” الدخان واللهب – عن الإبداع والاضطراب النفسى ” هو أحدث إصدارات المفكر والناقد الكبير د.شاكرعبد الحميد ورغم أن اهتمامى ينصرف – أساسا – إلى النقد الأدبى فقد حرصت على تقديم قراءة لهذا الكتاب الهام ويرجع ذلك إلى أن د.عبد الحميد قد جعل من علم النفس علما متاحا للقارىء العام وربطه ليس بالإبداع فقط – وهذا هو تخصصه الأساسى – بل بكل الظواهر التى تمر بالمجتمع ومن ذلك كتابته عن الإرهاب وتحليله لسيكولوجية الإرهابى .
وهو فى ذلك يذكرنا بجمال حمدان الذى عرف الجغرافيا – هذا العلم الجامد – بأنها ” دراسة كل ماعلى الأرض وماتحت السماء ” وجعل الجغرافيا مدخلا لفهم الشخصية المصرية ، كما يذكرنا بجلال أمين الذى أخرج على الاقتصاد – بأرقامه وحساباته – إلى القضايا المجتمعية العامة .
ونحن نعلم أن الاتجاه النفسى منهج من مناهج النقد الأدبى شأنه شأن المنهج التاريخى والواقعى والبنيوى والتفكيكى ، وأظن أن العقاد كان أقرب إلى المنهج النفسى حين كتب ” ابن الرومى حياته من شعره ” وهو يعنى شخصيته كما انطبعت فى شعره .
واستمر هذا المنهج فى أعمال مصرى حنورة ومصطفى سويف ويحيى الرخاوى وبعض أعمال عز الدين إسماعيل لكن مزية شاكر عبد الحميد الكبيرة أنه لم يجعل هذا المنهج مقتصرا على علاقة علم النفس بالأدب بل سعى إلى انفتاحه على جوانب مجتمعية وإنسانية عامة كما ذكرت .
ولأن د.شاكر مولع بتفسير الرموز وباحث فى أصولها وتجلياتها فقد اختار هذين الرمزين ” الدخان واللهب ” الدالين على الاضطراب النفسى والإبداع والحقيقة أننى توقفت كثيرا أمام ماورد عن انتحار الشعراء خاصة صغار السن ورأيت – طبقا لما ذكر فى الكتاب – أن ذلك لا يعود لأسباب ظاهرة فى أحيان كثيرة بل إن العوامل التى تدفعهم إلى الإقبال على الحياة هى المتوفرة كما فى حالة الشاعر المصرى أحمد عاصى الذى صب مادة كاوية على جسده وهو فى السابعة والعشرين من عمره بعد أن أهداه أحمد شوقى إحدى قصائده .
ما الذى يدفع شاعرا فى مثل هذا السن إلى الانتحار بهذه الوسيلة البشعة على الرغم من نجاحه المبكر ومباركة أمير الشعراء له ، قد يكون الأمر مفهوما مع رجاء عليش الذى عانى – على ما قرأنا – من قبح الوجه وكتب قبل انتحاره رواية بعنوان ” لاتولد قبيحا ” معبرا فيها عن مأساته .
فى كل الأحول يظل هناك شىء غامض فقبح الوجه ليس دافعا للانتحار ولا حتى الفقر الشديد الذى كان يعانى منه شاعر مثل عبد الحميد الديب وفى هذا يحضرنى حديث العقاد عن إحدى الكاتبات الغربيات التى كانت تعانى من الفقر الأمر الذى دفعها للانتحار وبعد عدة شهور أعلن فوزها بجائزة أدبية كبيرة فعلق العقاد على ذلك بقوله ” لو أنها صبرت هذه الشهور لتبدل حالها ” .
وهناك من انتحروا بعد أن حققوا نجاحا ملحوظا مثل الروائى الأردنى تيسير سبول على أن أشهر من انتحروا قديما الفيلسوف الإغريقى الأنبادوقليس الذى قذف نفسه فى بركان وقد اتخذ منه عفيفى مطر عنوان ديوانه ” ملامح من الوجه الأنبادوقليسى” .
لاشك أن هذه الحالات ترجع إلى مرض الاكتئاب والاضطرابات النفسية سواء لأسباب ظاهرة أو خفية وهكذا يظل الصراع قائما بين اللهب الرامز للإبداع والدخان برمزيته على هذه الاضطرابات يقول فوكو ” إن اللهب فى حركته الحيوية يبدد الدخان إلا أن الدخان عندما يسقط فإنه يخنق اللهب “
لكن ماهو هذا الاكتئاب ؟ الجميل أن د.شاكر قد اعتمد على تعريف الشعراء له بوصفهم الأكثر تعرضا له ومن ذلك القصيدة التى كتبتها الأمريكية كليمتين فون راديكس بعنوان ” قديس الاكتئاب – الهوس ” والمستوحاة من حياة فان جوخ وعذاباته ونلاحظ فى تلك القصيدة ربط الشاعرة الاكتئاب بالهوس
يطرح الكتاب بعد ذلك سؤالا مهما : هل الاكتئاب والهوس مرض واحد ؟ وإذا رجعنا إلى فان جوخ فسوف نجد علاقات كثيرة بين الهوس الاكتئابى والإبداع .ومن البداهة أن نقول إن الاكتئاب ظاهرة واحدة من الظواهر العديدة التى عالجها الكتاب ومن ذلك الجنون المقدس الذى يعنى به ” نوعا من التلبس أو المس أو الذى تقوم به روح إبداعية مقدسة تنتمى إلى عالم ماوراء الطبيعة تحل داخل أرواح مختارة من البشر إنه منحة مقدسة مباركة من السماء ” وتهمنى الجملة الأخيرة لأنها تختلف عن الرؤية العربية التى تأكدت مع الإسلام حول فكرة الإلهام المرتبط بالشياطين وذلك للتفريق بين إلهام الشعر والوحى القرآنى
ومع العصر الحديث اختفى هذا الوسيط الذى يلقى الشعر فى روع الشاعر وأصبح الشعر إنتاجا من صنع الشاعر وقد فطن أفلاطون وسقراط إلى ضرورة وجود الصنعة فى الشعر بما يعنى أنه ليس منحة خالصة واشترط سقراط وجود الصنعة والإلهام وهذا ماعالجه العرب تحت عنوان الطبع والصنعة .
وفى محاورة القوانين يقول أفلاطون ” عندما يحتسى أحد الرجال النبيذ فإن أثره الأول المباشر فيه هو أنه يجعله أكثر مرحا مما كان ..” وهذا قريب من قول أبى نواس :” صفراء لاتنزل الأحزان ساحتها / إن مسها حجر مسته سراء ” .
يتحدث د.شاكر – بعد ذلك – عن رؤية باختين للكرنفال الذى يعد فرصة للمرح الصاخب والانبهاج وهو طقس يبدأ عند لقاء الشتاء بالصيف كما أنه تعبير رمزى عن ذوبان الفروق بين الطبقات العليا والدنيا .
هذا الكتاب زاخر بالقضايا التى تحتاج إلى الكثير من المقاربات لأهميته البالغة