنجيلية بقصر الدوبارة، وعدد من شباب كنيسة مصر الجديدة الإنجيلية، ورموز شباب الثورة، في أحد البيوت، للاتفاق على الملامح النهائية لتحركات اليوم التالي، والمسيرة التي سينضمون إليها ضمن فعاليات “جمعة الغضب”.
في الصباح، توجه خليل، حسب الاتفاق، إلى مسجد النور بالعباسية، ليلتقي زمرته، ويلتحقوا بمئات المصلين الذين أنهوا للتو صلاة الجمعة، متوجهين إلى ميدان التحرير سيراً على الأقدام، على وقع الهتاف: “الشعب يريد إسقاط النظام”. في صباح اليوم التالي، ومع نزول القوات المسلحة إلى الميادين، اجتمع مسؤولو كنيسة “الدوبارة” التي لم تكن قد أتخذت موقفاً رسمياً من الثورة، حتى لحظتها، لمناقشة الأمر. وبينما كان مبنى الكنيسة الواقع على بعد أمتار من ميدان التحرير، محاصراً بمدرعات الجيش، اتفق المجتمعون على توجيه دعوة لأعضاء الكنيسة، من الأطباء والصيادلة، للمشاركة في عمل العيادات الطبية في ميدان التحرير، وتحويل مبنى الكنيسة إلى نقطة لتلقي وتخزين المعدات الطبية والأدوية من الصيدليات، وتوزيعها لاحقاً على العيادات الميدانية.
ظهيرة الأحد، 30 كانون الثاني/يناير، كنتُ قد تسمّرتُ بقلق أمام شاشة التلفزيون في انتظار الحدث الجلل، فقد أعلنت الصحف حينها أن الكنيسة الأرثوذوكسية وافقت على إيفاد أحد قساوستها لإحياء قدّاس في ميدان التحرير، لتأبين ضحايا الثورة. كان توجسي مبرراً، فالبابا قد أذاع بياناً في اليوم السابق، يعلن فيه تأييده لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. وتعاليم الكنيسة الأرثوذوكسية لا تسمح بإقامة القداديس في الهواء الطلق، من دون هيكل. دعك من خطابها التقليدي الرافض للتمرد على السلطات الدنيوية: “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”. وبالرغم من تطمينات صديق قبطي في المهجر، ينتمي والده للسلك الكهنوتي، وتأكيده لي بأن الأمر قد حسم، وأن أحد القساوسة كان في طريقه إلى الميدان، إلا أن جماهير التحرير المنتظرة للقس، الذي لم يأت أبداً، كانت على وشك أن تلاقي خيبة أمل، حتى صعد القس فوزي خليل، ومعه فريق كورال كنيسته، إلى منصة ميدان التحرير، ليقودوا التراتيل والصلوات في أكبر ميادين القاهرة، وربما للمرة الأولى في تاريخ مصر.
كان المشهد أحد أكثر لحظات الثورة هيبة على الإطلاق.
الكنيسة الإنجيلية ومنتسبوها الذين يقارب عددهم في مصر المليون شخص، كانت الأكثر استعداداً للاشتراك في الثورة واللحاق بركبها. فتراثها يرتبط بتاريخ نشأتها في الغرب. وهي بالتعريف “بروتستانتية”، أي كنيسة للتمرد على السلطة الدينية والدنيوية للباباوية الكاثوليكية. كما أن تقاليدها في الإنخراط بالعمل العام، التي ترجع إلى نشأتها في مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر، والمرتبطة بأنشطة الإرساليات البروتستانتية الغربية الإجتماعية والتعليمية، وقيم البروتستانتية الأنجلوساكسونية، المتمحورة حول الفردية والحريات الشخصية، والمسؤولية الإجتماعية للمؤمن تجاه العالم، منحتها حرية أوسع للحركة، مقارنة بكنيسة الغالبية القبطية التي كبّلتها “تقية” ألفي عام من الاضطهاد الروماني ومن بعده البيزنطي، وتبعات الحروب الصليبة، وعسف السلطات المملوكية. فوق ذلك كله، تأثرت الكنيسة القبطية بالتوازنات الدقيقة لنظام الملّة العثماني، وتبدو كنيسة الغالبية القبطية اليوم، ابنته الشرعية، الوفية لتقاليده.
منح انخراط الكنيسة الإنجيلية، شبة الرسمي، في الثورة، زخماً إضافيا لحراكها، مسبغاً على الثورة صفة الوحدة والتنوع الوطني. وفي الوقت نفسه، كان تأثير ذلك الاشتباك في لاهوت الكنيسة الأنجيلية إستثنائياً وعميقاً. ففي الأيام الأولى لاعتصام التحرير، ألقى أحد قساوسة كنيسة “الدوبارة” الأنجيلية، إيهاب الخراط، كلمة على منصة ميدان التحرير، كان ختامها: “من ألفين سنة، كان فيه شاب زيّكم ثار على فساد ورياء وظلم عصره، ومات شهيداً زي شهداء الثورة، الشاب ده كان المسيح عيسى ابن مريم”. وبينما انطلقت حشود التحرير على أثر تلك الكلمات التي ألقاها الخراط، بحماسة نارية، في الهتاف: “الله أكبر… الله أكبر”، كانت خاتمة الكلمة القصيرة، على بساطتها، تأسيساً لخطاب بروتستانتي فريد واستثنائي في مصر.
تأكيد الخراط على أن المسيح كان ثائراً سياسياً ومُصلحاً اجتماعياً، لا مخلّصاً إلهياً، وأن صَلبه كان استشهاداً في سبيل قضية إنسانية، لا فداءً للعالم من الخطيئة الأصلية، تبنى مفهوم “المسيح التاريخي” الذي تطور في أوروبا في القرن الثامن عشر، على حساب مفهوم “المسيح اللاهوتي”. كانت أنسنة الخراط للمسيح وضم شهداء الثورة، إلى زمرته، في أخوية نضالية ضد الفساد والظلم، امتداداً لخطاب “اللاهوت التحريري”، الذي طوّرته الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية منذ الخمسينات، كلاهوت منحاز للفقراء ومعاناتهم، مدفوعاً لتأطير ممارسة معاشة ونضال عملي ضد السلطات القمعية والأنظمة الاجتماعية الظالمة، كركن أساسي من التجربة الإيمانية ومسؤولية المؤمن تجاه العالم.
تخطى لاهوت الخراط العيادات الميدانية في ساحات كنائس الدوبارة، ومصر الجديدة الأنجيلية، ومنصات التحرير وتراتيل كورال الكنيسة عليها، ليتحول إلى انخراط مباشر في السياسة الصرفة. خاض الخراط نفسه، انتخابات مجلس الشورى بعد الثورة، على قائمة حزبه “المصري الاجتماعي”، وفاز بعضوية المجلس، كأول مصري بروتستانتي منتخب إلى هيئة تشريعية في تاريخ مصر الحديث. وحصلت الطائفة الإنجيلية على مقعدين بالتعيين في المجلس نفسه، بالإضافة إلى مقاعد بالتعيين في لجنة إعداد الدستور الأولى والثانية بعد الثورة.
أطلقت قناة “السات سيفن” الفضائية، والمحسوبة على الطائفة الإنجيلية، برامج تلفزيونية سياسية للمرة الأولى منذ تأسيسها، واستضافت كنائس الطائفة، لقاءات وورش عمل سياسية وفاعليات ثورية، على مدى الأعوام الأربعة الماضية. دفع إعلان الرئيس المعزول محمد مرسي الدستوري، لإستقالة الخراط من مجلس الشورى، وتعليق أعضاء لجنة كتابة الدستور الإنجيليين لعضويتهم فيها. وأيدت غالبية الوجوه الإنجيلية المنخرطة سياسياً، حركة “تمرد”، وتظاهرات 30 يونيو 2013، لكن تطور الأحداث الدموية اللاحق، دفع الكنيسة الإنجيلية وأعضائها بعيداً من اتخاذ مواقف علنية حاسمة من الأوضاع السياسية المتدهورة.
وبينما سجل 30 يونيو، نقطة فاصلة لتراجع انخراط الكنيسة الإنجيلية في ساحة العمل السياسي، المغلق على الجميع اليوم، تركت الثورة بصمة عميقة في تاريخ المصريين الإنجيليين، ولاهوت كنيستهم. كان أبلغ تلخيص لذلك، هو تصريح رئيس المجلس الأعلى للكنيسة الإنجيلية، القس أكرم لمعي، نهاية العام 2014، عن الثورة وتبعاتها في الكنيسة: “لدينا فرصة ذهبية في اللحظة الراهنة، لم تتح للكنيسة من قبل، وهي أن تفكر خارج الصندوق، وأن تبدع في أدوار تقوم بها من خلالها، تُعمق أولاً وطنيتها ككنيسة مصرية ثم تعمق ثانياً دورها السياسي بتقديم كوادر علمانية سياسية قادرة على الوصول إلى الحكم المحلي ومجلس النواب، والإعلام والصحافة، وكذلك تتوسع في دورها الاجتماعي الاقتصادي لتغيير وجه مصر في المستقبل. إن المجال مفتوح تماماً الآن، وليس غداً، لكي تكون الكنيسة الإنجيلية رقماً ضخماً واضحاً في صنع مستقبل مصر”.
وإذ تتركنا كلمات لمعي، على أمل في المستقبل، فإنها تؤكد لنا أيضاً، بثقة، أن ثورتنا كانت أعمق مما تصورنا، وإن بذاراً لها قد زُرعت في هذا الوطن، صار لها أن تؤتي ثمارها، وربما أقرب جداً مما لنا أن نتصور.
نشر في المدن في يناير 2015