ثقافة

إبراهيم عبدالمجيد و” طيور العنبر”: إسكندرية في الخمسينات (١) 

بمثل ماحدث معي وأنا أقرأ ” لا أحد ينام في الإسكندرية  ” للصديق “إبراهيم عبد المجيد” حدث الشيء نفسه ، وأنا أقرأ الجزء الثاني من ثلاثيته المُبهرة عن مدينته الجميلة والساحرة ، والتي تُسمى ” طيور العنبر ” فقد أخذتني من كل شاغل ، وغيبتني إلى عالم ساحر جميل ورائع، ففي خلال أيام قلائل انتهيت من تلك الرواية البديعة والرائعة ، رغم تمام صفحاتها ال٤٠٠ صفحة ، وحروف كلماتها الصغيرة المُجهدة لمن هم في سنوات عمري ،فجمال اللغة العربية الفصيحة كانت خير حافز ، حتى إذا سُئلت ماهو مفتاح الشخصية لتلك الرواية الرائعة لقلت لك عَلى الفور ، إنها ” اللغة الجميلة ” والتي معها اكتملت المعاني ، وتعرفت بالشخصيات ، وأدركت روح المكان ، حتى تبدو وأنت في الصفحة الأخيرة سائلاً نفسك ، هل تنتهي حقا سيرة “كاتينيا ” اليونانية صاحبة الأتيليه ، أو ” سليمان عبدالباسط ” المُثَقَّف  والأديب السيئ الحظ ، أو أبلة “نرجس ” وابنها كروان الصبي الموهوب ، أو” خير الدين خيرالدين خير” الذي يأتي ويذهب كأنه روح من السماء زارت الأرض وعادت من حيث جاءت !!

” طيور العنبر ” يأتي بِعدها الجزء الثالث والأخير “الإسكندرية في غيمة “والتي يختتم بها ” إبراهيم عبد المجيد” ثلاثيته والتي بدأت مع الحرب العالمية الثانية بروايته ” لا أحد ينام في الإسكندرية ” وينتهي  إلى متابعة ذلك المصيرالذي آلت إليها المدينة التي يعشقها ، وتتحول في عقد السبيعنيات إلى مرتع للجماعات السلفية ، ومنصة للفكرالتكفيري ، ووكر للإرهابيين  !!!

لا أحد ينام في الإسكندرية

كل من مّرّ عليها زائرا أو سائحا ، هو لها من العاشقين ، فمابالنا بمن عاش فيها ، ولم يغادرها إلى قاهرة المُعز إلاّ  في مطلع سبعينيات القرن الماضي ، حيث التقينا ، ولم يُباعد الزمن بيننا رغم تّفّرُقْ السُّبُل وتعدد المسارات واختلاف الأماكن والبلدات والبلدان ، فالحبل الُسري ، أو السري ، لم يسمح لنا بالابتعاد رغم الغُربة والاغتراب ، عدنا كما ” طيورالعنبر ” هذا الطائر السحري ، الذي يذهب بعيدا بعيدا ثم يعود ، كما لو أنه لم يُغادر موطنه ، ولم يبرح أرضه ، ولم يغلق باب عشه  !!

هكذا كُنا كجيل ، لكن هكذا ظل ” إبراهيم عبد المجيد “تحديدا ، وعلى وجه القطع ، لم تُغادر الإسكندرية روحه ، ولاعقله ، ولا كيانه ، حتى أن رواياته البديعة التي حاول فيها أن يكون قاهريا لم يستطع أن ينزع عشق الإسكندرية من إبداعه !!

تظل المدينة التي وُلدّ فيها تطارده في كل إبداع جديد له ،ولا يبدو كشأن كل مُطارد مُطلقا للريح قدميه ، ولا مُغلقا صفحات عقله بما تأتي به تلك الرياح  !!

هو المُستسلم لعشقه ، والسر الذي يُدركهُ كل مُستمتع بما يجود به قلمه ، هو أن تلك المدينة التي أخرجها ” الإسكندرالمقدوني ” من صدفة هائلة من البحر ، هي النبع الذي لا ينفد من الحكايات ، حتى تكاد وأنت  تقرأ تلك الثلاثية السكندرية أو غيرها من إبداع ، أن ” إبراهيم ” يملك وحده مفاتيح مخزن الحكايات ، بل بحر الحكايات ، فتعجب أشد العجب ، من أن يأتي بكل هذه الأسرار والأسماء والشوارع والميادين والحكاوي والوقائع وأسماء البارات ، ودور السينما، والحانات ، والعظماء والصعاليك والأحداث وشذاذ الأفاق والموظفين والباشوات والعواطلية وعمال السكك الحديدية، والمثقفين والمشعوذين واللصوص ، والشرفاء   !!

الإسكندرية في الخمسينات
الإسكندرية في الخمسينات

كأنه شيخ ” حارة الإسكندرية ” ، ولا أظن أن هناك من ينافسه من السابقين عليه ، أو ممن كانوا من أبناء جيله ،ينافسونه في هذا المجال !!

فما بالنا بمن يأتي بعده من المُبدعين ، ففي كل أعماله لا تغيب تلك المدينة عن مُخيلته حتى إن واحدة من آخر رواياته ، وهي رواية ” السيكالوب ” والتي جاءت القاهرة مسرحا لأحداثها ، لا تخلو صفحة من صفحاتها من ذكرالإسكندرية والإتيان عَلى حكايتها السحرية المُدهشة ، وهنا أجد تّشابها كبيرا بين عشق الأستاذ ” نجيب محوظ “للقاهرة ، والتي كتب عنها غالبية أعماله الإبداعية ، وعشق “إبراهيم ” للإسكندرية ، وأكاد أَظُن أن ” ميرامار ، والطريق ،والسمان والخريف ” وهي روايات ” محفوظ ” السكندرية ،كُتبت بروح الزائر ، بمثل ما جاءت الأعمال القاهرية من إبداع ” عبدالمجيد ” مثل ” هنا القاهرة ، وقطط العام الفائت ، وقبل أن أنسى أني كنت هنا ، والسايكلوب ، وحتى “العابرة ” آخر رواياته  ” ، القاهرة حاضرة عند ” محفوظ ” والإسكندرية ساكنة في روح ” إبراهيم عبد المجيد ” …

نعود إلى ” طيور العنبر ” وهنا أجد نفسي طارحا تصورا قد يبدو صحيحا ، بأن هناك تّشابُها بين ” المرايا ” عند قيصر الرواية العربية ، و” طيور العنبر ” عند ” إبراهيم ” ،فكلاهما يتشابهان في جمال اللغة ، من حيث البساطة والوضوح والإنسيابية ، مع التسليم طبعا بتفرد اللغة المُترعة بالحكمة عند ” نجيب محفوظ ” والتي لم يصل إليها أحد حتى من أساتذته الكبار ، الحكيم ويحيى حقي ومحمد حسين  هيكل وغيرهم …

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

ما أقصده هنا هو ذلك البناء المعماري للروايتين ، ففي “المرايا ” نجد القاهرة هي المسرح الرئيسي للأحداث ،وأحياء الحسين والدراسة والعباسية والوايلي ودير الملاك ،هي مرتع سنوات الصبا والشباب ، وأن الإطار الزمني للوقائع يبدأ عند ” محفوظ ” مع سنوات العشرينيات من القرن الماضي وحتى العام ١٩٧٠ ، أما أبطال هذا الزمن فهم سعد باشا ومصطفى النحاس والوفد وأحزاب الأقلية وإسماعيل صدقي ، والأحدث تبدأ مع ثورة ١٩ وتنتهي مع سنوات حرب الإستنزاف ، وتحديدا عند العام ١٩٧٠ حيث رحيل عبدالناصر  …

*********

في ” طيور العنبر ” نجد هذا المنهج الروائي البديع والدقيق، ولا مفر من اتخاذ ذلك النهج ، وهنا لا أعرف إذا كان “إبراهيم ” قد قرأ ” المرايا ” عند صدورها في عام ٧٢ ، أم لا.؟؟

وإذا لم يكن قد قرأها ، ففي الغالب أن نبع الخيال والإبداع عند ” الشيخ ، والمٌريد ” هو النبع الأصيل الذي يجود به الله عَلى من منحهم تلك النعمة الإلهية …

في ” طيور العنبر ” نجد تلك العبارة التي تلخص عشق المكان عند ” سليمان عبد الباسط ” أحد أبطال الرواية عقب وداع صديقه النبيل ” خير الدين ” إلى مثواه الأخير ، فمع فقدان هذه الروح ، فّقدّ  إحساسه بالحياة النقية والوديعة ، فلم يرىّ مفرا سوى السير في شوارع وميادين الإسكندرية ليعيد ترميم نفسه المُتعبة وروحه التي هدها الحزن !!!

” فقد قرر أن يمشي في المدينة عَلى غير هُدَى ، يقطعها كلها من كرموز إلى محطة الرمل ثم من محطة الرمل إلى قصر المُنتزه ويعود بعد ذلك إلى الأنفوشي ، ثم يركب الترام حتى الحضرة ويعود مشيا عَلى شاطئ المحمودية حتى يعبر المساكن ، مساكن عمال السكك الحديدية ، إلى كفر عشري والقباري والورديان والمّكس ثم يعود بالترام إلى المدرسة التليانية عابرا مينا البصل ثم يدخل في كرموز من جديد ،الإسكندرية مدينة سهلة ، طويلة حقا ، لكنها مٌستسلمة للمُشاة والركاب ، لسكانها وللمهاجرين من كل الدنيا ” …

هذا عن المسرح ، باتساع الإسكندرية ، ولكننا نلاحظ ، كما ” نجيب محفوظ ” الذي يتردد في صفحات روايته مناطق العباسية الشرقية والوايلي والعباسية الغربية ، نجد أن مناطق غرب الإسكندرية حيث القباري والمنشية والأنفوشي وترعة المحمودية ومينا البصل ومساكن العمال والجمرك والمكس تتردد في ” طيور العنبر ” فهي التي تجمع عمال السكك الحديدية وعائلاتهم وأولادهم وبناتهم ، حتى تبدواللوحة الإنسانية البديعة التي أجاد ” إبراهيم ” في رسمها تحمل أدق التفاصيل وأكثرها حميمية وإنسانية وجمالا، كأنهم أسرة واحدة لا يوجد بينهم غريب ، حتى من يعمل بمهنة العطارة ، أوالبقالة أو صاحب مهنة تقوم عَلى خدمة سكان هذا التجمع ، يرتبطون بهم بأواصر من المحبة والحرص عَلى مشاعرهم وخبايا حياتهم ، ومن أراد أن يفعل من السلوك ما يسيئ أو يُشين ، فليفعله  بعيدا ، حتى لا يُدنس  حُرمة المكان ، كأن سكن العمال له من القدسية والإحترام والمحبة والمهابة  الذي تحمله جنبات مسجد “سيدي المرسي أبو العباس ، أو أبو الدرداء ” أو بيوت أولياء الله الصالحين …

غير أن الإطار الزمني لـ ” المرايا ” عند ” محفوظ ” والتي استمرت لنحو نصف قرن ، من سنة ١٩٢١ وهي بداية سنوات الوعي عند الأستاذ ، وتنتهي عند سنة ٧٠ ، نجدها عند ” عبد المجيد ” هي خمس سنوات فقط ، أو نحو ذلك ، فمع تأميم عبدالناصر لقناة السويس ، في عام ١٩٥٦ ، تبدأ الوقائع والأحداث والتغيرات المصيرية والجذرية !!

من قلب الإسكندرية ، من ميدان المنشية ، صارت مصر ، بل وصار العالم ، مُختلفا أشد الاختلاف ، فقرار التأميم كان ضربة مؤلمة للغرب ، وكان صحوة مُفاجئة لكل شعوب الشرق ، والأصداء الدولية لم تترك مكانا عَلى أركان الأرض الأربعة ، إلاّ ومّستهُ ببعض دروسها ومعانيها الخالدة ، بُرهانا عَلى قدرة الشعوب الفقيرة على استرداد كرامتها وصون سيادتها  !!

إلى مطلع الستينيات ، تجري وقائع تلك الرواية البديعة ،حيث التحولات الكبرى ، التي شملت كل الوطن ، غير أن الإسكندرية ، برج بابل ، التي جمعت كل الأجناس والديانات والمذاهب ، والأفكار والأذواق ، كانت المدينة التي أصابها ما يشبه الزلزال ، فمدينة العالم القديم  ” الكوزموبوليتية ”  ،جاءت كحاصل جمع لما حدث  في مصر كلها ، حتى إن القاهرة لم تشهد ما شهدته من تغيرات وانقلابات وأذواق وأفراح وأحزان كما شهدت مدينة ” الإسكندر المقدوني “وأيقونة مجده الخالدة

لقد خرج عشرات الآلاف من سكانها الأجانب ، إيطاليين وإسبان ، ويونانيين ، وأرمن ويهود ، وإنجليز ، وفرنسيين ،وقبارصة ، وألمان ، وجراكسة ، وأتراك ، وهنود ، وشوام ،وغيرهم وغيرهم

لقد نفض ” برج بابل ” عن كاهله سُكَّانه الأغراب ، وأغلقت الإسكندرية أبوابها عَلى مواطنيها ، بعد أن عادت الطيورالمهاجرة إلى أوكارها !!

كأنه ” موسم الهجرة إلى الشمال ” في أوسع وأكبر تجلياته ،صحيح فقدت الإسكندرية بعض من سحرها وتنوعها وتعدد أجناسها ، لكنه القدر الذي لا مفر منه !!

خرجوا ولم يعودوا …

قرار التأميم واسترجاع الحقوق إلى أصحابها ، كان ” تخليص حق ” لغدر قديم ، حين حّوْلّتْ مدافع الإنجليز ، الإسكندرية، عاصمة العالم القديم ، وسيدة بلدان الشرق ، وعروس البحر الأبيض ، إلى كومة من الأنقاض ، ظهيرة يوم الحادي عشر من يوليو لسنة ١٨٨٢ من الميلاد !! ….

******

وقائع غريبة ، وأحداث جسام ، تركت بصماتها عَلى كل من عايشها ، وحضر وقائعها … )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock