ما أن انفض أول دور انعقاد لأول مجلس نواب مصري له صلاحيات وسلطات حقيقة، في نهاية شهر مارس عام 1882، حتى اضطربت الأحوال في مصر، وتصاعدت الأزمات بين حكومة محمود باشا سامي البارودي وبين الخديوي توفيق، وانتهى الأمر بحصار الإسكندرية واحتلال مصر بعد هزيمة العرابيين.
بدأت الأزمة في مطلع أبريل عام 1882، بعد أن أخبر اللواء طلبة باشا عصمت وزير الحربية أحمد باشا عرابي بتفاصيل مؤامرة لاغتياله هو وعدد من قادة الجيش والوزراء، يدبرها بعض الضباط الشراكسة ممن صدرت بحقهم قررات نقل إلى السودان .
عرض عرابي الأمر على مجلس الوزراء ثم على الخديوي توفيق، فتقرر إحالة أمر تلك المؤامرة إلى مجلس عسكري للتحقيق فيها. تألف المجلس برئاسة الفريق راشد باشا حسني الشركسي، واختاره عرابي لرئاسة المجلس لاعتداله ونزاهته، حتى يكون التحقيق خاليا من أي غرض.
بدأ المجلس التحقيق، وسأل من عُرفت أسماؤهم من المتآمرين، فدلوا على ثمانية عشر ضابطا مشتركين معهم في المؤامرة، فأمر المجلس بالقبض عليهم وجرى استجوابهم، فدل هؤلاء أيضا على غيرهم فقُبض عليهم، حتى بلغ عدد المعتقلين نحو 40 ضابطا وفي مقدمتهم عثمان رفقي باشا وزير الحربية السابق، وخصم عرابي اللدود، وقد سيق مع باقي المقبوض عليهم إلى ثكنة قصر النيل.
الضباط الشراكسة وبداية الفتن
خلال التحقيق اعترف أحد الضباط الشراكسة وهو القائم قام يوسف بك نجاتي بالضلوع في المؤامرة، واقر بأن راتب باشا هو مدبرها، وأنه أغرى باقي الضباط في حضور عثمان باشا رفقي بقتل عرابي.
وفي 30 أبريل أصدر المجلس العسكري حكمه على المتهمين الأربعين بالنفي إلى أقاصي السودان، مع تجريدهم من رتبهم العسكرية والامتيازات والنياشين، وذكر المجلس في حكمه أن الخديوي إسماعيل هو الباعث على هذه الحركة مستعينا بالمرتبات التي تصرف له من خزانة الحكومة، ولذلك تقرر أن يكون للخديوي ولملجس الوزراء النظر في أمر قطع مرتباته.
وعرض المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي»، مجموعة من الآراء حول حقيقة تلك المؤامرة، فقال عنها البعض إنها مؤامرة خيالية، قوامها فزع عرابي وخوفه على حياته، وتحدث آخرون ومنهم المستشرق الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت عن ضلوع الخديوي المخلوع إسماعيل باشا في تدبيرها بغرض إحداث فتنة تشعل البلاد وتعيده إلى عرش مصر، فيما رأى البعض الآخر أن عدد من الضباط الشراكسة أبدوا استيائهم من تخطيهم في الترقيات الأخيرة، وإلحاق بعضهم بالمراكز الخالية بالجيش المصري في السوادن، فاعتقدوا أنهم مستهدفون، وأن هناك محاولة للتنكيل بهم، فبدرت منهم عبارات تهديد ووعيد في لحظات الحنق، فسرها بعض زملائهم من الضباط المصريين بأنها مؤامرة مدبرة لاغتيال عرابي ورجاله.
فريق رابع جزم بأن الضباط الشراكسة دبروا للخلاص من عرابي بالفعل لإحداث فتنة تسمح بالتدخل الأجنبي وتعيد صلاحيات الخديوي توفيق إلى ما كانت عليه قبل مظاهرة عابدين، ودعم هذا الرأي ودلل عليه المؤرخ محمود الخفيف.
الخفيف قال في كتابه «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» إن المؤامرة بدأت بتذمُّر الضُّبّاط الشراكسة في الجيش مما اتخذه عرابي من إجراءات الترقية، زاعمين أنها إجراءات ظالمة تنطوي على الكيد لهم والانتقام منهم، لا عن جريرة ارتكبوها ولكن لأنهم ليسوا مصريين، ومما غاظهم كما زعموا إلحاق بعضهم بالمناصب الخالية بالجيش المصري في السودان.
الإنجليز والصيد في الماء العكر
واتهم الخفيف الإنجليز بالاصطياد في الماء العكر، وتحريض الضباط الشراكسة على عرابي والوزارة الوطنية، «مما يميل بنا إلى الاعتقاد في صحة هذا الرأي ما رمى به الإنجليزُ الوزارةَ الوطنية من التُّهم على ألسنة صحفهم ومندوبيهم في مصر، وبخاصة ما ذكروه من إفك حول سيطرة الجيش على كل شيء.. والواقع أنه لم يكن فيما فعل عرابي إلا ما يقتضيه تطبيق القوانين العسكرية الجديدة التي وافقت حكومة شريف باشا السالفة ».
ويدلل الخفيف على وجهة نظره بأن هناك من نفخ في النار ليشعل الفتن، بأن قرارات نقل الضباط إلى السودان شملت ستة وثمانين من المصريين وتسعة فقط من الشراكسة فحسب وستة من الأتراك، ويتسأل «أي معنى للكيد والانتقام في هذا؟».
ونقل الخفيف ما كتبه الشيخ محمد عبده إلى صديقه مستر بلنت ليبرئ ساحة عرابي وحكومة البارودي من التهم التي حاول البعض إلحقاها بهما، «أما عن ترقية الضباط التي لا تزال تلغط بها الصحف الأوربية فاسمح لي أن أشرح لك الحقائق، فأول كل شيء إن هذه الترقيات ليست من عمل عرابي باشا وحده ولا كانت رشوة يقصد بها اجتذاب الضبّاط نحو عرابي، فإنها كانت نتيجة للقوانين العسكرية الجديدة التي تقضي بأن يحال على المعاش من يبلغون سنًّا معينة ومن يصابون بالمرض أو التقاعد أو العجز، وقد بدأ تنفيذ هذا القانون من عهد شريف باشا ووضع في قائمة الإحالة على المعاش ثمانية وخمسون وخمسمائة ضابط، ثم أُرسل ستة وتسعين إلى حدود الحبشة وإلى زيلع وأماكن أخرى، وأخرج من الجيش نحو مائة ضابط ألحقوا بالوظائف المدنية، ويبلغ عدد هؤلاء جميعًا أربعة وخمسين وسبعمائة ضابط، فكان من الطبيعي إذن أن تُجرى ترقيات لملء المناصب الخالية، ولا يزال في الجيش خمسون منصبًا يحتفظ بها لخريجي المدرسة الحربية»، يقول محمد عبده في كتابه.
إذن عرابي لم يتجاوز القانون ولم يكن مثيرا للفتن كما زعموا، فالرجل لم يميز بين الضباط المصريين وزملائهم الشراكسة والأتراك، بحسب ما قدم الخفيف من دلائل، ومع ذلك تأمر عليه هؤلاء وخططوا لاغتياله، ومع ذلك عمل عرابي على إنفاذ القانون وأحالهم إلى المجلس العسكري بحسب ما تقتضي القوانين واللوائح العسكرية.
استغل قنصلا إنجلترا وفرنسا وأشياعهما الفرصة وعرضا بعرابي وبالحكومة بدعوى أنها «قدمت رشوة إلى رجالها في الجيش»، وأحالت الضباط الشراكة إلى محاكمة ظالمة غاشمة، وكتبت بعض أبواقهم في الصحافة أن المؤامرة ما هي إلا وهم في رأس عرابي وإن الغرض منها لم يكن سوى التخلص من الشراكسة بأي وسيلة، وإن المحكمة العسكرية التي فصلت في الأمر كانت جلساتها سرية فكانت تعمل بما يشير به عرابي، لذلك جاء حكمها في منتهى القسوة، «ولم يكفهم ذلك حتى أدعوا أن عرابيًّا كان يذهب إلى السجن فيعذب هؤلاء الشراكسة أيام المحاكمة ويشفي غليل نفسه بمنظر ذلتهم وخضوعهم»، يقول الخفيف.
مصريون يشايعون الإنجليز
ويعيب الخفيف على بعض المؤرخين المصريين الذين أخ`وا هذا الكلام المرسل على عواهنه وشايعوا الإنجليز في رأيهم بشأن عرابي كما شايعوهم في غير هذا من الآراء، «الأمر الذي يؤلم النفوس أكبر الألم، فليس يعنينا ما يقول خصوم الوطن وخصوم عرابي، ولكنا نضيق كل الضيق أن تجوز الأباطيل على المصريين في رجل منهم، ومن هنا ضاع تاريخ عرابي وأنكره بنو قومه، ونجح الاحتلال في مآربه فساق الجيل الذي خلف جيل عرابي كما يحب، فأضاف هؤلاء إلى عيب خضوعهم للدخيل فضيحة مشايعته فيما يسبهم به في شخص بَطَل من أبطالهم!».
أما مستر بلنت فأشار في كتابه «التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر» إلى استخدام الإنجليز وأشياعهم في القاهرة لتلك الحادثة للتعريض بعرابي وزرع الفتن بين الحكومة والخديوي ويقول: «في تلك الأثناء بلغت الحوادث في مصر مبلغًا عظيمًا من الحرج بسبب المؤامرة الشركسية التي وصلت أنباؤها لندن في الأسبوع الثالث من أبريل، ولم أُعِرْها أول الأمر كثيرًا من الاهتمام، وأخذتها على أنها إحدى الشائعات التي كانت تذاع يومئذ، ولكن سرعان ما أصبحت ذات خطر كبير لا من حيث هي في ذاتها، ولكن بوجه خاص لأنها أمدّت رجالنا السياسيين بالفرصة التي طالما ترقبوها، لكي يوقعوا الخلاف الصريح بين الخديوي توفيق ووزرائه، وكان مالت (القنصل العام) يومئذ قد خضع تمام الخضوع لأوكلن كولفن المراقب المالى الإنجليزى، وصار منذ ذلك الحين يهتدي في حركاته حتى النهاية بما يعرض كولفن من آرائه الإنجليزية الهندية».
عُرض قرار المحكمة العسكرية على الخديوي فأسقط في يده، أيوافق على هذا الحكم فيظهر أمام الإنجليز أنه يظاهر وزراءه فيخسر الذين يظاهرونه، أم يرفض التصديق عليه فيُرضي الإنجليز ويقضي على كل أمل في إرضاء عواطف الوطنيين؟
استدعى توفيق قنصلي فرنسا وإنجلترا واستشارهما في الأمر، فأشارا عليه بالإ يقر الحكم، وكان من حقه تخفيفه وتعديله دون الرجوع إلى الوزراة، «لكن ما جبل عليه من التردد والضعف جعله يستشيرهما فيما لا دخل لهما فيه، واستدعى باقي قناصل الدول العظمى، وطلب إليهم معونة الدول، فأثار ذلك سخط العرابيين، وزاد سخطهم أنه شرع أيضا في عرض الحكم على السلطان بحجة أن بعض المحكوم عليهم نالوا منه الرتب العسكرية، فعد العرابيون ذلك تنازل عن الامتيازات التي نالتها مصر في استقلالها بشئونها الداخلية»، يكمل الرافعي.
وفي 6 مايو عرض الوزراء على الخديوي حسما للخلاف ومنعا لتدخل السلطان أن يصدر أمره بتعديل الحكم وأن يستبدل به النفي خارج القطر، على أن يختار المحكوم عليهم الجهة التي يريدونها، لكن الخديوي رفض هذا الحل، بحجة أن الأمر عرض على السلطان، ثم عرض الخلاف مجددا على قناصل الدول الأجنبية، فأشاور عليه بتعديله، فأصدر قراره بنفي المحكوم عليهم أنى شاءوا خارج القطر المصري مع عدم حرمانهم رتبهم ونياشينهم.
لم يُحسم الخلاف بين الخديوي والوزراء، فقد ذهب البارودي إلى توفيق ووجه له اللوم على نزوله على إرادة القناصل الأجانب، وإهماله رأي الحكومة، وطلب منه إضافة عقوبة التجريد من الرتب العسكرية إلى أمر التعديل، فاجتمع الخديوي مرة أخرى بالقناصل الأجانب لاستشارتهم، وانتهى الاجتماع بالإصرار على قراره السابق، فهاج الوزارء واجتمعوا في 10 مايو اجتماعا مطولا، دام نحو 8 ساعات انتهوا فيه إلى وجوب انعقاد مجلس النواب للنظر في الخلاف بينهم وبين الخديوي.
بدا على الحكومة معارضتها الشديدة للخديوي، خلال اجتماعها، حيث أنكروا عليه حق العفو، ولما وصل الأمر إلى توفيق صرح أنه لا يطيق استمرار تلك الحالة التي تمس بامتيازاته، ولما طال الاجتماع قلق قناصل الدول الأجنبية، وأوجسوا خيفة من تفاقم الخلاف، وجاءوا أثناء الاجتماع وسألوا عما إذا كان ثمة خطر يتهدد حياة الرعايا الأوربيين، فأبلغهم مصطفى باشا فهمي وزير الخارجية بأن لا شيء يتهددهم، وأعلمهم باستحالة الاتفاق مع الخديوي، وأن الحكومة تنوي دعوة مجلس النواب للانعقاد للنظر في الخلاف القائم.
ويرى الرافعي في كتابه أن قرار دعوة البرلمان للانعقاد كان له خطورته، «عرض الخلاف على مجلس النواب مع إصرار الخديوي على موقفه معناه التمهيد لخلعه، وهذا ما كان زعماء العرابيين يتحدثون به في مجالسهم».
بحسب أحكام الدستور «اللائحة الأساسية»، فإن دعوة مجلس النواب إلى الاجتماع في غير دور الانعقاد العادي، يكون بمرسوم من الخديوي، وعليه أرسل مجلس الوزراء حسين باشا الدرمللي وكيل الداخلية إلى توفيق لإبلاغه بالقرار، لكن الخديوي رفض عقد المجلس، فدعت الوزارة النواب إلى الاجتماع بواسطة المديرين.
النواب على خط الأزمة
لبى أكثر النواب الدعوة، فجاءوا للقاهرة وتعددت اجتماعاتهم الخاصة، وفي 12 مايو 1882 اجتمعوا في مجلس البارودي ومعهم بعض قادة الجيش، وتحدثوا في أمر الأزمة، وكان فريق من النواب يميل إلى حسم الخلاف بالحسنى، إذ رأوا أن استمرار الشقاق يهدد البلاد بأخطار جمة، ولم يوافق النواب على عقد المجلس بصفة رسمية لعدم مشروعية الاجتماع غير العادي إلا بأمر الخديوي.
واستقر أمر عدد كبير من النواب إلى إيفاد محمد باشا سلطان رئيس البرلمان وسليمان أباظة باشا ومحم بك الصيرفي لمقابلة الخديوي، وعرضوا عليه تأليف وزارة جديدة مع بقاء عرابي باشا وزيرا للحربية، ثم اجتمع النواب في منزل سلطان باشا وأظهر الوزراء استعدادهم للاستقالة بشرط أن يتكفل الخديوي بحفظ النظام.
وفي 14 مايو زار وفد من النواب الخديوي وعرضوا عليه استقالة وزراة البارودي وبقاء الوزراء في مناصبهم، وأشاروا عليه بإسناد الوزراة إلى مصطفى باشا فهمي وزير الخارجية فوعدهم توفيق بالجواب بعد أن يفكر في الأمر، وكلفهم بالرجوع إليه في مساء ذات اليوم، فجاء أعضاء الوفد في الموعد المحدد، وكان الخديوي كعادته قابل قنصلي فرنسا وإنجلترا ثم التقى بباقي القناصل وشاورهم في الأمر، إلا أن مصطفى باشا اعتذر عن قبول رئاسة الوزراء.
وفي 15 مايو قابل الخديوي سلطان باشا ومعه وفد من النواب، والتمس الوفد من الخديوي الإبقاء على الوزراة، لكنه رفض، فذهبوا إليه مرة أخرى في المساء واستعطفوه أن يقبل باستمرار وزراة الباوردي حلا للأزمة فوافق، وتوجهوا إلى بيت البارودي وأبغلوه بأن توفيق قبل باستمرار الوزارة في عملها حلا للأزمة، فذهبوا جميعا إلى السرايا وتم تسوية الخلاف مؤقتا ببقاء الوزراة في عملها مع تعديل حكم المجلس العسكري طبقا لما رآه الخديوي، ونشرت الوقائع المصرية القرار في 16 مايو 1882.
وطالب القرار من الجرائد العربية التي تطبع في القطر المصري نشر نص القرار دون أن تخوض في التفاصيل «خوفا من الوقوع فيما يخالف الحقيقة ويوجب تشويش الأفكار».
وأنذرت الوزراة جريدة الطائف لصاحبها السيد عبد الله نديم إنذارا أول لـ«خروجها عن جادة الاعتدال خلال هذا الحادث»، ثم صدر قرار بتعطيلها نهائيا في 17 مايو 1882، كما صدر قرار آخر بتعطيل جريدة المفيد لما كانت تنشر من «مقالات وأنباء مثيرة للخواطر»، وصدر قرار ثالث بإنذار جريدة القسطاس.
وبعد تسوية الخلاف، نشرت الوقائع الرسمية صورة الإرادة الخديوية بتعديل حكم المجلس العسكري، وتخفيف العقوبات الواردة به بإخراج المحكوم عليهم وإبعادهم عن القطر المصري وصرف النظر عن باقي العقوبات.
نار تحت الرماد
انتهت الأزمة مؤقتا، لكن توابعها لم تنته، فالخديوي ضمر في نفسه الانتقام من العرابيين الذين تحدوا قراره وإرادته بشكل معلن، ودعوا مجلس النواب إلى الانعقاد وتجاهلوا سلطاته الدستورية، ما عده إعلان ثورة على حكمه، وزاد من الأمر سوء ما علمه الخديوي أن الضباط ومن خلفهم الوزارة جاهروا خلال اجتماعهم برغبتهم في خلعه، وتعيين الأمير حليم باشا بن محمد علي خلفا له، خاصة أن الأخير كان يرى أنه أحق بالحكم من إسماعيل ثم من ابنه توفيق.
وإنفاذ للمرسوم الخديوي سافر الضباط المحكوم عليهم إلى الآستانة، واستقبلتهم الحكومة التركية وأكرمتهم وقررت لهم مرتبات شهرية، وظل هؤلاء هناك حتى وقع الاحتلال الإنجليزي فأصدر توفيق أمرا بعودتهم جميعا إلى مصر.
وفي الوقت الذي اشتد فيه الخلاف بين الخديوي والوزارة، قررت إنجلترا وفرنسا إرسال أسطوليهما إلى الإسكندرية، إذ عرض اللورد جرانفيل وزير خارجية بريطانيا الفكرة يوم 12 مايو على سفير فرنسا في لندن المسيو تيسو، باعتبار أن ما يحدث في مصر ثورة تضر بمصالح البلدين ورعاياهما، وصادفت الفكرة قبول الحكومة الفرنسية، وكان ذلك القرار مقدمة التدخل الأجنبي المسلح في مصر.
وفي مساء الأثنين 15 مايو قابل السير إداورد مالت قنصل انجلترا العام والمسيو سنكفكس قنصل فرنسا الخديوي مجتمعين وأبلغاه رسميا بأن الأسطولين سيصلان إلى مياه الإسكندرية صباح الأربعاء 17 مايو.
وأذاع القنصلان مشورا بقرب قدوم الأسطولين، «بصفة ودية وبطريق المسالمة» وبلغ ذلك البارودي باشا رئيس الحكومة فأرسل إلى محافظ الإسكندرية تلغرافا يخبره فيه رسميا بقرب حضور مراكب حربية أجنبية بطريقة سلمية، «أرجو ألا يحصل بجهتكم توهم وتشويش في الأفكار، إن المودة والألفة بين حكومتنا السنية والدول المتحابة أكيدة».
بدأت البوارج الحربية تصل مياه الإسكندرية صباح يوم الجمعة 19 مايو 1882، وكانت قطع الأسطول الإنجليزي بقيادة الأميرال السير بوشان سيمور، أما القطع الفرنسية فكانت بقيادة الأميرال كونراد، وأطلقت المدافع التحية لقدومها باعتبارها جاءت «بصفة ودية». وفي اليوم التالي نزل القائدان إلى البر مرتديين ملابسهما الرسمية، وزارا محافظ الإسكندرية في مكتبه فرد لهما الزيارة تبعا للتقاليد.
وتوالت الأحداث بعد ذلك وتحولت لغة إنجلترا وفرنسا إلى النقيض، وأغلقت صفحة «الودية والمسالمة»، لتبدأ صفحة «التهديد والوعيد وفرض الشروط المجحفة»، والتي لما تقبلها الحكومة وانتهى الأمر باحتلال مصر كما سنرى في الحلقة القادمة.
…………………………………………………………………………..
المراجع
«الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» – عبد الرحمن الرافعي
«أحمد عرابي الزعيم المُفْتَرَى عليه» – محمود الخفيف
«التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر» – المستشرقالإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت