مختارات

الحركة الإسلاموية في عالم يتغير

بقلم: حسين عبد الغني. نقلا عن موقع مصر 360

في هذه اللحظة، نشهد نحن العرب التاريخ وهو يصنع أمام أعيننا في اتجاه نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بما يطرحه من تحديات وما يطرحه من فرص. ومن هذه الفرص الهامش الكبير للحركة الذي سيتيحه هذا النظام العالمي الجديد لنا كدول متوسطة أو صغيرة للحاق بركب التقدم وإنجاز نهضتنا وحداثتنا التي تعثرت عقودا. وإذا كنا نفكر في اقتناص هذه اللحظة التاريخية وعدم إضاعتها كما أضعنا كثيرا مثلها من قبل فلابد لنا من مناقشة صريحة حول مستقبل تيار واسع متعدد الفصائل -كان للأسف الشديد – أحد أهم المعوقات التي عرقلت مسيرة النهضة والحداثة العربية في المائة عام الأخيرة وهو التيار الذي عرف بـ«الإسلام السياسي» أو «الحركي»، والإسلام العظيم منزه عن أن ينسب إليه أو ينفرد به اجتهاد تيار واحد من تياراته مهما نسب نفسه للدين الخاتم.

من دون معرفة مستقبل هذا التيار وفرص إدماجه في الدولة الوطنية الحديثة -التي أقام مشروعه على معارضتها واستبدالها بدولة خلافة لم يعد لها مكان في العالم- سيظل حجر عثرة  كؤود يعرقلها ويوقف تقدمها كما فعل منذ عشرينات القرن العشرين وحتى عشرينات القرن الواحد والعشرين.

يجادل هذا المقال بأن الضربات الشديدة والمتلاحقة التي تعرض لها هذا التيار في السنوات الثماني الأخيرة سواء في وجهه الإرهابي (سقوط داعش والدولة الإسلامية وفشل تيارات القتل والعنف في هدم سوريا دولة ومجتمعا من ناحية، وسقوط الإخوان المسلمين في مصر والسودان وليبيا والمغرب وتراجعهم الواضح في تونس من ناحية أخرى) لا تعني أبدا أنه قد انتهى إلى الأبد. وأن الفرضية شبه السائدة التي تقول إن الإسلام الحركي بوجهه العنفي أو السياسي لن تقوم له قائمة بعد الآن هي فرضية متعجلة شديدة التعجل أو التمني لا تلاحظ عواملا مركزية ساهمت في وجود وانتشار هذا التيار ولا تزال:

داعش
داعش

لم يتمكن دين سماوي منذ ظهر الوحي في التغلغل إلى قلب أتباعه كما فعل الإسلام وبالتالي فالأمة العربية شأنها شأن بقية الشعوب المسلمة هي أمة متدينة يحرص أبناؤها أشد الحرص على اتباع الدين وعدم الوقوع في حرامه وحرماته، وقد استغل هذا التيار وبالتحديد منذ رشيد رضا وحسن البنا هذا الشعور الديني الجارف ليبني أسطورة وهمية عن أن الإسلام في خطر، رغم أن البلدان العربية كلها محكومة بحكام مسلمين والأغلبية الساحقة من شعوبها مسلمون ورغم أن  قوانينها الحديثة صيغت بعناية بحيث لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية بجهود فقهاء أساطين من وزن السنهوري باشا وتلاميذه ومدرسته التي امتدت لمعظم البنية القانونية العربية.

لاحظ هنا الاعتراف!! الذي يهدم أساس مشروع الإسلام الحركي على لسان مرشد الإخوان الثاني حسن الهضيبي وقد كان نفسه قاضيا بأن «أكثر من ٩٠٪ من القوانين مطابقة للشريعة الاسلامية».

ماتسببت فيه مرحلة ما عرف بـ«الصحوة» في نشر مهول غطى العالم الإسلامي كله لتراث متشدد حمل على كل الفرق الإسلامية ليس فقط خارج مذهب أهل السنة ولكن أيضا داخل المذهب السني من أشاعرة  وإباضية وظاهرية ومعتزلة وصوفية عقلية ونقلية. هذا التراث خلق ما يسميه الباحثون في علم الاجتماع الديني من ناحية فائضا من التدين منع المسلمين من عمران الأرض وحل مشاكل دنياهم كما أُمروا في مقاصد الإسلام الكبرى، ووضع من ناحية أخرى الأساس الفكري الذي بنت عليه حركات العنف الإرهابية مسوغات القتل وإباحة الدماء.

حسن البنا
حسن البنا

الاستخدام السياسي المتكرر والمستمر من القوى الدولية لفصائل السلام الحركي في إطار محاولتها السيطرة أو إبقاء السيطرة على منطقتنا العربية بموقعها وثرواتها، ففي مرحلة الاستعمار القديم للامبراطورتين البريطانية والفرنسية كانت هذه القوى حليفة للمحتلين لسببين:

الأول، هو أنها أعادت حركة النهضة إلى المربع واحد، فبعد أن كان التحدي هو كيف نتقدم وبالتالي نمنع الغرب من استغلالنا ونهبنا مستغلا تفوقه علينا، زعم تيار الحركية الإسلاموية أن التحدي هو تحدي الهوية ومواجهة الحضارة الحديثة وتغريبها، وكان هذا الحرف الخاطئ لتوجه الحياة العربية يصب في صالح الاستعمار.

والسبب الثاني، هو أنه بينما كانت الحركة الوطنية تنضج في معظم البلدان العربية محددة هدف الاستقلال وبناء الدولة الوطنية المستقلة الحديثة القائمة على المواطنة وحكم القانون كان الإسلامويون يقولون إن الهدف هو إحياء الإسلام «الذي لم يمت يوما ولن يموت إلى يوم البعث فهو محفوظ وكتابه الكريم من الله وليس من بشر»، ومرة أخرى كان هذا الحرف الخاطئ عن الهدف في صالح القوى الغربية.

ثورة 1919
ثورة 1919 وازدهار الحركة الوطنية

وفي مرحلة الاستعمار الحديث أو الإمبريالية كانت هذه الفصائل هي سند الولايات المتحدة في محاربة الاتحاد السوفييتي، ولقد بدأت وثائق الدول الغربية- تكشف عن الدور المؤثر للغاية الذي لعبته هذه القوي الإسلاموية في مساعدة أمريكا لتصبح القطب الأعظم الوحيد وإبقاء المنطقة العربية تابعة لها.

إن الناظر للدور الذي لعبته حركة الإخوان المسلمين العراقية في مساندة الغزو الأمريكي ومشاركتهم المبكرة في مجلس الحكم الانتقالي الذي نصبه بول بريمر أو دعوة الزعيم الروحي للإخوان لحلف الأطلسي للتدخل عسكريا في بلدين عربيين هما ليبيا وسوريا هي مجرد مؤشرات على أنه طالما بقيت القوى الغربية في حاجة إلى استخدام هذه التيارات لإبقاء هيمنتها فستحول دون سقوطها خاصة وأن هذه التيارات ترفع -ظلما- شعار حماية الإسلام وهو الشعار الذي لا يخيب أثره أبدا على شعوبنا والذي هو من حق كل المسلمين وليس جماعة منهم أن تحتكره لنفسها.

الاستخدام السياسي الإقليمي المتكرر من القوى الإقليمية لفصائل الإسلام الحركي بالتنسيق عادة مع القوى الدولية وأحيانا من غيرها: يعرف الجميع أن هناك دولا صغيرة في الأقليم خشيت من تنمر دول أخرى مجاورة بها فاحتمت بهذا التيار الشعبي ورعته ومولته ليكون ظهيرا إقليميا لها، خاصة وأنه ممتد من  الصومال إلي موريتانيا.

الإخوان المسلمون
الإخوان المسلمون

وهناك دول عربية أكبر نسبيا وضعت مواردها الهائلة تحت تصرف المشروع الاستراتيجي  الأمريكي في النصف الثاني من القرن العشرين وحتي منتصف السبعينات في مواجهة تيارات القومية العربية وإيدلوجية التحرر الوطني في المنطقة.

باختصار فإنه ما لم تكف دول أكبر عن التنمر بجاراتها، وما لم تكف دول عن محاولة لعب أدوار إسبرطية طموحة زائدة عن الحد، فإن الطلب على الفصائل الإسلاموية  واستخدامها  كوكلاء في النزاعات الإقليمية سيستمر.

الاستخدام السياسي المتكرر لبعض النظم العربية في مراحل مختلفة صيغة للتحالف مع القوى الإسلاموية لمواجهة خصوم الحكم الداخليين (في الحالة المصرية فقط: استخدام العهد الملكي للإخوان في مواجهة الوفد 1937-1948، استخدام الضباط الأحرار لهم 1952-1954 في مواجهة أحزاب ما قبل الثورة، استخدام الرئيس السادات لهم في مواجهة اليسار بعد حرب أكتوبر 1974-1981، استخدام الرئيس مبارك لهم في مواجهة  إرهاب الجماعات الجهادية 1981-2005).

مبارك

الخبرة المتراكمة لهذه التيارات في المرور بأوقات صعبة وتحملها والعودة بعدها وقد ذكرنا في حالة إخوان مصر فقط خمسة تحالفات في سبعين سنة انتهى كل تحالف بعدها إلى صدام مخيف، ناهيك عن تجربة حكم الإخوان بعد ٢٥ يناير 2011 التي انتهت بالضياع الحالي لهم أو «الدياسبورا الجديدة» .

لكن في كل تجربة من هذه كانت الجماعة تدخل في مرحلة من الكمون، أو تدخل سردابا تحت الأرض تنتظر فيه فرصة الحضور من  جديد، وعندما تأتي لا تتوانى أبدا عن انتهازها والطفو مرة أخرى على سطح الحياة السياسية.

ما يريد هذا المقال أن يقوله أنه بدون مراجعات حقيقية لهذا التيار تُنهي احتكاره للإسلام وكراهيته للدولة الوطنية الحديثة وللمواطنة، وتُنهي شغفه الدائم بالاستيلاء على الدولة الوطنية وإزاحة حكامها ثم تجاوز وإزاحة هذه الدولة نفسها إلى دولة الخلافة ثم أستاذية العالم، لن تتقدم النهضة العربية خاصة وأنه يوجد تيار بهذه الأهمية يعرقلها ويفككك أولا بأول كل ترس للتقدم يُبني فيه.

مظاهرات ضد الإخوان

وما لم تُقدم الدولة العربية على تقديم مشروعات تنمية حقيقية ومستدامة وتفتح مجالها العام للمشاركة المجتمعية وتكرس قيم المواطنة واحترام حقوق الإنسان ستجد هذه التيارات فرصا دائمة لتجنيد الشباب ودفعهم للتشدد ومن ثم للعنف.

إذن لا يختفي بسهولة ولا بمجرد التمني هذا النوع من الحركات الاجتماعية التي تتكئ ولو خطأً على فكرة الهوية والتي تتخذ من أعز ما عند الناس وهو دينهم واجهة تخفي طمعها في الحكم  مهما تعرضت من هزائم أو ضربات أمنية. ولكن قد تُرشد فتُدمج في العملية السياسية أو تذبل تدريجيا ويلفظها المجتمع نفسه، إذا كانت هناك حكومات ومجتمعات قادرة على سد الثغرات التي تنفذ منها هذه الحركات سواء كانت أوضاعا اجتماعية صعبة أو مناخا عاما مغلقا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock